الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية

بملابس ضيقة سوداء وعيون يقظة وكلاب مدربة

الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية
TT

الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية

الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية

قد يثير هذا الكتاب الجدل بفصوله الستة الممتدة عبر 360 صفحة، ابتداءً من العنوان الذي بدا إشكالياً إلى حدٍّ ما «الشرطة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي - العصر العباسي الأول». فأول ما يتبادر إلى الذهن تساؤل بدهي: ما الأسس العلمية والمعايير البحثية الحاسمة التي على أساسها وصف المؤلف د. حسام أحمد عبد الظاهر، هذا العصر بأنه ذهبي؟ فلو كان يقصد التنمية الحضارية التي شهدتها الدولة العباسية، فالأمر لم يخلُ من ممارسات غير مسؤولة مثل الاستبداد والفساد بدرجات متفاوتة ومن حقبة زمنية لأخرى. أما لو كان يقصد بلوغ جهاز الشرطة درجة عالية من التنظيم والهيكلة، فكيف نتغاضى عن ممارسات دموية قمعية تتضمن الاغتيالات السياسية، تورط فيها هذا الجهاز وتتطرق إليها المؤلف نفسه؟
غير أن هذا الكتاب الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، هو بحث علمي مدعم بالمصادر والجداول والتعريفات، أي بعبارة أخرى لا مكان فيه للرأي الشخصي أو الانطباعات الذاتية.
ويقصد المؤلف بالعصر العباسي الأول الفترة الممتدة من عام 750م حتى 846م، ودفعه لدراسة هذا الموضوع «ما للشرطة من مكانة كبيرة بوصفها أحد نظم الحكم الرئيسية».

أصول لغوية

بدايةً يوثّق الكتاب لكلمة «الشرطة»، مشيراً إلى تتعدد الآراء حولها، حيث يُرجعها البعض إلى أصول عربية مؤكداً أن الشرطة ترجع إلى «الأشراط» وهي العلامات التي تعارف أصحاب الشرطة على تمييز أنفسهم بها عن غيرهم. وهناك من يقول إن الشرطة سُمُّوا بذلك لأنهم جند مختارون؛ فشرطة كل شيء خياره. وهذا التفسير يعني أن رجال الشرطة هم نخبة السلطان من جنده، ولذلك فهم أول كتيبة تشهد الحرب.
وهناك آراء أخرى تُرجع أصل كلمة «الشرطة» لأصول غير عربية وأنها مأخوذة من النظام الأمني عند البيزنطيين المعروف بـ«سيكوريتاس» بمعنى الحفظ والطمأنينة، مما يستدعي كلمة «سيكورتي». وهناك من يُرجع كلمة «الشرطة» إلى الكلمة اليونانية «شورطس» بمعنى الحارس، وهي الكلمة التي انتقلت إلى اللغتين السريانية والكلدانية وأصبحت «شورطا» ثم عُرفت في اللغة الآرامية بـ«شرطو»، ثم انتقلت إلى اللغة العربية بصورتها المعروفة حالياً. ويرجح المؤلف الرأي الأخير لأنه لا يقتصر فقط على التشابه اللفظي بل يتعداه إلى التشابه في المعنى ويدلل على ما يقوله بالتتبع التاريخي لانتقال الكلمة من اليونانية إلى السريانية والكلدانية والآرامية ثم إلى العربية.
وكان الحجّاج بن يوسف الثقفي يشترط في صاحب الشرطة أن يكون «دائم العبوس طويل الجلوس سمين الأمانة أعجف الخيانة لا يحنق في الحق على جرة، يهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة»، وهذا النص يبيّن أن صاحب الشرطة في العصر الأموي كان من المأمول أن يتمتع بصفات الحزم والصرامة والمتابعة الدائمة للأمور والأمانة وإيثار الحق دائماً وعدم رالانطواء على الحقد والغل وعدم الاستجابة لشفاعة أحد من كبار الناس في عمله. وهذه الأوصاف تتفق مع طبيعة الحجّاج الذي عُرف بالقسوة والشراسة والميل للعنف.
ومن استعراض أسماء أصحاب الشرطة قبل العصر العباسي، يمكن ملاحظة اقتصار الاختيار على رجال القبائل العربية واعتماده على العنصر العربي، وهذا يتوافق مع سياسة الدولة في اختيار عمالها من أهل العصبية والقوة حيث يقوم رجال الشرطة بالكثير من المهام الحساسة؛ منها مرافقة الخلفاء والأمراء والولاة لتنفيذ أوامرهم وحراستهم وحمل الحربة بين أيديهم. ولم تقتصر الشرطة على ذلك، بل شملت كذلك حماية أرواح الناس وممتلكاتهم وعلى سبيل المثال، وقبيل العصر العباسي في بلاد العراق، بلغ استتباب الأمن في ولاية زياد بن أبيه «665م - 673م» إلى حد أن أحداً لم يجرؤ على التقاط أي شيء متروك على قارعة الطريق، وكانت الدور تُترك مفتوحة الأبواب! وكانت الشرطة تقوم بالتحقق من صحة المعلومات التي تأتي إلى الخليفة أو الوالي عن طريق الناس. ويشمل عمل رجال الشرطة في هذ الصدد مقابلة من يريد الإدلاء بالمعلومات والاستماع إليهم ثم التحقق من صحة تلك المعلومات عن طريق الفحص الدقيق والتفتيش الشامل وبعدها يتم رفع تقرير مفصل للخليفة أو الوالي به نتيجة هذه التحريات.

