هل يمهّد تقبل موقف روسيا في أوكرانيا لرفع شروط تطال الاتحاد الأوروبي نفسه؟

الأوروبيون قد يعوّضون ضعفهم العسكري في وجه بوتين بحاجة الصين إلى قوتهم الاقتصادية

جنود أميركيون من اللواء 82 المجوقل لدى وصولهم إلى جنوب بولندا يوم الخميس (إ.ب.أ)
جنود أميركيون من اللواء 82 المجوقل لدى وصولهم إلى جنوب بولندا يوم الخميس (إ.ب.أ)
TT

هل يمهّد تقبل موقف روسيا في أوكرانيا لرفع شروط تطال الاتحاد الأوروبي نفسه؟

جنود أميركيون من اللواء 82 المجوقل لدى وصولهم إلى جنوب بولندا يوم الخميس (إ.ب.أ)
جنود أميركيون من اللواء 82 المجوقل لدى وصولهم إلى جنوب بولندا يوم الخميس (إ.ب.أ)

عندما التقى «رجل روسيا القوي» الرئيس فلاديمير بوتين بالزعيم الصيني شي جينبينغ، قبل يوم من افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين الأسبوع الماضي، بدا واضحا حاجته الشديدة إلى دعمه، بعدما ظهر أن خطته جراء افتعال الأزمة مع أوكرانيا، «لا تعمل» كما يشتهي.
بوتين، الذي جعل من مسائل توسّع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وطلبه إعادة الوضع في بلدان أوروبا الشرقية التي انضمت إليه، كما كان عليه قبل عام 1997، ومعارضته انضمام أوكرانيا، حججه الرئيسية وراء تصعيده العسكري بعد حشده لأكثر من 100 ألف جندي على حدودها، إلا أن الرئيس الروسي لم يتمكن من الحصول سوى على جملة واحدة من نظيره الصيني. إذ جاء في بيانهما المشترك، أن «كلا البلدين يعارضان التوسّع المستمر لحلف الناتو، ويعتقدان أنه يجب أن يتخلى عن آيديولوجية الحرب الباردة». وهذه جملة بدت ضعيفة وقاصرة عن تلبية طموح بوتين الأكثر تشدداً، في حين أن الإشارة إلى أوكرانيا لم ترد أيضا سوى مرة واحدة في البيان.

تشير معظم التحليلات إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «راهن» على «إخفاقات» سياسات الرئيس الأميركي جو بايدن في أفغانستان، ورغبة الإدارات الأميركية في تحاشي التورط في حروب جانبية، والابتعاد عن مشاكل منطقة الشرق الأوسط، لحشد طاقات الولايات المتحدة في مواجهة الصين.
كذلك راهن بوتين على «الانقسامات» بين أعضاء «ناتو»، في ظل المناقشات حول دوره ووظيفته ومستقبله، وتبرم الأميركيين من «تقاعس» أعضائه على الوفاء بالتزاماتهم المالية فيه، وكذلك على قلة رغبة الأوروبيين بالدخول في حروب جديدة تنهي Jعصر السلام» الذي عاشته القارة طوال 75 سنة، ولذا حاول استغلال هذه «الفرصة» لفرض مطالبه.
غير أن رد الفعل الصارم من الأميركيين والأوروبيين على مطالب سيد الكرملين، شكل صدمة ما كان يتوقعها. هذا الأمر أوقعه في مأزق، تشير كل الدلائل إلى أنه بات أمام خيارات صعبة للخروج منه، أحلاها مر. فالمطالبة بإغلاق الباب أمام انضمام أي عضو جديد إلى «ناتو»، من شأنه ليس فقط انتهاك الميثاق الأساسي للحلف، بل ولميثاق الأمم المتحدة وميثاق الأمن الأوروبي الذي حدّث ميثاق باريس ووقعت عليه روسيا نفسها، تشير صراحة إلى «أنه لا يمكن لأي دولة اعتبار أي جزء من القارة الأوروبية منطقة نفوذ لها». وهو بالضبط ما يسعى إليه بوتين عندما طالب «بضمانات أمنية»، عندما اتهم الغرب بتطويق روسيا.
تحليلات أخرى تشير إلى أن الرئيس الروسي، الذي يجيد مراقبة «تناقضات» خصومه، يحاول أيضاً استغلال بعض التحليلات الغربية، التي تدعو إلى إغلاق أبواب «ناتو»، بحجة أنه لم يعد يفي بالتعهد الذي قطعه عام 2008 بأن أوكرانيا وجورجيا ستنضمان في النهاية إلى الحلف، لأنهما «لن تنضما إليه في أي وقت قريب». فلماذا لا نقدم هذا التنازل لبوتين، لتفادي الهجوم العسكري الروسي، لا سيما أن زحف «ناتو» نحو حدود روسيا كان أحد المصادر الرئيسية للخلاف مع موسكو على مر السنين؟

