الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي حرصا على الاجتماع بعيداً عن الأعين

في الذكرى الـ77 للقاء التاريخي بين الزعيمين: روزفلت دخن سيجارتين في المصعد... وطائرة عسكرية تعيد حقيبة الملك المفقودة

الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت ويبدو بينهما العقيد وليام إيدي (جاثيا) والأدميرال وليام ليهي (الشرق الأوسط)
الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت ويبدو بينهما العقيد وليام إيدي (جاثيا) والأدميرال وليام ليهي (الشرق الأوسط)
TT

الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي حرصا على الاجتماع بعيداً عن الأعين

الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت ويبدو بينهما العقيد وليام إيدي (جاثيا) والأدميرال وليام ليهي (الشرق الأوسط)
الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت ويبدو بينهما العقيد وليام إيدي (جاثيا) والأدميرال وليام ليهي (الشرق الأوسط)

لا يمر يوم 14 فبراير (شباط) إلا ويذكر السعوديون والأميركيون اللقاء الأول الذي جمع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في البحيرات المرة بقناة السويس، ذلك اللقاء التاريخي الذي عُرف بقمة أو لقاء كوينسى نسبةً إلى البارجة «يو إس إس كوينسي» التي عُقد على متنها اللقاء، والذي عليه ترسخت العلاقات السعودية - الأميركية حتى هذا اليوم، لكن قبل ذلك اللقاء الشهير كان الملك عبد العزيز قد استردّ في أبريل (نيسان) 1913 الأحساء من العثمانيين في خطوة استباقية لقطع الطريق على أي اتفاق بريطاني - عثماني لتقاسم النفوذ في الجزيرة العربية وعندما تم توقيع الاتفاقية الأنجلوعثمانية في أواخر يوليو (تموز) 1913 والتي تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن ساحل الخليج العربي لبريطانيا.
كان الملك عبد العزيز قد فرض نفسه على خريطة المنطقة ووضع القوى المتنافسة على النفوذ أمام الأمر الواقع مما يبين بعد نظره ودهائه السياسي، حيث عرف مناورات ومؤامرات بريطانيا، وكان حريصاً على سيادة بلاده، وهذا ما جعله يُظهر الصداقة باستمرار ويحاول تلافي المواجهة رغم نفوره من السياسات البريطانية. كما كان يراقب -وقبل نشوب الحرب العالمية الثانية- الاهتمام التجاري الأميركي بالمنطقة رغم أنه لم يكن لدى الولايات المتحدة الوسائل السياسية الفعلية وكانت تنظر إلى الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ بريطاني بالدرجة الأولى، ومع ذلك أبقى خياراته السياسية مفتوحة.
وبينما كان الملك عبد العزيز يضع أسس سياسته الخارجية، أبدى حرصه على تنوع صلاته بمختلف الدول بما يعزز المصالح السعودية، ولا يؤثر عليها سلباً، وبما يحافظ على استقلالية القرار السعودي. فبعد دخوله الحجاز عام 1924 بدأ الاتصال بالدول المؤثرة للاعتراف بالمملكة الوليدة، ليكون أول اعتراف من روسيا عام 1926، ثم واصلت الدول الأوروبية اعترافها بالدولة السعودية.
كانت رؤية الملك المؤسس بعيدة المدى وأدرك بثاقب بصيرته وقراءته للواقع السياسي أن الولايات المتحدة سيكون لها دور مؤثر على المسرح العالمي، حاول الحصول على اعتراف الولايات المتحدة بدولته وتأسيس علاقات معها، إلا أن أميركا لم تكن راغبة حينذاك في إقامة تلك العلاقة، إلا أنها راقبت تحركات عبد العزيز الدولية وعلاقاته الخارجية واتفاقاته التجارية وأبرزها اتفاقه مع ألمانيا عام 1929، والتي بدأت عدة تحركات لإقناع أميركا للاعتراف بالدولة السعودية، ساعد في ذلك بعض المعتمدين الأميركيين في المنطقة، مثل نائب القنصل الأميركي في عدن وآخرين ممن يرتبطون بمصالح تجارية مع الشركات الأميركية كعبد الله فلبي وغيره، في محاولة للتأثير على القرار الأميركي.