ديوان الشرطة

ويؤكد المؤلف أن أهمية الشرطة في العصر العباسي الأول تكتسب مكانتها من طبيعة الأعمال التي سعت إلى القيام بها، حيث أكد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور «754م - 775م» ذلك في قوله إن الأركان الأربعة التي لا يصلح المُلك إلا بها هي: القضاء، والخراج، والبريد، والشرطة. وبناءً على ذلك خصص ديواناً جديداً للشرطة لم يكن له وجود من قبل.
ويوضح المؤلف أنه من الممكن تعريف الديوان كتنظيم إداري بأنه يشتمل على أربعة جوانب أساسية هي: مكان وموظفون ودفاتر وسجلات. وكان لشرطة المدن في هذا العصر مقر رئيسي ومقرات أخرى فرعية حيث عُرف المقر الرئيسي باسم الشرطة أو دار الشرطة ومجلس الشرطة. وكان موقع مجلس الشرطة الرئيسي في بغداد بالقرب من باب الجسر الذي يربط بين شطري المدينة. وفي مصر كان ذلك المجلس أو دار الشرطة يقع في «الفسطاط» قبل جامع «عمرو بن العاص» وهي الدار التي جُددت سنة 828م. أما مقر الشرطة بخراسان فكان بالقرب من المسجد الجامع في مدينة مرو. وكان صاحب الشرطة في بغداد يتم تعيينه من الخليفة العباسي نفسه، أما في الولايات فكان يخضع لإرادة الوالي غالباً. وفي حالات نادرة جداً يقوم الخليفة باختيار شخص ما وتعيينه في منصب صاحب شرطة إحدى الولايات. وعلى سبيل المثال حدث ذلك في مصر خلال العصر العباسي الأول حين بعث الخليفة المأمون برجل يسمى ابن سطام سنة 832م ليكون صاحب الشرطة في مصر. وقد يفسر ذلك الوضع الاستثنائي المخالف للمعتاد بأن الحالة الأمنية في مصر آنذاك كانت تحتّم ذلك؛ إذ كانت البلاد المصرية في هذه الفترة تعيش فتنأ داخلية واضطرابات كبيرة.
ويستعرض المؤلف أشهر فئات الشرطة في هذا العصر مثل «العسعس» وهم أصل الشرطة ونواتها التي منها تطورت حتى أصبحت نظاماً كاملاً من نُظم الدولة خلال العصر العباسي الأول. ويعرف «العسعس» بأنهم الجنود الذين يطوفون ليلاً بحثاً عن أهل الريبة، ونتيجة قيامهم بمهمة الطواف هذه أُطلقت عليهم مسميات «الطواف» أو «الطائف» أو «أصحاب الطوائف». وفي الأندلس عُرفوا إلى جانب اسم «العسعس» بمسمى آخر وهو الدرَّابون. ومن البدهي أنه يقوم رجال «العسعس» بأداء المهام المكلفين بها خير قيام حيث كان صاحب الشرطة يختارهم من بين رجاله الذين يتصفون باليقظة والنشاط والبصر الثاقب والذهن اللماح.
وفيما يتعلق بملابس الشرطة فقد كان لهم زي خاص يميّزهم عن باقي رجال الدولة العباسية، وفي ذلك الشأن يقول الجاحظ (868م): «لكل قوم زيٌّ؛ فللقضاة زيٌّ وللشرط زيٌّ». كما يذكر صاحب «كتاب الاقتضاب» أن رجال الشرطة كان لهم زي يُعرفون به. ويشير بعض الشواهد إلى أن هذا الزي كان عبارة عن قباء، وهو ثوب يُلبس فوق الثياب ضيّق الكمّين والوسط مشقوق من الخلف وهو أعون على الحركة. وهذا القباء كان أسود اللون ويرتديه صاحب الشرطة طوال فترة عمله بالشرطة، ويبيّن ذلك أنه لما أراد أبو البختري، والي المدينة في عهد الرشيد، تولية سعيد بن عمرو الزبيري الشرطة ألبسه السواد، ولما عزله قال له: «اخلع سوادنا».

