«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

أنظمة هشّة وتنافس دولي وإرهاب... عثرات على طريق الديمقراطية

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا
TT

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

مثل عدوى الوباء الذي تصعب السيطرة عليه، باتت الانقلابات العسكرية تضرب، بوتيرة متسارعة، دول غرب القارة الأفريقية، واحدة تلو أخرى، إذ وقعت خلال 10 أشهر فقط 3 انقلابات عسكرية ناجحة، آخرها الإطاحة برئيس بوركينا فاسو، روك مارك كريستيان كابوري، نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، بخلاف محاولات أخرى لم يكتب لها النجاح بعد. الأمر الذي عدّه بانكولي أديويي، مفوض السلم والشؤون السياسية بالاتحاد الأفريقي «سابقة تاريخية»، خلال قمة الاتحاد الأخيرة في أديس أبابا، مطلع فبراير (شباط) الحالي. ويُذكر أن الاتحاد الأفريقي يعلّق الآن وفق تقويمه السنوي عضوية 4 دول، هي مالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى السودان.
إن متتبع الأحداث وراصد تلك الانقلابات الأفريقية، يجد أنها تحمل صورة متكرّرة ونمطية، تبدأ بغضب شعبي يسيطر عليه العامل الاقتصادي بشكل رئيس، ممزوجة باتهامات الفساد... ويعقبها تحرك لقادة بالجيش الوطني يحتجزون عبره رئيس البلاد أو الحكومة، ويعطلون العمل بالدستور والمؤسسات الحاكمة كافة، مع التعهد بإقامة نظام ديمقراطي دستوري خلال فترة زمنية، عادة ما يصار إلى تجاوزها وسط انتقادات دولية.

في حين تحدث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي عن دور لـ«الإرهاب»، كأحد مسببات موجة الانقلابات الأخيرة في أفريقيا، يرى مراقبون أن ثلاثية (الأنظمة الهشة، والتنافس الدولي، وانتشار الجماعات الإرهابية) عوامل رئيسة وراء فشل تجارب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في كثير من دول القارة. ويضاف إليها إرث قديم من الانقلابات لم تتخلص منه القارة السمراء، ما ينذر بمرحلة حرجة لعمليات «التسوية الديمقراطية»، في ظل رفض إقليمي ودولي شامل لتلك الانقلابات.
ثمة عدد من العوامل تدعم المسارات المؤهلة لسياق الانقلابات العسكرية في أفريقيا، خاصة الجزء الغربي منها، الذي يوصف بأنه «بؤرة انقلابات»، في مقدمتها كما تشير الدكتورة إيمان زهران، خبيرة العلاقات الدولية والأمن الإقليمي «هشاشة الدولة الوطنية، بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية لفشل تجارب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي التي بدأت منذ مطلع التسعينات، خاصة أن التجارب الديمقراطية في مجملها لم تتمكن من تحقيق احتياجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، بل إنها اتجهت في الغالب إلى إضفاء الشرعية على سيطرة المجموعات العرقية والقبَلية ومراكز القوة الداخلية والخارجية، وهو ما أفضى تدريجياً إلى الخلل بالعلاقات المتباينة بين أنظمة الحكم والقاعدة الاجتماعية بتلك الدول».
نقطة أخرى تؤثر بشكل مباشر في مسار التطورات السياسية الأخيرة، تحدثت عنها زهران لـ«الشرق الأوسط»، تتعلق بنمط «المجموعات الإرهابية المسلحة». إذ تقول زهران إنها أصبحت «أحد أبرز العوامل التي تسهم في التأزم السياسي» بالمنطقة، لعدد من الاعتبارات، أبرزها؛ ضرب حالة «السلم المجتمعي» في تلك الدول، وذلك عبر توظيف ورقة «التنوع الإثني والديني والقبلي»، بما يخدم أجنداتها المتطرفة نحو تأجيج الفتنة وإشعال الصراعات الداخلية. وأيضاً ما يتعلق بـ«عسكرة الحياة السياسية»، وذلك عبر الانتقال النوعي من نظام التشكيلات الحزبية التقليدية إلى نظام الميليشيات الحزبية، وهو ما أمكن رصده بمجمل التطورات السياسية الأخيرة في الغرب الأفريقي.
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، ترى خبيرة العلاقات الدولية أن ثمة عاملاً مهماً آخر يجدر النظر إليه وإعادة تقييمه، في إطار إعادة إنتاج الأدوار الدولية المتباينة بالقارة الأفريقية، أو ما يُعرف بـ«الكولونيالية الجديدة». وهنا تضرب زهران مثَلاً بما يُساق راهناً في تقييم النشاط الروسي الجديد في غرب أفريقيا الذي يسعى لتوظيف مشاعر السخط ضد التدخل الغربي، وبالأخص التدخل الفرنسي. وهو يستغل في هذه الحالة هذا التدخل ويضعه ضمن إطار استمرار الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي لدول المنطقة؛ بينما تسعى موسكو - في المقابل – إلى تقديم نفسها على أنها قوة فاعلة في استراتيجية مواجهة الإرهاب والدفاع عن الأنظمة الموالية وضمان الاستقرار بالمنطقة، وهو ما قد يدفع إلى التحول في شكل الصراع، إذ لن يقتصر فقط على مدارات الانقلابات العسكرية، بل سيتخطى الأمر حاجز صراعات النفوذ وتقاسم المناطق بين الفواعل الدولية بالقارة الأفريقية.

- انتشار العدوى
بعيداً عن الظروف الاقتصادية والسياسية المتردية في دول القارة التي تشهد تلك الانقلابات، ثمة عامل إضافي يساعد على انتشارها هو «العدوى»، كما يشير المحلل السياسي ألكسندر أونوكو، في موقع «كوارتز أفريكا» Quartz Africa، الذي أرجع انقلاب بوركينا فاسو الأخير إلى «تجرؤ الجنود الناتج عن رؤيتهم نجاح الانقلابات في دول أخرى مثل مالي وغينيا»، إلى جانب العوامل التقليدية لفشل الحكم. ويرى أونوكو أنه «نظراً لنجاح هذه الانقلابات، تولّد إحساس لدى الجنود الذين يفكرون في محاولات الانقلاب بأنهم مفوضون لفعل ذلك، وصحيح قد يساعد هذا في تفسير سبب جرأة جنود بوركينا فاسو على الإطاحة بكابوري، إلا أنه لا يلغى أن بوركينا فاسو لديها تاريخ من الانقلابات، بما في ذلك 4 على الأقل خلال سنوات الثمانينات وحدها، التي شهدت صعود وسقوط البطل القومي توماس سانكارا».
ثم يضيف أونوكو عنصراً عزز إمكانية انتشار «العدوى»، حسب اعتقاده، وهو أن اندلاع ما بات يعرف بـ«الربيع العربي» في شمال أفريقيا والشرق الأوسط أدى إلى هجرة جماعات متطرفة تجاه النيجر وتشاد ومالي، ما ساعد على تعزيز التمرد المسلح في هذه البلدان. وبدءاً من عام 2016، ساعد التنافس بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» في تفاقم الاضطرابات. وهنا يشير إلى أن انقلاب بوركينا فاسو حدث «في وقت خطير للغاية من الهجمات الإرهابية المتزايدة»؛ حيث أسفر هجوم واحد وقع في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن مقتل 53 شخصاً، من بينهم 49 من ضباط الشرطة العسكرية. وباختصار، ازدادت وتيرة الهجمات الإرهابية في عهد كابوري رغم تعهد الأخير، منذ توليه السلطة عام 2015، بتكثيف الجهود لمكافحة الإرهاب.