- هاجس دول غربية التوجه إلى الحدود
ثمة مَن يرى أن الأخذ بهذه الحجج سيكون «مكافأة» لبوتين، عبر إلقاء اللوم على «ناتو». في حين أن مراجعة سلوكه منذ «صعود» روسيا تحت قيادته، تظهر أن خوفه الأساسي هو ظهور دول ناجحة ديمقراطية غربية التوجه على حدود روسيا، وخاصة، أوكرانيا التي يعتبرها جزءا من الأمة الروسية، وفق خطابه الشهير والمطول العام الماضي.
هكذا غزا بوتين جورجيا عام 2008 لإجهاض حكومتها الديمقراطية، وهاجم عام 2014 أوكرانيا وسلخ شبه جزيرة القرم منها وضمها إلى روسيا. يومذاك، لم يكن هناك دبابات ولا نشر لصواريخ أميركية أو أطلسية على أراضي أوكرانيا، رغم نشر روسيا صواريخ «إسكندر» في كالينينغراد، الجيب الروسي داخل الحدود الشرقية لـ«ناتو». بيد أن سلوك روسيا «العدواني والانتقامي»، كان السبب في شعور جيرانها بالحاجة إلى التطلع نحو الغرب، بما فيها أعضاء الحلف.
هنا يناقش العديد من الخبراء والمحللين وبعض المسؤولين الأميركيين السابقين والحاليين، بأنه من الخطأ افتراض أن بوتين سيعود عن تهديداته، من خلال التأكيد فقط على أن عضوية أوكرانيا وجورجيا، ليست مطروحة على الطاولة. ويرجحون بدلا من ذلك، أن تسليمه تلك الورقة، ستكون بمثابة تنازل وعلامة ضعف، تمهيدا لرفع شروط جديدة بحيث تشمل أي عضو في الاتحاد الأوروبي أيضاً. ثم إن مشكلة تلك البلدان مع بوتين، لم تكن عضويتها في «ناتو»، بل توقها لعلاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي، وهي ما دفعه للتدخل في جورجيا وأوكرانيا.
بوتين يدرك أن الولايات المتحدة هي التي تقف عائقا أمام عودته لاعباً رئيسياً في أوروبا. ويرغب في استغلال تركيزها الاستراتيجي على الصين، التي تشكل الخطر الأساسي على مصالحها وموقعها الدولي، لفرض شروطه على القارة... عله يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
هذا الأسبوع، كان لافتاً سلوكه المهين بروتوكولياً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في اجتماعهما ومؤتمرهما الصحافي المشترك، وقول المتحدث باسم الكرملين إن الاتفاق على خريطة طريق لخفض التوترات مع أوكرانيا لن يتم إلّا مع «الجهة الحقيقية»، في إشارة إلى الولايات المتحدة.
هذا يعني أن المقايضة تكون مع واشنطن، في ظل إدراكه ضعف الأوروبيين البنيوي عن بناء استقلالية أمنية، وحاجتهم المستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية للحماية الأميركية. غير أن حقيقة أن دولا أخرى ترغب في الانضمام لـ«ناتو»، دليل على الكلفة التي سيدفعها بوتين، وعلى نجاح الحلف في تأمين الحماية لأعضائه، على الرغم من المناقشات التي تدعو إلى قياس ما الذي حققه انضمام دول أوروبية صغيرة إلى الحلف، من فوائد اقتصادية وتنموية واجتماعية لها.