مهام وأدوار متنوعة

يذكر المؤلف أن الكلاب البوليسية التي تًستعمل حالياً عُرفت أيضاً في العصر العباسي، وهناك مصادر تدل على أن رجال الشرطة آنذاك استخدموا بعض الكلاب لمساعدتهم في أداء مهامهم الأمنية. وتعد الحراسة إحدى المهام الرئيسية المعروفة عن الكلب، وفي ذلك ضُرب المثل العربي القديم «أحرس من كلب». ويقول الجاحظ في هذا الصدد: «ليس لحارث الناس ولحارس أموالهم بدٌّ من الكلب»، ولذلك كان يوجد كلب مخصص لكل حارس.
ومن مهام الشرطة حراسة الخلفاء والولاة وذلك لحماية أرواحهم سواء في مجالسهم أو في قصورهم ومنازلهم عامة. وكانت الشرطة ترافقهم في تجوالهم ومواكبهم أو في سفرهم. ويأتي أصحاب الشرطة في مقدمة العناصر التي كان الحكام، خلفاء أو ولاةً، يستشيرونها فيما يواجهونه من أمور. ومما يُروى في هذا الشأن أن والي خراسان أبا مسلم الخراساني لما جاءه أمر الخليفة المنصور بالقدوم إليه استشار صاحب شرطته نصر بن مالك الذي نهاه عن ذلك خوفاً من غدر المنصور، إلا أن أبا مسلم لم يأخذ برأي صاحب شرطته وذهب إلى المنصور فكان مصرعه. وكان المنصور نفسه يطلب مشورة المسيب بن زهير، صاحب شرطته بقوله: «قل فلا استغشك».
وتعد الرقابة من وسائل الشرطة المهمة في مكافحة الجريمة وضمان استقرار نظام الدولة العباسية وأمنها السياسي والاجتماعي والثقافي. واشتملت هذه الرقابة على نوعين؛ أولهما رقابة على الأماكن المشبوهة كالحانات والمقاهي والحمامات وأماكن الشرب واللهو، والآخر رقابة على الأشخاص الخطرين على الأمن مثل الغرباء والمشاغبين والمنحرفين والمشبوهين وأصحاب البدع والمخالفين ومثيري القلق.ويلفت المؤلف إلى أن هناك مهمة أخرى لجهاز الشرطة تتمثل في تتبع الخصوم السياسيين للدولة العباسية، المخالفين لسياستها، أو من يقومون بالتحريض ضدها.


مقالات ذات صلة

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة