الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية

بملابس ضيقة سوداء وعيون يقظة وكلاب مدربة

الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية
TT

الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية

الأدوار الخفية لجهاز الشرطة في بسط نفوذ الدولة العباسية

قد يثير هذا الكتاب الجدل بفصوله الستة الممتدة عبر 360 صفحة، ابتداءً من العنوان الذي بدا إشكالياً إلى حدٍّ ما «الشرطة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي - العصر العباسي الأول». فأول ما يتبادر إلى الذهن تساؤل بدهي: ما الأسس العلمية والمعايير البحثية الحاسمة التي على أساسها وصف المؤلف د. حسام أحمد عبد الظاهر، هذا العصر بأنه ذهبي؟ فلو كان يقصد التنمية الحضارية التي شهدتها الدولة العباسية، فالأمر لم يخلُ من ممارسات غير مسؤولة مثل الاستبداد والفساد بدرجات متفاوتة ومن حقبة زمنية لأخرى. أما لو كان يقصد بلوغ جهاز الشرطة درجة عالية من التنظيم والهيكلة، فكيف نتغاضى عن ممارسات دموية قمعية تتضمن الاغتيالات السياسية، تورط فيها هذا الجهاز وتتطرق إليها المؤلف نفسه؟
غير أن هذا الكتاب الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، هو بحث علمي مدعم بالمصادر والجداول والتعريفات، أي بعبارة أخرى لا مكان فيه للرأي الشخصي أو الانطباعات الذاتية.
ويقصد المؤلف بالعصر العباسي الأول الفترة الممتدة من عام 750م حتى 846م، ودفعه لدراسة هذا الموضوع «ما للشرطة من مكانة كبيرة بوصفها أحد نظم الحكم الرئيسية».

أصول لغوية

بدايةً يوثّق الكتاب لكلمة «الشرطة»، مشيراً إلى تتعدد الآراء حولها، حيث يُرجعها البعض إلى أصول عربية مؤكداً أن الشرطة ترجع إلى «الأشراط» وهي العلامات التي تعارف أصحاب الشرطة على تمييز أنفسهم بها عن غيرهم. وهناك من يقول إن الشرطة سُمُّوا بذلك لأنهم جند مختارون؛ فشرطة كل شيء خياره. وهذا التفسير يعني أن رجال الشرطة هم نخبة السلطان من جنده، ولذلك فهم أول كتيبة تشهد الحرب.
وهناك آراء أخرى تُرجع أصل كلمة «الشرطة» لأصول غير عربية وأنها مأخوذة من النظام الأمني عند البيزنطيين المعروف بـ«سيكوريتاس» بمعنى الحفظ والطمأنينة، مما يستدعي كلمة «سيكورتي». وهناك من يُرجع كلمة «الشرطة» إلى الكلمة اليونانية «شورطس» بمعنى الحارس، وهي الكلمة التي انتقلت إلى اللغتين السريانية والكلدانية وأصبحت «شورطا» ثم عُرفت في اللغة الآرامية بـ«شرطو»، ثم انتقلت إلى اللغة العربية بصورتها المعروفة حالياً. ويرجح المؤلف الرأي الأخير لأنه لا يقتصر فقط على التشابه اللفظي بل يتعداه إلى التشابه في المعنى ويدلل على ما يقوله بالتتبع التاريخي لانتقال الكلمة من اليونانية إلى السريانية والكلدانية والآرامية ثم إلى العربية.
وكان الحجّاج بن يوسف الثقفي يشترط في صاحب الشرطة أن يكون «دائم العبوس طويل الجلوس سمين الأمانة أعجف الخيانة لا يحنق في الحق على جرة، يهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة»، وهذا النص يبيّن أن صاحب الشرطة في العصر الأموي كان من المأمول أن يتمتع بصفات الحزم والصرامة والمتابعة الدائمة للأمور والأمانة وإيثار الحق دائماً وعدم رالانطواء على الحقد والغل وعدم الاستجابة لشفاعة أحد من كبار الناس في عمله. وهذه الأوصاف تتفق مع طبيعة الحجّاج الذي عُرف بالقسوة والشراسة والميل للعنف.
ومن استعراض أسماء أصحاب الشرطة قبل العصر العباسي، يمكن ملاحظة اقتصار الاختيار على رجال القبائل العربية واعتماده على العنصر العربي، وهذا يتوافق مع سياسة الدولة في اختيار عمالها من أهل العصبية والقوة حيث يقوم رجال الشرطة بالكثير من المهام الحساسة؛ منها مرافقة الخلفاء والأمراء والولاة لتنفيذ أوامرهم وحراستهم وحمل الحربة بين أيديهم. ولم تقتصر الشرطة على ذلك، بل شملت كذلك حماية أرواح الناس وممتلكاتهم وعلى سبيل المثال، وقبيل العصر العباسي في بلاد العراق، بلغ استتباب الأمن في ولاية زياد بن أبيه «665م - 673م» إلى حد أن أحداً لم يجرؤ على التقاط أي شيء متروك على قارعة الطريق، وكانت الدور تُترك مفتوحة الأبواب! وكانت الشرطة تقوم بالتحقق من صحة المعلومات التي تأتي إلى الخليفة أو الوالي عن طريق الناس. ويشمل عمل رجال الشرطة في هذ الصدد مقابلة من يريد الإدلاء بالمعلومات والاستماع إليهم ثم التحقق من صحة تلك المعلومات عن طريق الفحص الدقيق والتفتيش الشامل وبعدها يتم رفع تقرير مفصل للخليفة أو الوالي به نتيجة هذه التحريات.

