تردّد إدمون حداد في الموافقة على دور «عاطف» المستفزّ في مسلسل «عالحد»، حين اتصلت به شركة الإنتاج، «الصبّاح أخوان»، وعرضته عليه. بلغ المخرجة ليال راجحة تردّده، فكررت المحاولة، هي التي لفتها أداؤه في فيلم «ورقة بيضا»: «لِمَ لا؟ هذا الدور لك، ولن أتراجع لتوافق». أطلعها على هواجسه، منها جرأة الدور الذي يبلغ ذروة النذالة باغتصاب بائعة سكاكر قاصر، سورية الجنسية، بلا أوراق ثبوتية، هربت إلى لبنان من الحرب والويل. استوقفه المشهد وخشي من الابتذال، فهدّأت المخرجة روعه وأجابت على أسئلته. اقتنع برؤيتها، وقدّم شخصية متقنة، مبدعة، حقيقية، بقدر ما هي كريهة وطافحة بالعقد.
لامع إدمون حداد في كل مجالات عمله، هو الشهير في لبنان بتقديم البرامج الساخرة والإعداد وصناعة المحتوى الإعلاني. تعلّم درساً منذ الصغر، رافقه في الكبر: «إن كان لا بدّ من إنجاز عمل، فانجزه حتى النهاية، بلا شوائب ونواقص. ذلك بمثابة احترام للنفس والآخرين. ومَن يقدّم عملاً نظيفاً سيحافظ على قيمته ويرتفع أجره».
من هنا، انطلق في قراءة شخصية «عاطف» الجدلية في المسلسل الموجود بحلقاته الـ12 على «شاهد». ومن دراسته لفن الإيماء في باريس، خلُص والمخرجة إلى تصوّر الكراكتير بالضبط كما هو: مرتبك، ثعلبائي، بخيل، استغلالي، حقير وطمّاع. فـ«عاطف»، زوج صيدلانية أعياها المرض وأقعدها في المنزل. تسلّمه الصيدلية أمانة فيحوّلها معبراً لتجارة الحبوب المخدرة. يبطش بالمبادئ ويدوس على الأخلاق.
تلتقي «الشرق الأوسط» ممثلاً يرى المهنة حرفة ويرفض تقديم الشخصيات كيفما كان. سرّه التأنّي، لا لتخوّفه من الدعسة الناقصة، بل لأنّه يخشى الندم على ما قد يسببه لنفسه من تسرّع ليس في مصلحة صورته. ينظر إلى التمثيل على هذا الشكل: «هو الرغبة في تجربة أشياء جديدة. ليس مهماً النجاح بقدر أهمية التجربة والرضا الذاتي حيالها. يخيفني عمل لا يضعني أمام تجارب مختلفة ولا يشكل إضافة. منحني (عاطف) فرصة لأجرّب وضْع إدمون في قالب غير قالبه. أحاول دائماً ألا أصطحبه معي إلى الكاميرا. الناس ينتظرون الشخصية، قبل الممثل. لا أتعمّد الهروب منه، بل أستعمله لأكون شخصاً آخر من خلاله».
تشاركَ الرؤية الفنية للدور مع المخرجة، وتبادلا الآراء. ركزا على مشيته وحركاته، وهي مشية ثقيلة لمنحه بعض التقدّم في العمر. و«عاطف» أصلع، يرفض مرور السنوات عليه، فيخبئ صلعه بشعر مستعار، تنزعه عن رأسه «تلجة» (دوجانا عيسى)، مقاومة اغتصابه لها في تلك الليلة المشؤومة. تتردد على لسانه عبارة «بعدني شاب بعجبك»، ممارساً الكذب للإيقاع بضحيته. يتماشى الشكل مع العمق، فتطفو على وجهه الاضطرابات النفسية وعقد النقص الكامنة خلف الدناءة والوضاعة والشرّ الإنساني.
يشترط إدمون حداد ثلاثة معايير لحضوره الدرامي؛ نوعية الإنتاج ومستوى الإخراج ومتانة النص، فيقول: «لا يتعمّد الممثل الغياب، لكنّه ينتظر الدور المناسب. البعض يظن أنّ اسمي اختفى في السوق، والحقيقة أنني موجود طوال الوقت في العمل وراء الكاميرا. أقلق من تغييب التجربة الإنسانية عن أي عمل قد أوافق عليه. فالممثل ليس موهبة وكاريزما فحسب؛ هو عصارة تجاربه. لا أكفّ عن تطوير الذات، وبصراحة أقول إنّ (عاطف) ما كان ليخرج على هذا الشكل قبل ثلاث سنوات. التجارب تصنع الممثل».
يتفرغ اليوم للكتابة الدرامية مع مجموعة كتّاب، وهي الشغف الأحب إلى قلبه، منذ كان طفلاً يستميله الأدب والحكايات والتاريخ. إنّها التجارب مرة أخرى، التي قد لا تكون محسومة النتيجة، لكنها زوّادة الإنسان: «قد أنجح أو لا. يكفي أنني أجرّب». يتروّى في الكتابة، كالتروّي في بناء الشخصيات، ويرفض الاستسهال: «جرّبته ولم أستطع تقبّله».
إدمون حداد درس المسرح ويهتم بالإخراج، حالماً، يوماً، بتوقيع اسمه على عمل فني. يتبنّى قاعدة أنّ «كل شي بوقته حلو»، فيدرّب نفسه على الشيء قبل الإقدام عليه: «الإخراج يتطلّب عمقاً يفوق عمق الكتابة والتمثيل. أطمح له وأتحضّر».
من أنتَ اليوم؟ ممثل؟ ساخر؟ معدّ برامج؟ صانع إعلانات؟ أم كاتب؟ فيجيب بأنه ممثل. ومن الممثل، يقدّم البرامج الساخرة ويجرّ الكراكتيرات الواقعية من الناس حوله نحو المُشاهد. ومن الممثل أيضاً، ينطلق نحو الكاتب، فيتصور شخصيات يعيشها الناس ويلتقون بها في الطرقات، ويجسّدها بصدق منبعه صميم الحياة.
وجانبه الكوميدي، لِمَ يحجبه؟ هو اللامع في السخرية من المرارات، يضع الإصبع على الجروح اللبنانية الملتهبة، فلِمَ يختار الغياب عن ممارسة دوره النقدي ورفع صوته العالي؟ يجيب بأسى: «الإنسان الساخر في داخلي مأزوم. لا قدرة لي على السخرية من واقع بلغ أقصى الجنون. ماذا أقول؟ ماذا أفعل حيال الجائعين والبردانين والمنهوبة أموالهم في المصارف؟ أي ضحكة ستردّ كراماتهم؟ أي سخرية ستعيد الاعتبار لوجودهم الإنساني المدعوس؟ كثر يلومونني، (عليك أن تحاول. لا يحق لك الانكفاء. الناس في حاجة إلى ضحكة، وهم متعطّشون لمن يخفف عنهم آلامهم). لا أستطيع الانفصال عن الواقع اللبناني، وهو كئيب لا مكان فيه للضحك». أعان الله.
إدمون حداد لـ «الشرق الأوسط»: التجربة أهم من النجاح
تميّز بشخصية «عاطف» الجدلية في «عالحد»
إدمون حداد لـ «الشرق الأوسط»: التجربة أهم من النجاح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة