«بلاد الطاخ طاخ»... الخوف في مرايا الحكاية

إنعام كجه جي تتناول أشكاله في مجموعتها القصصية الجديدة

«بلاد الطاخ طاخ»... الخوف في مرايا الحكاية
TT

«بلاد الطاخ طاخ»... الخوف في مرايا الحكاية

«بلاد الطاخ طاخ»... الخوف في مرايا الحكاية

رررتتناوب سبع أخوات الظهور على مسرح الحكاية، بعد أن تتولى الأخت السابعة تحريرهن بسرد مخاوفهن التي تخنقهن منذ سنوات، فهذه أخت تخاف افتراس المرض، وأخرى تخشى الهجر، وأخريات مستسلمات أمام أشباح الزمن والحرب والفقد، وذلك الرعب الدفين من الذات، بينما تولت الشقيقة السابعة مهمة التخفف من الخوف عن شقيقاتها عبر مرايا الحكي، قائلة في مطلع حكيها: «نحن سبع شقيقات، كلنا خوافات».
«الخائفات» هي واحدة من اثنتي عشرة حكاية تقدمها الكاتبة والروائية العراقية إنعام كجه جي في كتابها القصصي «بلاد الطاخ طاخ» الصادر أخيراً عن الدار «المصرية اللبنانية» في القاهرة.
يتم تنفيس الخوف، الذي يسري في فضاء المجموعة القصصية، تارة بالسخرية، وتارة بالحلم، فتبدو هزيمته وكأنها نشاط جمعي، ونضال مشترك، كتلك الرحلة الخيالية الجامحة التي قامت بها الأخوات السبع فقادتهن للانتصار على ميراث الخوف المُقيم، الذي يتسرب للقارئ، فيشعر بالتماهي مع سياقه المُظلم بشكل أو بآخر. لكن تبدو لحظة الانتصار المجازي للأخوات الخائفات لحظة انكشاف صادقة ومرآوية لحقيقة الخوف، فيغدو العالم بعدها شفافاً، والخوف «مجرد وحش مُزمجر يمكن تقييده، وهي لحظة نجد فيها «الشقيقات السبع قد استعدن رشداً فقدنه من قسوة الخوف».

مرض الحنين

هذا الخوف من «أشباح الحياة»، ليس الأوحد في «بلاد الطاخ طاخ»، فهناك الخوف من النسيان، والخوف من الاختفاء «وراء قشرة الموت»، كما يبدو أبطال المجموعة في حالة استنفار جماعي لجمع شتات الذاكرة، واللواذ بها من فجوة التناسي المُتعمد. ففي قصة «عارية في اللاذقية» تقطع الزوجة آلاف الكيلومترات، عابرة حدود قارتين، بصُحبة رُفات زوجها النحات العراقي البارز، لتدفنه في أرض منطقته، «الوزيرية» ببغداد، حسب وصيته: «قال إن علينا إحراق جثته ونثر رماده في المقبرة الإنجليزية في الوزيرية».
وتبدو أحداث انتقال الزوجة برُفات زوجها، الذي تُوفي في باريس، إلى وطنه العراقي، معجونة بالفانتازيا والألم، رحلة تصطحب فيها ما بقي من الزوج على متن الطائرة لنثر رفاته في وطنه، وعلى مدار الرحلة تستدر ذكريات الحب المنثورة بين وطن ومنفى، ومعها تلهث أسئلة يُجددها الموت، لا سيما عن الحرب التي تستخف دوما بخطط البشر وأحلامهم: «لكن حروبا غير ضرورية أجبرتنا على العودة إلى فرنسا»، تقول الزوجة وهي تتذكر سنواتها مع زوجها في بغداد قبل الحرب، حيث حقق زوجها هناك حلمه بتدريس النحت في أكاديمية الفنون لكنه، بعد أن كان «عمودا من حديد، أصيب بداء غريب وصار خردة، هل يكون مرض الحنين إلى الوطن؟».

رفقة وفية

تبدو المسافة بين الوطن الأم والوطن الثاني عبر قصص المجموعة، مُترعة تفصيلات نوستالجية عذبة ومؤرقة، تسكنها أنفاس الحنين المُقيم في وجدان إنعام كجه جي، المُقيمة في فرنسا منذ سنوات طويلة، فلا كاد يفارق كتاباتها ذلك النشيج العراقي وعبراته، وعكسته في أعمالها الروائية، ومنها «الحفيدة الأميركية» و«طشاري» و«النبيذة».
يضفي الصوت النسائي على «بلاد الطاخ طاخ» كثيرا من العذوبة والحنين، كما في تلك المشاهد، التي تجمع فيها بطلات المجموعة، المنتميات لبلدان عربية مختلفة، المرايا وأقداح الشاي وماء الورد وأغاني ليلى مراد، كآليات دفاعية ضد تقدم العمر، وبرودة الغربة.
ففي قصة «مرآة كرداسة» تُغرم البطلة التونسية بمرآة عتيقة في دكان للتحف بمنطقة كرداسة بالقاهرة، وتنتقل العدوى لصديقتها في الحال، فتخرجان من كرداسة بمراياهما المُطعمة بالصدف، ويبدو مشهد انتقالهما بالمرآتين من مطار القاهرة إلى فرنسا، وهما مُغلفتان بلفافات من الورق الأسمر والإسفنج حافلاً بالسخرية، وكذلك التشبث بالحنين، الذي يبدو في المجموعة القصصية وكأن له مقعدا دائما في الطائرات.
تبدو المرايا بئرا للحكايات، لا حدود لقدرتها على تخزينها، وكأنها تسكن البيوت مُتنكرة وراء خشب وزجاج «تأخذ منا وتعطينا»، كما تقول إحدى البطلات، فالمرآة «تشهد صولاتنا وخيباتنا وتؤازرنا وتواسينا مثل رفيقة وفية».