- ضعف أوروبا الأمني
أوروبا التي دفعت ثمنا باهظا في الحرب العالمية الثانية، مع مقتل أكثر من 36 مليون أوروبي، بات إنفاقها العسكري منذ عقود حذرا جدا. واليوم ومع تصاعد الضغط الروسي، يواجه الأوروبيون حقيقة مؤلمة، هي أن عليهم الاعتماد على القوة الأميركية في مواجهة أي أزمة كبيرة تمس القارة. ومع افتقارهم لأوراق الضغط على طاولة المفاوضات، يمكن لروسيا ببساطة أن تتجاهلهم. هذه حقيقة يدركها قادة الاتحاد الأوروبي، ليتحوّل معها الرئيس الأميركي إلى «الصوت الأكثر موثوقية» في مواجهة بوتين. ولذا قال جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الأوروبية الخارجية، «كان لدينا الاختيار، إمّا أن نستثمر بجدية في قدراتنا الجماعية لنكون فاعلين، أو نقبل أن نتحول إلى هدف لا طرف في السياسة الخارجية»، حسب وكالة «أسوشييتدبرس».
بعد الحرب العالمية الثانية، كان على ألمانيا وفرنسا بناء تماسك اقتصادي يجعل من الحرب أمرا مستحيلا. ورغم نمو الاتحاد الأوروبي وتحوله قوة اقتصادية عالمية، فإنه لم يطور قوة أمنية ودفاعية ونفوذا وازنا. وفي المقابل، جعل نصر الولايات المتحدة الحاسم في الحربين العالميتين، ومن ثَم تطويرها ترسانتها النووية وإطلاق إنفاقها العسكري لمواجهة الاتحاد السوفياتي، الاعتماد على قوتها أمراً سياسياً خارج النقاش في أوروبا. وتحوّل «ناتو» (أسّس عام 1949) برئاسة أميركية دائمة، إلى مظلة عسكرية تقودها واشنطن، وتؤمن الحماية للقارة التي انصرفت إلى تنميتها الداخلية، مبتعدة حتى عن الوفاء بتسديد مساهمتها المالية فيه.
حسب بوريل «غالباً ما يصف الناس الاتحاد الأوروبي بأنه عملاق اقتصادي، لكنه قزم سياسي ودودة عسكرية. أعلم أن هذا التعبير مبتذل، إلا أنه كالعديد من الكليشيهات، فيه العديد من عناصر الحقيقة».
هذا ما أظهرته على أي حال «حروب البلقان»، وفشل جهود الأوروبيين في زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي أو حتى في دمج أنظمة الأسلحة، فضلا عن صعوبات عملية صنع القرار داخل الاتحاد الأوروبي. ومع توسع «الاتحاد»، بات لكل دولة على حدة، الحق في استخدام حق النقض في قضايا السياسة الخارجية والدفاع. وهو ما استغله بوتين تماماً عندما استقبل الأسبوع الماضي فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري اليميني المتطرف، المهتم بتوثيق علاقاته بموسكو بأمل الحصول على إمدادات الغاز منها، بينما يبحث الأوروبيون كيفية الاستغناء عنه. وغني عن القول إن الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي يتجاوز الولايات المتحدة، ومع ذلك ينفقون معا أقل من نصف ما تنفقه واشنطن على الدفاع. ومنذ عقود يضغط الرؤساء الأميركيون على الزعماء الأوروبيين لزيادة إنفاقهم وتقليص اعتمادهم على الجيش الأميركي. ووصف الرئيس السابق دونالد ترمب مرارا «ناتو» بأنه حلف «مضى عليه الزمن» داعياً إلى حله أو إعادة النظر بدوره. وحتى الرئيس الحالي جو بايدن - الذي حاول «طمأنة» الحلفاء - لا يبدو بعيدا عن ممارسة تلك الضغوط. لكنه عندما يرمي الكرة في ملعبهم، بهدف «توحيدهم» قبالة روسيا، يرى البعض أنه يرغب في المقابل بالحصول على موقف داعم في مواجهة الخصم الصيني، رغم عدم إشارته المباشرة لدور الحلف في «المواجهة»، التي تتصاعد حرارتها في منطقة المحيطين الهادي والهندي، أي خارج «اختصاص» عمل الحلف «الأطلسي».
من جانب آخر، في ندوة استضافها معهد «أميركان إنتربرايز» المحافظ قال جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، الذي يجادل بأن على واشنطن تقليص التزاماتها تجاه الحلف، «هناك ثلاث مناطق في العالم مهمة من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة: أوروبا وشرق آسيا ومنطقة الخليج. لكن هل هناك قوة مهيمنة إقليميا في إحدى هذه المناطق؟». ويضيف: «أحد أسباب وجود قواتنا في أوروبا إبان الحرب الباردة هو أن التهديد السوفياتي كان يتركز فيها. اليوم لا توجد قوة مهيمنة إقليمية في أوروبا، أو في الأفق، كما لا توجد قوة مهيمنة إقليمية في الخليج... لكن هناك بالفعل قوة إقليمية مهيمنة في آسيا وهي الصين. هذا يعني أن على الولايات المتحدة تركيز كل قوتها العسكرية في شرق آسيا. هذا هو ما يهم حقاً. أوروبا لا تهم كثيرا على الإطلاق».