كلفت الحكومة الأميركية معاون الملحق التجاري في الإسكندرية رالف تشيزبروف، بزيارة السعودية لاستكشاف الوضع. زار تشيزبروف جدة في صيف عام 1930 وأعدّ تقريراً بعنوان «المصادر الاقتصادية والأنشطة التجارية لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها». أوضح التقرير أن العلاقات التجارية بين البلدين يُتوقع لها النمو والازدهار، مما شجّع الحكومة الأميركية حينها على التحرك نحو تأسيس علاقات دبلوماسية بين البلدين، واعترفت الولايات المتحدة بالمملكة في عام 1931. وفي عام 1933 منحت الحكومة السعودية امتياز التنقيب عن النفط لشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (سوكال)، ووقَّع الاتفاق في قصر خزام بجدة وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان ممثلاً للحكومة السعودية والمحامي لويد هاميلتون ممثلاً عن شركة «سوكال»، ولم يبدأ الإنتاج التجاري إلا في عام 1938.
في عام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية، ليعلن الملك عبد العزيز الحياد رغم علاقاته حينذاك ببريطانيا ووجودها العسكري على حدوده، وعلاقاته الدبلوماسية بألمانيا أيضاً. حينئذ طرأت تغيرات كبيرة على السياسة الأميركية، إذ بدأت أميركا تضع نصب أعينها مهمة الحلول بدلاً من بريطانيا، أو على الأقل وضع مواطئ أقدام لها في المنطقة. ساعد على تلك الرؤية تحول دور النفط من سلعة تجارية إلى سلعة استراتيجية لها أهميتها في السياسة العالمية، وقبل عام 1942 لم يكن لدى الحكومة الأميركية الاهتمام الكبير في السعودية ولم يتم أي لقاء رسمي رفيع المستوى بين مسؤولي البلدين، وكانت شركات النفط الأميركية العاملة في السعودية تضغط على الحكومة الأميركية لحماية مصالحها ودعم المملكة، بما يعزز الوجود الأميركي في المنطقة ويوفر تدفقات النفط للولايات المتحدة. في عام 1943 بدأ استخراج النفط يتزايد بعد أن كان قد انخفض بسبب الحرب، وتولت «أرامكو» تزويد مشتقات النفط للقوات الأميركية المشاركة في الحرب، وقُدِّرت كمية النفط المستخرج ذلك العام بخمسة ملايين برميل.
ازداد الاهتمام بالسعودية وملكها عبد العزيز بن عبد الرحمن بعد أن تنبّه المستشارون والمخططون الأميركيون إلى أن المملكة قيمة استراتيجية محتملة للولايات المتحدة، كما رأوا فيها عوناً لحل بعض المشكلات التي كان الرئيس روزفلت يتوقع أن تحدث في المنطقة بعد الحرب. قدمت أميركا مساعدات للحكومة السعودية ضمن برنامج الإعارة والتأجير وبلغت هذه المساعدات وفق تقرير لمجلس الشيوخ بعد انتهاء الحرب 99 مليون دولار.
في عام 1942عيّنت أميركا قائماً بالأعمال في جدة بعد أن كانت مفوضيتها في القاهرة هي المسؤولة عن العلاقات. تسارعت الاتصالات الرسمية واستقبل الملك عبد العزيز عدداً من المبعوثين الأميركيين، وبدأت المملكة العربية السعودية تحتل أهمية استراتيجية في السياسة الخارجية الأميركية، تزامن ذلك مع بدء الولايات المتحدة كسر طوق العزلة ورغبتها في التأثير بأحداث العالم ومساندة الشركات والاستثمارات الأميركية، ووجّه الرئيس روزفلت الدعوة إلى الملك عبد العزيز لزيارة الولايات المتحدة، فاعتذر وأوفد ابنيه الأميرين فيصل وخالد اللذين وصلا إلى أميركا في سبتمبر (أيلول) 1943 وأقاما في دار الضيافة «بلير هاوس»، ودعا الرئيس الأميركي إلى مأدبة في البيت الأبيض تكريماً للأميرين حضرها نائب الرئيس هنري ويليس، ووزير الخارجية كورديل هيل، وكبار أركان الإدارة وأعضاء الكونغرس، مما يؤكد الاهتمام الأميركي المتزايد بالمملكة.
