في سابق زمانه، كان نهر كولورادو من العمق والعرض بحيث لا يمكن اجتيازه إلا مجازفة وفي مناطق محددة. نهر كبير بطول 2330 كلم من الماء المتدفق من جبال روكي، شمالي ولاية كولورادو، وصولاً لمصبّه النهائي في خليج ولاية كاليفورنيا ماراً بولايات يوتا ليشق طريقه في أريزونا ونيفادا وكاليفورنيا قبل أن يصب في البحر على بعد 15 كلم من مدينة يوما في ولاية أريزونا.
سكنت أراضيه قبائل هندية عديدة من بينها هنود يوتا (اسم الولاية مشتق منها) وهوهوكم ونافايو وموهافي وكويشان وأباتشي، القبيلة الأشهر بينها. هذا إلى جانب ستة قبائل أخرى موزّعة على طول خط سيره.
اليوم يعاني النهر جفافاً ناتجاً عن قلة الأمطار ومساحات المزارع الواسعة التي تحيط به والتي تتطلب الكثير من الري.
الجفاف الموازي لهذا الوضع هو ذاك الذي تعيشه سينما الوسترن الأميركية. مثل ذلك النهر، كانت نشطة ومتدفقة ومتعددة. قبل نهاية الخمسينات كانت هناك نسبة عالية من أفلام الوسترن، رئيسية وغير رئيسية، تقدر بنحو 300 فيلم في السنة. النسبة بدأت تقل في الستينات. في الثمانينات أصاب الوسترن جفاف ملحوظ ما زال مستمراً إلى اليوم، مقارنة بما كان عليه هذا النوع من الأفلام سابقاً. ما بقي يشبه مستنقعات مائية قليلة حاضرة لكي تشي بالماضي أكثر مما تعد بمستقبل زاهر.
206 جوائز
لم يتوقف إنتاجها خلال السنوات القليلة الماضية. في كل عام هناك ما بين 20 و25 فيلماً وسترن أميركي جديد. في العام الماضي، 2021. بلغ العدد 23 فيلماً بعضها شهد عروضاً في صالات السينما، لكن معظمها توجه للعروض المنزلية إما من على المنصّات مباشرة أو بطرحها على أسطوانات.
ثلاثة أفلام رئيسية من بين هذه المجموعة تداولها الجمهور أكثر من سواها واهتم بها النقاد: «قوّة الكلب» لجين كامبيون وهو وسترن حديث (أي أن أحداثه تقع في القرن الماضي وليس ما قبله) و«السقوط الصعب (The Harder They Fall) لجيمس سامويل (بطولة سوداء) و«هنري العجوز» لبوتسي بونسيرولي الذي شهد إعجاباً عندما تم عرضه في دورة مهرجان «فينيسيا» الأخيرة.
«قوّة الكلب» وسترن حديث، أي أن أحداثه تقع في القرن الماضي وليس قبله. وهو كأفلام كلينت إيستوود في الثمانينات وكفن كوستنر في التسعينات عزز حضور النوع بنجاح ملحوظ (نال 206 جوائز من مناسبات سنوية ومحافل وجمعيات نقدية ومهرجانات. ويُنتظر له أن يكون حصاناً صعب المراس في سباق الأوسكار المقبل، لجانبه والفيلمان الآخران، هناك أفلام جيدة ولو أنها لم تستطع استيعاب حجم إقبال كبير من بينها «الابن الأخير» (The Last Son) لتيم ساتون و«آخر مبارزة»» (The Last Shoot Out) لمايكل فايفر و«المرأة التي سرقت العربة» (The Woman Who Robbed the Stagecoach) لترافيز ميلز و«مجرم مفقود» (Lost Outlasw) لداريل مابسون و«ذا بلزنت فالي وور» (The Pleasant Valey War) لترافيز ميلز أيضاً.
رغم أن معظم هذه الأفلام لا تحقق انتشاراً مرضياً لمنتجيها، فإنها توفرت في السنة الماضية وتوفرت طوال العشرين سنة السابقة كما لو أن صانعيها مصرّون على تحقيقها لأسباب عاطفية ونوستالجية أكثر منها واقعية.
لكن هذا بدوره غير مؤكد بالنظر إلى الإقبال الكبير الذي حظي به مسلسلان تلفزيونيان في العام الحالي وهما «يَلو ستون» مع كفن كوستنر («دانسينغ وذ وولفز») و«1883» مع سام إليوت (بدوره أحد وجوه الوسترن المخضرمة).