ديوان الشرطة

ويؤكد المؤلف أن أهمية الشرطة في العصر العباسي الأول تكتسب مكانتها من طبيعة الأعمال التي سعت إلى القيام بها، حيث أكد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور «754م - 775م» ذلك في قوله إن الأركان الأربعة التي لا يصلح المُلك إلا بها هي: القضاء، والخراج، والبريد، والشرطة. وبناءً على ذلك خصص ديواناً جديداً للشرطة لم يكن له وجود من قبل.
ويوضح المؤلف أنه من الممكن تعريف الديوان كتنظيم إداري بأنه يشتمل على أربعة جوانب أساسية هي: مكان وموظفون ودفاتر وسجلات. وكان لشرطة المدن في هذا العصر مقر رئيسي ومقرات أخرى فرعية حيث عُرف المقر الرئيسي باسم الشرطة أو دار الشرطة ومجلس الشرطة. وكان موقع مجلس الشرطة الرئيسي في بغداد بالقرب من باب الجسر الذي يربط بين شطري المدينة. وفي مصر كان ذلك المجلس أو دار الشرطة يقع في «الفسطاط» قبل جامع «عمرو بن العاص» وهي الدار التي جُددت سنة 828م. أما مقر الشرطة بخراسان فكان بالقرب من المسجد الجامع في مدينة مرو. وكان صاحب الشرطة في بغداد يتم تعيينه من الخليفة العباسي نفسه، أما في الولايات فكان يخضع لإرادة الوالي غالباً. وفي حالات نادرة جداً يقوم الخليفة باختيار شخص ما وتعيينه في منصب صاحب شرطة إحدى الولايات. وعلى سبيل المثال حدث ذلك في مصر خلال العصر العباسي الأول حين بعث الخليفة المأمون برجل يسمى ابن سطام سنة 832م ليكون صاحب الشرطة في مصر. وقد يفسر ذلك الوضع الاستثنائي المخالف للمعتاد بأن الحالة الأمنية في مصر آنذاك كانت تحتّم ذلك؛ إذ كانت البلاد المصرية في هذه الفترة تعيش فتنأ داخلية واضطرابات كبيرة.
ويستعرض المؤلف أشهر فئات الشرطة في هذا العصر مثل «العسعس» وهم أصل الشرطة ونواتها التي منها تطورت حتى أصبحت نظاماً كاملاً من نُظم الدولة خلال العصر العباسي الأول. ويعرف «العسعس» بأنهم الجنود الذين يطوفون ليلاً بحثاً عن أهل الريبة، ونتيجة قيامهم بمهمة الطواف هذه أُطلقت عليهم مسميات «الطواف» أو «الطائف» أو «أصحاب الطوائف». وفي الأندلس عُرفوا إلى جانب اسم «العسعس» بمسمى آخر وهو الدرَّابون. ومن البدهي أنه يقوم رجال «العسعس» بأداء المهام المكلفين بها خير قيام حيث كان صاحب الشرطة يختارهم من بين رجاله الذين يتصفون باليقظة والنشاط والبصر الثاقب والذهن اللماح.
وفيما يتعلق بملابس الشرطة فقد كان لهم زي خاص يميّزهم عن باقي رجال الدولة العباسية، وفي ذلك الشأن يقول الجاحظ (868م): «لكل قوم زيٌّ؛ فللقضاة زيٌّ وللشرط زيٌّ». كما يذكر صاحب «كتاب الاقتضاب» أن رجال الشرطة كان لهم زي يُعرفون به. ويشير بعض الشواهد إلى أن هذا الزي كان عبارة عن قباء، وهو ثوب يُلبس فوق الثياب ضيّق الكمّين والوسط مشقوق من الخلف وهو أعون على الحركة. وهذا القباء كان أسود اللون ويرتديه صاحب الشرطة طوال فترة عمله بالشرطة، ويبيّن ذلك أنه لما أراد أبو البختري، والي المدينة في عهد الرشيد، تولية سعيد بن عمرو الزبيري الشرطة ألبسه السواد، ولما عزله قال له: «اخلع سوادنا».