في عام 1944 عيّنت الولايات المتحدة ويليام إيدي على رأس مفوضيتها في جدة، كان إيدي عقيداً بحرياً سبق أن شارك في الحربين العالمية الأولى والثانية. إيدي المولود في صيدا لأبوين يعملان في الإرساليات التبشيرية، نشأ يتحدث اللغة العربية ويعرف الثقافة والعادات العربية. بعد أن أكمل دراسته في جامعة برينستون العريقة، التحق بالبحرية وتدرج في الخدمة الحكومية. بعد تعيينه في جدة، أصبح إيدي من أبرز مهندسي العلاقات السعودية - الأميركية وأحد شهود اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت.
إيدي الذي توفي في بيروت عام 1962، أصدر كتاباً نُشر في عام 1954 بعنوان «فرانكلين روزفلت يجتمع بابن سعود»، روى فيه خلفية التحضيرات للقاء، وكتب إيدي: «كنا في جدة تحت تأثير كثير من الضغوط خلال شهر فبراير 1945، حيث أُبلغت بأن الرئيس روزفلت في طريق عودته من مؤتمر يالطا -هي الاتفاقية الموقّعة بين الاتحاد السوفياتي وبريطانيا والولايات المتحدة التي ناقشت كيفية تقسيم ألمانيا ومحاكمة أعضاء الحزب النازي وتقديمهم كمجرمي حرب- يريد لقاء الملك عبد العزيز على ظهر بارجة أميركية في البحيرات المرة بقناة السويس، وطُلب مني أن أرتّب لذلك اللقاء، وكانت السرّية أهم الطلبات لحماية أمن الرئيس في وقت كانت الحرب مستعرة وألمانيا تقصف بطائراتها القاهرة والسويس، ولا يمكن تخيل شعور الألمان إذا استهدفوا الرئيس الأميركي والملك عبد العزيز على ظهر البارجة، لم يعرف عن الخطة سوى خمسة أشخاص في السعودية، هم: الملك عبد العزيز ويوسف ياسين (وزير الخارجية بالنيابة) وموظف الشفرة في المفوضية، وزوجتي وأنا».
أُعدِّت الترتيبات وأبحرت البارجة «يو إس إس ميرفي» من جدة وعلى ظهرها الملك عبد العزيز ومرافقيه الذين وصل عددهم إلى (48) شخصاً أبرزهم: الأمراء عبد الله بن عبد الرحمن، ومحمد ومنصور ابنا الملك عبد العزيز، والوزراء عبد الله السليمان ويوسف ياسين وحافظ وهبة، ومستشار الملك بشير السعداوي، وطبيبه رشاد فرعون، ورئيس الخاصة الملكية عبد الرحمن الطبيشي، إضافةً إلى المرافقين الآخرين والخويا والطباخين والخدم. استغرقت الرحلة من جدة إلى السويس ليلتين، ووصف إيدي برنامج وتعامل الملك مع مرافقيه وطاقم السفينة.
في العاشرة من صباح يوم 14 فبراير 1945م، وصلت البارجة «ميرفي» إلى جوار «يو إس إس كوينسي» التي تحمل الرئيس روزفلت، ترجل الملك عبد العزيز يرافقه الأمراء الثلاثة والوزيران ياسين ووهبة، وعبروا الجسر بين السفينتين لمقابلة روزفلت الذي كان يجلس على كرسيه المتحرك على متن «كوينسي». تحدث الزعيمان لمدة ساعة وربع قبل أن يتوجها لتناول الغداء في الساعة الحادية عشرة والنصف. «وقتئذ طلب مني الأدميرال ليهي (رئيس الأركان والمستشار العسكري للرئيس) أن أرافق الملك عبد العزيز في أحد المصاعد إلى غرفة الطعام، وسيرافق ليهي روزفلت في المصعد الآخر.