قوّة النوع
التقيت مؤخراً في بلدة بالم سبرينغز، ومن دون موعد، مع روجر فرابيير، أحد منتجي فيلم «قوّة الكلب» المحتفى به. لم يدم الحديث بيننا أكثر من عشر دقائق قبل أن يستأذن لركوب سيارته والانطلاق عائداً إلى لوس أنجليس. عشر دقائق كانت كافية لأن أطرح عليه السؤال الأكبر في بالي: ما سر قوّة الاستمرار في إنتاج أفلام الوسترن.
الأفلام الموسيقية قليلة. التاريخية قليلة. البوليسية التي تعتمد على الألغاز قليلة… لكن لماذا الوسترن ما زال يحظى بهذا الاهتمام… 23 فيلماً ليس بالعدد القليل.
أجاب: «أسأل كل من يخرج أو يمثل فيلم وسترن اليوم وغالباً سيقول لك لو توفر لي الاكتفاء بتحقيق هذا النوع من الأفلام للأبد، لما رفض. إنه الإرث الأميركي. تاريخنا الوحيد ثم حب وضع الصراع بين الخير والشر متقابلين بكل بساطة ومن دون عقد».
يرى فراميير أن الموجة ليست موجة بالفعل: «لو كانت موجة لتوقفت منذ سنوات. لكنه حب العزوف عن مواضيع الحاضر والعودة إلى الأمس. عندي حالياً سيناريوهان من هذا النوع وأعلم أن أكثر منها متوفر عند كل منتج وستوديو. معظمها ينتظر عودة النجاح التجاري للنوع لكي ينطلق. لكنها ليست موجة مطلقاً».
الوسترن هو إرث أميركي بالتأكيد ولأنه كذلك يبقى فيها أكثر مما يخرج للعرض خارجها.
هذا الإرث كانت له صولاته وجولاته لدى جماهير الفيلم العربي في الأربعينات والخمسينات والستينات. في الستينات بدأ النقد السينمائي عندنا ينظر إلى هذه الأفلام بتعالٍ واضح. لم يجد فيما تقصّه تلك الأفلام إلا حكايات الصراع على الأرض والذهب والمعارك بين قبائل المواطنين الأصليين والجنود الزرق. بالنسبة للنقد، تلك الأفلام لم تكن أكثر من اجترار لمفهوم البطولة فارغاً من أي معنى أو قيمة باستثناء قيمة البطولة الفردية في فيلم «يخدم الإمبريالية الأميركية»، كما كان يذهب البعض للقول.
لم يواجه أحد هذا المفهوم بإيضاح حقيقة أن أفلام الخمسينات اختلفت عن أفلام الأربعينات وما قبلها. تلك البعيدة كانت قريبة تماماً من مفاهيم القوّة المفرطة، حيث كان على الهندي الأحمر أن يُقتل لأنه متوحش ويرفض المدنية التي جاء بها الرجل الأبيض. عدائي لا يؤمن له وغزواته العشوائية التي تنتهي بقتل الأبرياء كان لا بد من مواجهتها بالقوّة.
لكن الخمسينات اختلفت. تميّزت بعدد من الأفلام التي تجاوزت «الستيريوتايب» المعمول به سابقاً وذلك بدءاً من «سهم مكسور» لأحد كبار مخرجي النوع دلمر ديفيز. هنا يحاول جيمس ستيوارت (واحد من وجوه الوسترن الأهم) ينقذ صبياً هندياً من الموت وينقله إلى خيام القبيلة، حيث يلتقي بحبه الأول ويجد نفسه في وسط شعب لا يعتدي على أحد إلا إذا اُعتدي عليه. الفيلم حمل مفهوماً جديداً ونال إعجاباً كبيراً (نال غولدن غلوبز ورشح لثلاثة أوسكارات).
لم تكن النظرة المختلفة للصراع بين الأميركيين الأصليين والأميركيين الآتين من أوروبا هي الوحيدة التي تغيّرت، بل دخلت سينما الوسترن في الخمسينات مرحلة تحوّل فني بحيث أنجبت أكبر عدد من الأفلام ذات المكانة الفنية بصرف النظر عما تطرحه.