مهام وأدوار متنوعة

يذكر المؤلف أن الكلاب البوليسية التي تًستعمل حالياً عُرفت أيضاً في العصر العباسي، وهناك مصادر تدل على أن رجال الشرطة آنذاك استخدموا بعض الكلاب لمساعدتهم في أداء مهامهم الأمنية. وتعد الحراسة إحدى المهام الرئيسية المعروفة عن الكلب، وفي ذلك ضُرب المثل العربي القديم «أحرس من كلب». ويقول الجاحظ في هذا الصدد: «ليس لحارث الناس ولحارس أموالهم بدٌّ من الكلب»، ولذلك كان يوجد كلب مخصص لكل حارس.
ومن مهام الشرطة حراسة الخلفاء والولاة وذلك لحماية أرواحهم سواء في مجالسهم أو في قصورهم ومنازلهم عامة. وكانت الشرطة ترافقهم في تجوالهم ومواكبهم أو في سفرهم. ويأتي أصحاب الشرطة في مقدمة العناصر التي كان الحكام، خلفاء أو ولاةً، يستشيرونها فيما يواجهونه من أمور. ومما يُروى في هذا الشأن أن والي خراسان أبا مسلم الخراساني لما جاءه أمر الخليفة المنصور بالقدوم إليه استشار صاحب شرطته نصر بن مالك الذي نهاه عن ذلك خوفاً من غدر المنصور، إلا أن أبا مسلم لم يأخذ برأي صاحب شرطته وذهب إلى المنصور فكان مصرعه. وكان المنصور نفسه يطلب مشورة المسيب بن زهير، صاحب شرطته بقوله: «قل فلا استغشك».
وتعد الرقابة من وسائل الشرطة المهمة في مكافحة الجريمة وضمان استقرار نظام الدولة العباسية وأمنها السياسي والاجتماعي والثقافي. واشتملت هذه الرقابة على نوعين؛ أولهما رقابة على الأماكن المشبوهة كالحانات والمقاهي والحمامات وأماكن الشرب واللهو، والآخر رقابة على الأشخاص الخطرين على الأمن مثل الغرباء والمشاغبين والمنحرفين والمشبوهين وأصحاب البدع والمخالفين ومثيري القلق.ويلفت المؤلف إلى أن هناك مهمة أخرى لجهاز الشرطة تتمثل في تتبع الخصوم السياسيين للدولة العباسية، المخالفين لسياستها، أو من يقومون بالتحريض ضدها.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».