وصلت مع الملك إلى جناح الرئيس ولكن روزفلت لم يظهر! أخبرني ليهي لاحقاً أن الرئيس أوقف المصعد ليدخن سيجارتين بعيداً عن الملك عبد العزيز، وكان روزفلت مدخناً شرهاً ومع ذلك لم يدخن مطلقاً في أثناء لقائه مع الملك عبد العزيز تقديراً منه للملك». منذ أن وطأت قدما الملك (كوينسي) والتقى روزفلت وجهاً لوجه حدثت الألفة بين الرجلين وبدأ كلاهما بالبحث عن أوجه التشابه لا الاختلاف. كان التركيز على ما يجمع لا ما يفرق، رغم الفارق الثقافي كانت للقلوب أحكامها الخاصة. كانت كاريزما ودبلوماسية الرجلين حاضرة. كان الرئيس قادماً للقاء الملك لأسباب تتعلق بالدولة ومستقبل أميركا والمملكة، ولا بد أن يختلي القائدان لبحث مستقبل وعلاقات بلديهما بشكل صريح وشفاف».
«بعد الغداء انحصر اللقاء على الزعيمين فقط بحضوري ويوسف ياسين كمترجمين. استمرت المحادثات إلى الثالثة والنصف عصراً وهذا يعني أن إجمالي مدة اللقاء بين الرئيس والملك كانت خمس ساعات. عند ذلك عاد الملك إلى البارجة (ميرفي)، وأبحرت بارجة الرئيس. أمضيت تلك الليلة برفقة يوسف ياسين، ومساعدي ميرت قرانت لإنهاء صياغة محضر المباحثات الذي أوضح فيه الرئيس والملك رغبتهما في الاتفاق. بعد أن أنهينا طباعة المحضر بنسختيه العربية والإنجليزية، ذهبتُ لتوقيعه من الملك عبد العزيز قبل أن ينام. وقّع الملك النسخة العربية، وفي صباح اليوم التالي 15 فبراير 1945م طرت إلى الإسكندرية، وعرضت المحضر على الرئيس الذي لم يعدّل فيه شيئاً ووقّعه قائلاً: (تماماً كما هو).
أبقيت نسخة باللغة الإنجليزية لدى الرئيس وأخذت نسخة أخرى لتسليمها للملك عبد العزيز. لم يُنشر شيء عن تلك المحادثات لأن أحداً ممن حضر لم يتحدث عن ذلك، وأنا الآن مستعد لكسر الصمت». لكن هل خلت تلك الرحلة الملكية من الطرائف والمفاجآت؟ يصف خير الدين الزركلي أنه بعد قمة «كوينسي» وعندما وصل الركب الملكي في سرّية تامة إلى فندق «أوبرج الفيوم» -المقر المعدّ لإقامة الملك عبد العزيز للقاء رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل- ونحو الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، سمع قرعاً عنيفاً لباب غرفته. وكان على الباب عبد الله السليمان ويوسف ياسين اللذان بادراه قائلين: يريدك (أي الملك)، فذهب مسرعاً إلى غرفة الملك، وهو في سريره، فلما رآه قال: «تكفى يا خيري! حقيبة أدويتي، نسيها أمين (خادم الملك عبد العزيز) في المركب، ولا أعرف الراحة من دونها». وطلب منه أن يعود إلى القاهرة لمقابلة إيدي وإبلاغه عن فقدان الحقيبة وكانت السرّية ما زالت مفروضة على الرحلة حيث ما زالت البارجة التي تقلّ الرئيس الأميركي في مياه البحر الأبيض المتوسط، فقال طبيب الملك الدكتور رشاد فرعون: بينما تعاد الحقيبة، ائتنا بهذه الأنواع من العلاج في طريقك. فركب الزركلي سيارة عسكرية يقودها جندي بريطاني. وقبل طلوع الفجر وصل إلى القاهرة وأيقظ وليم إيدي فقال: إن الطراد قد أبحر، وسأبرق إلى أول شاطئ يمر به، فتحمل الحقيبة إلينا طائرة عسكرية. يضيف الزركلي أن الحقيبة عادت «ووسائل الحرب تأتي بما يشبه المعجزات»!