- الصين لن تخاطر بشراكتها الأوروبية
قد تكون مطالبة واشنطن الأوروبيين ودول «ناتو» بهذا «الثمن»، فرصة لتعويض تخلفهم الأمني والدفاعي، عبر ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على الصين، ولجم روسيا من ورائها. وعن «قمة» بوتين مع الزعيم الصيني للحصول على دعم اقتصادي، يعينه في مواجهة احتمال تعرضه لعقوبات غربية، يرى تقرير لـ«مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» أن الرئيس الروسي لم ينجز الكثير. وبدا واضحا أن الصين لا تريد المخاطرة بالإضرار بعلاقاتها المتوترة أصلاً مع أوروبا، لا سيما بالنظر إلى المخاوف المتزايدة بشأن التباطؤ الاقتصادي السريع في الصين. فالصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مجتمعة، تبلغ 10 أضعاف الصادرات إلى روسيا. ومع القيود المتزايدة على نقل التكنولوجيا والاستثمارات الصينية، فضلا عن الدعوات القوية لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد من الصين، فإن آخر ما يريده الزعيم شي، هو أن يواجه الاقتصاد الصيني عقوبات محتملة إذا دعم علنا غزو أوكرانيا.
ورغم حاجة الصين إلى الطاقة، فإن روسيا تعتمد على الصين أكثر بكثير من اعتماد الأخيرة عليها، فيما موسكو قد تكون بحاجة يائسة لزبائن جدد لنفطها وغازها إذا فُرضت عليها عقوبات. وهنا يشير معلقون صينيون إلى خطر تنفير الشركاء الأوروبيين، الذين تعد أهميتهم الاقتصادية لتنمية الصين أكبر بما لا يقاس مما تقدمه روسيا. وبعيدا عن حرص شي حالياً، على تجنب تخريب الألعاب الأولمبية الشتوية، فهو لا يريد أن يُجر إلى صراع بعيد، في ظل بيانات اقتصادية مفاجئة، كشفت مؤخراً عن تصدعات خطيرة في النموذج الاقتصادي الصيني، ما أثار الشكوك بصعود هذا النموذج.
ثم إن أي هجوم روسي على أوكرانيا ورد الفعل الغربي بعقوبات، قد يصدم أسواق الطاقة والسلع الأخرى ويؤثر بشدة على المعنويات الاقتصادية العالمية. ومع تشديد الحزب الشيوعي الصيني على أن الاستقرار الاقتصادي لا يزال يمثل أولوية قصوى لهذا العام، فإن الحرب المحتملة في أوروبا يمكن أن تسرّع التباطؤ الاقتصادي السريع أصلاً في الصين، وتجعل أهداف النمو المتفائلة للغاية أقل قابلية للتحقيق. وهذا بدوره من شأنه أن يقوض أحد أهم أهداف الزعيم الصيني، الطامع بخمس سنوات جديدة في المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني خلال أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
بالتالي، يرى البعض فرصة للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين لاستغلال احتكاكات العلاقة الصينية الروسية، عبر التهديد باستهداف المصالح الاقتصادية للصين في أوروبا. فالتناقض الناشئ عن اعتماد الصين الاقتصادي المتزايد على أوروبا وعلاقاتها الوثيقة مع روسيا، بعدما أصبح بوتين أكثر عدوانية في علاقاته مع الغرب، يمنح واشنطن وحلفاءها الأوروبيين نفوذاً قد يكون حاسما في توحيد الأوروبيين ضده. فاللعب على هذا الاختلاف في المصالح الروسية والصينية، وتحذير الصين علنا، من تدخلها في شؤون «ناتو» ودعم العدوان الروسي في أوروبا، قد يعطي الأوروبيين موقعا مهما، خاصةً إذا ما هددوا بإعادة تقييم تعاونهم الاقتصادي مع الصين، بما في ذلك التزاماتهم بـ«مبادرة الحزام والطريق» ما لم تتراجع بكين عن دعم بوتين.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.