حزن عميق لفقدان الطفل ريان

العاهل المغربي يعزي والديه

اللحظات الأخيرة لعملية إنقاذ الطفل المغربي ريان أورام قبل إعلان وفاته أمس (رويترز)... وفي الإطار صورة أرشيفية للطفل
اللحظات الأخيرة لعملية إنقاذ الطفل المغربي ريان أورام قبل إعلان وفاته أمس (رويترز)... وفي الإطار صورة أرشيفية للطفل
TT

حزن عميق لفقدان الطفل ريان

اللحظات الأخيرة لعملية إنقاذ الطفل المغربي ريان أورام قبل إعلان وفاته أمس (رويترز)... وفي الإطار صورة أرشيفية للطفل
اللحظات الأخيرة لعملية إنقاذ الطفل المغربي ريان أورام قبل إعلان وفاته أمس (رويترز)... وفي الإطار صورة أرشيفية للطفل

رغم الجهود المكثفة التي قامت بها عناصر الوقاية المدنية والسلطات المغربية من أجل انتشال الطفل ريان من بئر جافة في إحدى قرى محافظة شفشاون، فقد تم إخراجه منها وهو جثة هامدة، وذلك بعد أن قضى خمس ليالٍ عالقاً داخل البئر. وأصاب نبأ وفاة الريان المغرب وجميع الدول العربية بحزن شديد بعد أن تابعوا محاولات إنقاذه على مدى عدة أيام.
ونعى بيان للديوان الملكي المغربي الطفل ريان، قائلاً إنه على إثر الحادث المفجع الذي أودى بحياة الطفل ريان أورام، أجرى الملك محمد السادس اتصالاً هاتفياً مع والديه خالد أورام، ووسيمة خرشيش. وأعرب الملك محمد السادس، بهذه المناسبة الحزينة، عن أحر تعازيه وأصدق مواساته لكافة أفراد أسرة الفقيد في هذا المصاب الأليم. وأضاف البيان أن الملك محمد السادس «كان يتابع عن كثب، تطورات هذا الحادث المأساوي، إذ أصدر تعليماته لكل السلطات المعنية بقصد اتخاذ الإجراءات اللازمة وبذل أقصى الجهود لإنقاذ حياة الطفل ريان، إلا أن إرادة الله تعالى شاءت أن يلبي داعي ربه راضياً مرضياً».
كما عبر الملك محمد السادس عن تقديره للجهود الدؤوبة التي بذلتها مختلف السلطات والقوات العمومية والفعاليات الجمعوية، وللتضامن القوي والتعاطف الواسع الذي حظيت به أسرة الفقيد، من مختلف الفئات والأسر المغربية في هذا الظرف الأليم. وكانت فرق الإنقاذ قد واصلت أمس لليوم الخامس على التوالي عمليات الحفر للوصول إلى الطفل ريان داخل البئر.
وتمكنت فرق الإنقاذ أمس من حفر 4 أمتار يدوياً على مستوى أفقي بعد انتهاء عمليات الحفر العمودي في اتجاه مكان الطفل. وحين لم يتبق سوى أقل من مترين للوصول إلى الطفل تراجعت فرق الحفر وأفسحت المجال لفرق تقنية متخصصة من الوقاية المدنية لإكمال عملية الحفر يدوياً باستعمال وسائل دقيقة حتى لا يحدث أي انهيار يهدد حياة الطفل.
وتم استعمال أنابيب داخل تجاويف الحفر لوقاية العمال من خطر انهيار التربة، الأمر الذي مكنهم من التقدم بأمان. وأكد مصدر من السلطات المحلية أن أشغال الحفر الأفقي التي تتم يدوياً وبآلات كهربائية صغيرة لاعتبارات متعلقة بسلامة المنقذين اصطدمت بصخرة كبيرة جرى تفتيتها بعدما استغرق الأمر أكثر من 3 ساعات تفادياً لتصدع وتشقق التربة مخافة انهيار الحفرة أو البئر.
وtفي وقت سابق، شوهدت سيارة إسعاف مجهزة، وهي تقترب من مكان الحفر، في خطوة تظهر الاستعدادات لنقل الطفل على وجه السرعة، كما تم وضع طائرة مروحية طبية قرب مكان الحادث رهن الإشارة لنقل الطفل عند انتشاله على وجه السرعة.
وحظيت قضية الطفل ريان بتعاطف وتضامن واسعين لدى الرأي العام المغربي، وامتد التعاطف عربياً ودولياً، خاصة بعد انتشار صوره وهو يتحرك في عمق البئر.
وكان ريان قد سقط في بئر جافة، غير مغطاة وغير مسيجة، في ملكية عائلته، عصر يوم الثلاثاء الماضي. وبعد إشعار السلطات، تم تشكيل لجنة تتبع وإنقاذ وضعت عدة سيناريوهات لإنقاذ الطفل، وإيصال الأكسجين والماء إليه.
وبعد فشل محاولات إنقاذه من فتحة البئر، اعتمدت السلطات خطة القيام بحفرة موازية بعمق 32 متراً، وإحداث فجوة نحو البئر لإخراج الطفل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)