كان إيدي الأميركي الوحيد الذي سمع كل ما دار في المحادثات، لذا فإن كل ما هو معروف عن اللقاء يعود إلى مذكرات إيدي. يقول إيدي عن اللقاء: «كضيف عربي لم يشأ الملك أن يتطرق إلى أي موضوع قبل أن يتحدث مضيفه، ولعله من المهم هنا أن أشير إلى أن الملك لم يتحدث أو يشير إلى الرغبة في أي دعم اقتصادي أو مالي للسعودية. لقد سافر إلى الاجتماع بحثاً عن الصداقة والتحالف لا الموارد والأموال، وذلك على الرغم من أنه في ذلك التاريخ لم يكن متوقعاً أن يتم إنتاج كميات هائلة من النفط لتتضاعف مداخيل بلاده التي كانت تعاني من الضائقة الاقتصادية بسبب الحرب التي أثّرت على الأوضاع. بدأ روزفلت بالحديث عن الحرب وثقته بهزيمة ألمانيا، ثم تحدث عن رغبته في أن يتلقى نصيحة الملك فيما يتعلق بمشكلة اللاجئين اليهود الذين عانوا من الاضطهاد النازي ورغبتهم الهجرة إلى فلسطين. كان رد الملك مباشراً وواضحاً: أعطهم أراضي ومنازل الألمان الذين اضطهدوهم، ورد روزفلت بأنهم لا يرغبون في العيش في ألمانيا لأنهم لا يثقون بالألمان ويريدون الهجرة إلى فلسطين. قال الملك إنه ليس لديه شك بأن اليهود لديهم سبب مقنع في عدم الثقة بالألمان، ولكن أيضاً ليس لديه شك في أن الحلفاء سيدمّرون القوة النازية إلى الأبد وأن نصرهم سيساعد على حماية ضحايا النازية، وإذا كان الحلفاء لا يتوقعون التحكم في السياسة الألمانية بعد انتهاء الحرب، فلماذا كل هذه الحرب المكلفة؟ ابن سعود لا يتخيل ترك عدو لديه القدرة للانتقام بعد الهزيمة. حاول روزفلت العزف على وتر الضيافة العربية وطلب مساعدة الملك في حل المشكلة الصهيونية، لكن الملك رد: دع العدو الظالم يدفع الثمن، هكذا ننظر نحن العرب لمن يشن الحروب ويُهزم. التعويض يجب أن يدفعه الجاني وليس الضحية. ما الأذى الذي سببه العرب ليهود أوروبا؟ إنهم الألمان الذين سلبوا أرواحهم وأراضيهم، دع الألمان يدفعون الثمن. مرة أخرى حاول روزفلت أن يعود للموضوع قائلاً: إن الملك لم يساعده بتاتاً في إيجاد حل المشكلة، لكن الملك وقد بدا أنه نفد بعض صبره، لم يشأ أن يعيد شرح وجهة نظره غير أنه قال (بنبرة تهكمية): إنه كعربي قادم من الصحراء لا يفهم سببا لهذا التعاطف الزائد مع الألمان، القيم العربية تكون فيها المراعاة للأصدقاء لا للأعداء. الملك ختم حديثه بأن التقاليد العربية تقضي بتوزيع المغانم والمغارم في المعارك على المنتصرين، بناءً على حجم مساهمتهم في المعركة. في معسكر الحلفاء هناك 50 دولة، وفلسطين بينهم دولة صغيرة المساحة وفقيرة الموارد، وتم تحميلها بأكثر من حصتها من اللاجئين الأوروبيين.
الملك عبد العزيز بدوره طلب من روزفلت الصداقة والدعم، وأشار الملك إلى أن بلاده لم تقع تحت الاحتلال أو الانتداب وأنه يريد أن يبقى مستقلاً. لولا هذا الاستقلال لما استطاع أن يطلب الصداقة الحقيقية، لأن الصداقة لا تكون إلا حين يكون هناك تكافؤ واحترام متبادل. لقد كان الملك يبحث عن اتفاق استراتيجي مع أميركا، لأنه لم يكن هناك تاريخ استعماري لأميركا. بعد ذلك أعطى الرئيس تعهده للملك عبد العزيز وأكد ذلك في رسالة بعث بها بتاريخ 5 أبريل 1945م قبل وفاته بأسبوع واحد: بأنه لن يفعل أي أمر عدائي للعرب ولن تغير حكومته سياستها تجاه فلسطين دون مشاورات مسبقة مع العرب واليهود. بالنسبة للملك كانت التأكيدات الشفهية حينها بمثابة اتفاق، ولم يتوقع الوفاة المفاجئة لروزفلت».
