رؤية تشكيلية جديدة لـ«مزاج المصريين»

رضا خليل يرصد في لوحاته أنماطاً نفسية وإنسانية متنوعة

أحد مشاهد فيلم «شحاذون ونبلاء» للفنان رضا خليل
أحد مشاهد فيلم «شحاذون ونبلاء» للفنان رضا خليل
TT

رؤية تشكيلية جديدة لـ«مزاج المصريين»

أحد مشاهد فيلم «شحاذون ونبلاء» للفنان رضا خليل
أحد مشاهد فيلم «شحاذون ونبلاء» للفنان رضا خليل

في أحد مشاهد فيلم «شحاذون ونبلاء»؛ الذي قدمت فيه المخرجة المصرية الراحلة أسماء البكري، بانوراما للمجتمع المصري خلال منتصف حقبة الأربعينات، من القرن الماضي، يعتلي بطل العمل «جوهر» سطح أحد المباني الأثرية ليظهر كأنه فوق المدينة والبشر، ومن خلفه تظهر مآذن القاهرة، والقباب والبيوت العريقة، أخذاً في التدخين بنهم، ومخرجاً دخانه تجاه السماء، في دلالة على فلسفته للحياة حيث البحث عن «المزاج» والفوز براحة البال.
وهو المشهد الذي أعاده تشكيلياً الفنان رضا خليل، ليكون مضموناً لإحدى لوحات معرضه «المزاج»، المقام في «أرت كورنر غاليري» بالقاهرة، حتى ٢٦ فبراير (شباط) الجاري، الذي يطرح فيه فكرة الحفاظ على المزاج في الحياة، محاولاً رصد وتوثيق «مزاج المصريين» في مختلف الحالات النفسية والإنسانية، ومتنقلاً بين أمزجة البيئات المختلفة في مصر.
المزاج في التعبير الشعبي المصري هو «الكيف أو الهوى»، لكن صاحب المعرض ينتقل من هذا المعنى الضيق إلى معانٍ أوسع وأشمل، مقدماً أنماطاً مختلفة وصوراً متعددة، يؤكد بها أن المزاج هو كل ما يؤثر في أفعال الإنسان.
يشرح الفنان رضا خليل، لـ«الشرق الأوسط»، فكرة معرضه قائلاً: «يتحكم المزاج في اتجاهات الناس، بل أراه يتحكم في حياة الإنسان، ليس بمعنى أو مفهوم واحد، فإذا لم يكن لدي مزاج كيف يمكن لي أن أرسم، وكيف للمهندس أن يُصمم بناية جيدة، وكيف للكاتب أن يبدع في كتاباته، فمن لديه مشكلات يؤثر ذلك على حالته المزاجية، وبالتالي تتأثر حياته وعمله، بما يعني أن العلاقة بالمكان والناس من حولنا تبقى رهينة حالتنا المزاجية».
ويتابع: «لا يمكن أن نختزل المزاج مثلما يفعل البعض فيرونه مرادفاً للإدمان، أو يراه آخرون مقصوراً على المأكل أو المشرب، فهذه معانٍ ضيقة للكلمة، فالمزاج ثقافة، وهو يعني الشغف والاهتمام والإخلاص، ولكل منا ثقافة ومزاج مختلف واتجاهات يبحث عنها، بل إن حروباً اندلعت بين دول الغرب والشرق قديماً عرفت تاريخياً بحروب البن والتوابل والأفيون من أجل احتكارها، وهي التي تصب جميعها في صالح المزاج».
قبل 35 عاماً لمس الفنان عن قرب على مقهى شعبي بسيط كان يحمل اسم «الشيمي»، في منطقة الأزهر التاريخية، أنماطاً من المصريين البسطاء في رحلتهم للبحث عن المزاج في هذا المكان، وهي الإشارة الأولى التي ألمحت له أن هناك مَن يربط السعادة بتوفر المزاج، سواء كان ذلك المزاج في احتساء الشاي أو القهوة أو تدخين الشيشة، وهناك من يتخطى ذلك المفهوم بربط مزاجه بإدمان المواد المخدرة، ورغم ذلك فهم بشر وراءهم عشرات القصص الإنسانية، إلا أن المزاج هنا تمكن من دفعهم بقوة نحو الاختيار الخاطئ.
لذا تنعكس المقاهي بقوة في أعمال المعرض، حيث ينقل الفنان أكثر من مشهد فيها، عارضاً ملامح من هذا المكان الذي يأوي إليه كثيرون سعياً من جانبهم لتحصيل شعور السعادة وضبط مزاجهم، يقول: «المقاهي خصوصاً الشعبي منها نموذج قوي مرتبط بالمزاج، وقد عاصرت على مجتمع القهوة بشر كثيرون يشكلون ثقافات متنوعة ورأيت كيف يتحكم المزاج في اتجاهاتهم بين الفرح والحزن والغضب، فالمقاهي أعتبرها مجتمعاً يشكل ثقافة عريقة، كما أن المقاهي الثقافية التي كانت تنتشر في القاهرة قديماً، كان المزاج فيها يوجّه مرتاديها نحو الإبداع».
يعبّر خليل أيضاً عن المزاج الجمعي والفردي، فهو يعبّر عن مجموعات من المصريين وهم يلتفون حول «المهرج» الذي بإمكانه القدرة على إسعادهم بأبسط الأشياء، وحالة السعادة هنا هي المرادف للمزاج.
تعكس لوحات أخرى كيف يختلف المزاج من بيئة إلى أخرى داخل مصر، فلكل منطقة ثقافتها ومزاجها، فكوب الشاي في صعيد مصر يُشرب أسود ثقيلاً مغلياً كثير السكر، بخلاف القاهرة والوجه البحري، وكذلك المزاج في المدن السياحية يختلف عنه في سيناء والنوبة.

كما تنقل بعض اللوحات ارتباط المزاج بالتغير في البيئة الاجتماعية، مثل اتجاه السيدات لتدخين الشيشة بحثاً عن ضبط مزاجهن.
يتواصل التعبير عن البيئات المصرية في اللوحات التي يستضيفها المعرض في جانب منه للفنانة حنان عبد الله، زوجة الفنان رضا خليل، التي تعبّر من خلالها عن نوع ونمط من الحياة وأمزجة أخرى من بيئات مصرية، حيث تعبر عن حياة الطوارق والصحراء، والبيئات الريفية البسيطة وعناصرها وطقوسها اليومية، وكيف يشكل المزاج ثقافة ترتبط أحياناً بالملابس الفلكلورية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».