من بين هذه الأفلام «البلد البعيد» (The Far Country) لأنطوني مان (أحد ستة أفلام وسترن رائعة لهذا المخرج في تلك الحقبة)، و«مبارزة عند أوكي كورال» (Gunfight at O.K Corral) لجون ستيرجز و«شَين» (Shane) لجورج ستيفنز و«سبع رجال من الآن» (Seven Men From Now) و«بوكانن يرحل وحيداً» (Buchanen Rides Alone)، كلاهما لبد بويتيكر (اسم كبير آخر في صنع أفلام الوسترن) و«منتصف الظهيرة» (High Noon) لفرد زنيمن من بين أفلام عديدة أخرى.
نضج فني
موقف النقد العربي المستعلي على النوع منع نفسه من النظر إلى الفوارق بينما استرعى اهتمام النقاد الأوروبيين ذلك المنحى الفني والإنساني الذي أخذت أفلام الوسترن تتمتع به. في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والدول الاسكندنافية أخذت الأنظار تتوجه إلى مخرجي هذه الأفلام بإعجاب ملحوظ. هنري هاذاواي وهوارد هوكس وراوول وولش وجون فورد ورعيلهم الذي بدأ الإخراج من الثلاثينات أصبحوا موضع دراسات النقاد في «كاييه دو سينما» و«بوزيتيف» و«سينما» وما صاحبها من مجلات نقدية رصينة.
نقاد السينما الغربيون هم من اكتشف كذلك قيمة أعمال بد بوويتيكر وجورج ستيفنز ودلمر ديفز وأنطوني مان وأندريه دتوث وروبرت ألدريتش وفريتز لانغ وغيرهم من الذين نشطوا في الخمسينات ومنحوا سينما النوع ملامح جديدة.
الفارق بين أفلام ما قبل الخمسينات وما بعدها كبير، لكنه ينضوي تحت حقيقة أن المخرجين المذكورين (سواء بدأوا العمل في الثلاثينات كما هوكس وفورد وسواهما أو من الذين أمّوا تحقيق أفلام الوسترن في فترة لاحقة (ديفز، ألدريتش، مان... إلخ) اشتغلوا على أنفسهم وعلى المعالجة وما استطاعوا حشده من حكايات جديدة.
في «ونشستر 73» لأنطوني مان (1950) حكاية تتمحور حول بندقية فاز بها جيمس ستيوارت وسرقها منه ستيفن مكنالي، لكنه خسرها في لعبة قمار لرجل ثالث، وهذا خسرها لرئيس قبيلة. البندقية سريعة الطلقات وقعت بين يدي ضابط في الجيش لفترة وجيزة لكنه أهداها لرجل ساعد صد الهجوم الذي قام به الهنود وهذا خسرها لشرير (دان دوراي) وهذا خسرها لمكنالي مرّة أخرى. كل هذا وبطل الفيلم يلاحقها من مكان لآخر.
في فيلم آخر لمان «المهماز العاري»، The Naked Spur سنة 1953) حكاية رجل قانون (جيمس ستيوارت) ينوي القبض على الشرير (روبرت رايان) طمعاً في المكافأة وكيف تتدخل عوامل عديدة تفرض حلولاً مفاجئة. أما في «القانون وجاك وايد» (The Law and Jake Wade) لجون ستيرجز (1958) نجد روبرت تايلور أسير رتشارد ودمارك الذي يريد استعادة مال مسروق.
في هذه الأفلام- العيّنات الثلاث هناك هنود حمر، لكن المسألة لم تعد أخياراً بيض وأشراراً حمر، بل تفعيلة لا تخلو من واقعية الحياة في تلك الآونة. والإخراج في قممه دوماً ليس على طريقة الأفلام الأوروبية ذات المنحى الذاتي والمنتمية إلى سينما المؤلف بخطوطها العريضة، بل على نحو تقديس فن سرد الرواية ومضامينها المختلفة على أفضل وجه.
في الستينات انتشر «الوسترن سباغتي»، سُمي هكذا رغم أن العديد من الإنتاجات كان ألمانياً وإسبانياً لجانب ما هو إيطالي. معظمها شوه الغرب ولم يفهم ثقافته مكتفياً بقصص بطولية عنيفة مع لقطات زووم وأخرى قريبة. حتى صوت الرصاص فيها كان مزيّفاً بالمقارنة.
لكن الاستثناء الأنجح كان من نصيب سيرجيو ليوني الذي جلب كلينت إيستوود لبطولة ثلاثة أفلام حققها تباعاً وباتت كلاسيكية. بعدها عاد إيستوود للوسترن الأميركي تحت إدارة دون سيغل وجون ستيرجز ثم تحت إدارته نفسها بعدما أم الإخراج ولا يزال.