ويمكن تلخيص ما دار في اللقاء التاريخي -حسب المصادر المتعددة- عدا القضية الفلسطينية؛ وسيادة المملكة وألا تتعرض لأي غزو خارجي خصوصاً أن الحرب العالمية ما زالت تدور رحاها، وحرص الملك عبد العزيز على احترام استقلال المملكة، حيث لم ينسَ الأطماع الخارجية في بلاده، إضافةً إلى تطوير الجيش السعودي، وضمان استقلال الدول العربية الواقعة تحت الاستعمار، وكذلك الجانب الاقتصادي المتعلق بحرية التجارة والخدمات والعلاقة النفطية. لقد كان لذلك اللقاء أبعاد سياسية وإنسانية واقتصادية وعسكرية، منها تخلص الملك عبد العزيز من النفوذ البريطاني كما أعلنت المملكة الحرب على دول المحور وأكد الملك موقفه من القضية الفلسطينية، وتراجع الارتباط النقدي بالجنيه الإسترليني، وتحولت وكالة الدفاع السعودية إلى وزارة.
وقد نشر مكتب المؤرخين التابع لوزارة الخارجية الأميركية في عام 2020م الوثيقة الرسمية عن اللقاء والتي يتطابق الجزء الأول منها مع ما أورده إيدي في مذكراته حول القضية الفلسطينية، أما الجزء الثاني فكان عن قلق الملك عبد العزيز من السياسة الفرنسية تجاه سوريا ولبنان، وأراد معرفة الموقف الأميركي تجاه استقلالهما، وأكد الرئيس دعم أميركا لاستقلال البلدين.
والجزء الثالث عن عرض الرئيس مبادرة لتطوير الزراعة وتنمية الموارد المائية في المملكة، إلا أن الملك رد بأنه لا يمكنه تطوير الزراعة إذا كان سيستفيد منها اليهود، في إشارةٍ ذكية إلى أهمية القضية الفلسطينية ونظرته إلى الهجرات اليهودية. يختم إيدي مذكراته بقوله: «لهؤلاء الذين كانوا قريبين من الحدث كان هذا اللقاء ذا أهمية خاصة لعدة أسباب منها أن اللقاء كان حيوياً بين زعيمي دولتين مختلفين، لكنهما مثيران للإعجاب، كانا ممثلين للشرق والغرب، وثانياً أن الملك عبد العزيز الذي كان معتكفاً داخل الجزيرة العربية ولم يغادرها قط، سافر في رحلته الأولى التي فتحت له الأبواب، وثالثها أن القائد المسلم وحامي المقدسات التي يتوجه إليها (300 مليون) إنسان رسّخ علاقته مع زعيم دولة غربية عظيمة.
كان هذا اللقاء يمثل أكبر تحالف إسلامي غربي، ويرمز إلى التكامل مع العالم الإسلامي بموارده وسكانه ومنتجاته ونفطه وموقعه الاستراتيجي وموانئ مياهه الدافئة، التي لا غنى لنا عنها في أي حرب عالمية ثالثة. ولكن منذ عام (1945)، القليل تم إنجازه على الصعيد الرسمي لتقريب المسلمين منّا، بينما تم عمل الكثير لإبعادهم عنّا.
ورابعاً أنه للمرة الأولى تتخاطب أميركا مباشرةً مع الحكومات والشعوب الصديقة في الشرق الأوسط وليس عن طريق بريطانيا أو فرنسا كما جرت العادة.
لقد كُسرت تلك القاعدة للأبد ولم تعد أميركا تعدّ تلك المنطقة بعيدة عنها»، لقد أرسى الملك عبد العزيز وروزفلت قبل (77 عاماً) أساس العلاقات السعودية - الأميركية، التي أكدت أهمية المملكة العربية السعودية من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، وتعاقب بعدهما (6 ملوك) و(14 رئيساً) على تولي السلطة في البلدين، كلهم شددوا على أهمية هذه العلاقة وحتمية وجودها واستمرارها رغم العواصف والتقلبات.
- باحث سعودي



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.