- نهج انقلابي تاريخي
أعادت الانقلابات الأفريقية المتتالية خلال الأشهر الأخيرة، في مالي وغينيا وتشاد وبوركينا فاسو، وكذلك السودان، التذكير بحقبة الاضطرابات التي عاشتها القارة في الماضي، بعدما شهدت تحسناً نسبياً في العقدين الأخيرين. فقد سجلت أفريقيا منذ عام 1950 نحو 222 محاولة لقادة بالجيش للإطاحة بالحكومات من إجمالي 494 محاولة في العالم، منها 21 محاولة منذ عام 2015، ولقد حقق نحو 38 في المائة من هذه المحاولات النجاح، فتمكنت من تغيير رأس السلطة، وكان السواد الأعظم منها في إقليمي الغرب والوسط الأفريقيين، وذلك بحسب «إنتر ريجونال للتحليلات الاستراتيجية».
ولعل عام 2020 كان بداية المرحلة الجديدة لعودة هذه الظاهرة إلى قارة أفريقيا؛ بعد غياب منذ عام 2017. ذلك أن 2020 شهد بمفرده 12 محاولة انقلابية من أصل 13 محاولة على مستوى العالم، كان آخرها الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الأسبق روبرت موغابي في زيمبابوي في نوفمبر 2017، بعدها شهدت الأنظمة السياسية في القارة «استقراراً نسبياً» حتى بداية النصف الثاني من عام 2020، الذي وقع فيه انقلاب عسكري في مالي يوم 18 أغسطس (آب) أدى إلى الإطاحة بالرئيس الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا.
بعد ذلك، جاء عام 2021 ليسجل أكبر عدد من المحاولات الانقلابية؛ بلغ عددها 6 محاولات، نجح منها 4، بدءاً من انقلاب تشاد يوم 20 أبريل (نيسان) حين أقدم المجلس العسكري الانتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي - الذي كان آنذاك قائداً للحرس الرئاسي – على حل الحكومة والجمعية الوطنية (البرلمان) بعد وفاة الرئيس الأسبق إدريس ديبي، ووعد بإقامة انتخابات حرة وديمقراطية في غضون سنة ونصف سنة.
أيضاً شهدت مالي انقلاباً عسكرياً بقيادة آسيمي غويتا في 24 مايو (أيار)، وتلتها غينيا (غينيا كوناكري) التي نالت حظها بانقلاب بقيادة العقيد مامادي دومبويا في سبتمبر (أيلول) أطاح بالرئيس الأسبق ألفا كوندي. وأخيراً، شهد السودان تحرّكاً في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بقياده الفريق أول عبد الفتاح البرهان - الذي يقود مجلس السيادة في إطار المرحلة الانتقالية – ونجم عن هذا التحرّك حل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبد الله حمدوك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السودان بوجه عام يعدّ أكثر دولة أفريقية شهدت محاولات استيلاء على السلطة وانقلابات، بلغت نحو 17 محاولة، نجح 6 منها.
أما على مستوى العام الحالي، الذي لم يمضِ منه سوى شهر ونصف شهر، فقد شهدت القارة محاولتين انقلابيتين في دولتين من دول غرب أفريقيا؛ الأولى كانت ناجحة في بوركينا فاسو، التي تمتلك بدورها إرثاً من الانقلابات العسكرية، إذ شهدت 8 انقلابات ناجحة، ومحاولة واحدة فاشلة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. أما الثانية، في جمهورية غينيا بيساو، وهنا لم تنجح محاولة الانقلاب العسكري. وفي هذا الشأن، نشير إلى أن غينيا بيساو (غينيا البرتغالية سابقاً)، تعد أيضاً من أكثر البلدان عرضةً للخضّات السياسية والعسكرية، إذ إنها شهدت 4 انقلابات ناجحة و16 محاولة فاشلة منذ استقلالها عن البرتغال خلال عام 1974.

- إدانات غير مجدية
الواضح أن مدبّري الانقلابات، في معظم الحالات، كانوا يستبعدون مسبقاً إمكانية أن يدين المجتمع الدولي أفعالهم بأيّ طريقة ذات مغزى. بل إنهم كانوا يدركون أن الأمر سيتوقف في نهاية المطاف عند حدود الإدانة، وربما فرض عقوبات.
«ولكن في النظام الدولي، الذي يعيش حالة حرب باردة ثانية، سيجد هؤلاء سنداً وحماية من بعض القوى الدولية الصاعدة»، كما يشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حمدي عبد الرحمن. وهنا يلفت الأكاديمي المصري إلى «صعوبات عدة تواجه إدانة الانقلاب في الجانب الأميركي مثلاً؛ حيث تنص المادة 508 من قانون المساعدة الخارجية على أن الولايات المتحدة مُطالَبة بتعليق مساعداتها للدول التي تشهد انقلاباً عسكريّاً. إلا أن الإدارة الأميركية تتردد كثيراً في استخدام وصف الانقلاب خوفاً من اتجاه هذه الدول نحو المنافسين الدوليين مثل روسيا والصين، وكلاهما يمكن أن يعرقل تحرك مجلس الأمن الدولي من خلال استخدام حق النقض».
هذا، وكان الاتحاد الأفريقي قد أعرب خلال قمته الأخيرة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عن إدانته «بلا لَبْس» ما وصفه بـ«موجة الانقلابات العسكرية» التي حدثت أخيراً في القارة. وقال المفوض بانكولي أديويي: «أدان كل قيادي أفريقي في المجموعة بلا لبس (...) موجة تغيير الحكومات بصورة مخالفة للدستور». وأردف: «لن يتسامح الاتحاد الأفريقي مع أي انقلاب عسكري بأي شكل كان»، مذكّراً أن مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي علّق عضوية الدول التي شهدت انقلابات.
كذلك، قال أديويي معلقاً على «مبادرة إسكات البنادق»، إنه بعد نقاشها من طرف القادة الأفارقة تبين أنه «لا يمكن إسكات البنادق وتحقيق السلام في القارة من دون حكم رشيد». وأشار في السياق ذاته إلى أن الحكم الرشيد مرتبط بشكل وثيق بتكريس الديمقراطية ومنع الانقلابات العسكرية، فقال: «سنعمل ما في وسعنا كمفوضية مع القادة الأفارقة لمنع هذه الانقلابات وتعزيز الهياكل الأمنية بدول القارة»، وحذّر في الوقت عينه من أن تتحول منطقة غرب أفريقيا إلى «بؤرة» للانقلابات العسكرية.
من جهة ثانية، درج الاتحاد الأفريقي منذ فترة على أن يبني مواقفه من الانقلابات العسكرية والصراعات السياسية، على المواقف التي تتخذها المنظمات الإقليمية في القارة؛ حيث تتكتل دول القارة الأفريقية ضمن عدة مجموعات اقتصادية في غرب ووسط وشرق وجنوب القارة. وتلعب هذه التكتلات أدواراً مهمة في تسيير الأزمات الداخلية للدول، وتحظى بدعم قوي من الاتحاد الأفريقي، بصفتها «أداة أفريقية لتقديم حلول أفريقية لمشكلات أفريقية»، ولكن، كما ترى الدكتورة إيمان زهران فإن «فكرة التقويض ومحاصرة حركة الانقلابات القائمة أمر غير مُجدٍ في ظل غياب آليات رادعة لمثل تلك التحولات السياسية، فضلاً عن ضعف وتراخى المنظمات الإقليمية أمام تلك الأحداث، وفي مقدمتها الاتحاد الأفريقي».
أخيراً، كان قد صدر ميثاق أفريقي عام 2014، بشأن قيم ومبادئ اللامركزية والحكم المحلي والتنمية المحلية، ووقّعت عليه 17 دولة فقط، في حين صدقت عليه 6 دول فقط. ولعل ذلك ما «يجعل القِيَم الأساسية التي يؤكّد عليها مثل الاستجابة والشفافية والمساءلة والمسؤولية المدنية مجرد حبراً على ورق»، وفق زهران، التي تتوقع أن «تشهد الانقلابات العسكرية – على الأخص في منطقة غرب أفريقيا – مزيداً من التوسع لتشمل دولاً أخرى تتشابه أوضاعها الداخلية الهشة، مثل النيجر وكوت ديفوار وغامبيا وتوغو».


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.