رواح ومجيء
وكما يحتفظ الأبطال برماد الموت، ووجوه أصدقائهم في المرايا، يحتفظون كذلك بالصور الفوتوغرافية للأموات ويحادثونها، ويُخبئونها إذا لزم الأمر، وشعروا بتهديد الأحياء لها، فمن مات ما زال يعيش داخل إطار الصورة، هكذا آمنت بطلتا حكاية «صورة المرحوم»، اللتان جمعتهما مصادفة غريبة، تثبت أن حكاياتنا ما هي سوى طرف موصول بحكايات الآخرين. فالبطلة التي تعمل في الصحافة تجد في حكاية عاملة النظافة الجزائرية «هوارية» أصداء لعالمها الخاص: «صوت هوارية يأخذني إلى تتمة الحكاية. يقودني إلى طرف يخصني منها لأكتشف أن قصتي ليست ملكي. تتناسل تجارب البشر وتتشابه. جيرة تقارب بين المتباعدين وتُغلق القوسين». وتستطرد: «بعد سنوات من رؤيتي لهوارية كل يوم وسلامي عليها في الرواح والمجيء، أشعر للمرة الأولى بنوع من القرابة التي تجمعنا. أتآخى معها في رد الفعل العفوي. نلتقي في نقطة بالغة الحراجة».
تحمل تأملات البطلة نشيجا يتشكل في أجواء المجموعة كواحد من أبرز أسئلتها، بل مفتاحها الخاص، الذي تسمع له أصداء على مدار حكايات الشخصيات، وهو من يملك أطراف الحكاية.



شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
TT

شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية. تحضر المرأة بقوة في هذا الميدان، وتتجلّى في نماذج ثابتة تتشابه في قالبها الثابت الجامع، وتختلف في عناصر تفاصيلها المتعدّدة المتحوّلة. يظهر هذا القالب الواحد بشكل جلي في شاهد خرج من مقبرة المقشع، يمثّل سيدة ترتدي اللباس التقليدي المتعارف عليه. ويبرز هذا التباين بشكل خاص في شاهد آخر خرج من مقبرة الشاخورة، يُمثّل سيدة تتميّز بأناقتها المترفة.

بين عام 1992 وعام 1993، أجرت بعثة محلية حملة تنقيب واسعة في مقبرة أثرية تقع في الشمال الشرقي من مملكة البحرين، تجاور قرية المقشع وتُعرف باسمها. أدّت تلك الحملة إلى الكشف عن مجموعة من اللقى المتعددة الأنواع، منها شاهد قبر عمودي من الحجر الجيري يبدو أقرب إلى منحوتة ثلاثية الأبعاد، عُرض للمرة الأولى في باريس ضمن معرض مخصص لآثار البحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في ربيع 1999. يبلغ طول هذه المنحوتة 37 سنتمترا، وعرضها 17 سنتمترا، وتُمثّل سيدة منتصبة ترتدي عباءة طويلة تلتف حول رأسها وجسدها على شكل المعطف اليوناني التقليدي. يعلو هذا المعطف ثوب من قطعة واحدة يظهر منه طرفه الأسفل، وفقاً للقالب الكلاسيكي المعهود الذي عُرف في سائر الشرق الهلنستي.

يوحي طول المنحوتة بأنها تجسّد تمثالاً نصفياً، مع ظهور إضافي للقسم الأعلى من الساقين المتمثّل في الوركين. يبدو القالب في ظاهره يونانياً تقليدياً، غير أن الأسلوب المتبع في نقش ثنايا العباءة الملتفّة حول القامة يعكس أسلوباً شرقياً مغايراً يظهر في اعتماد شبكة من الخطوط المتوازية هندسياً تنسكب حول القامة وتحجب مفاصل البدن بشكل كامل. تُمسك السيدة بيدها اليسرى طرف العباءة الأوسط، وترفع ذراعها اليمنى نحو أعلى صدرها، باسطة راحة يدها، وفقاً لحركة تقليدية تميّز بها الفن الإيراني القديم، في زمن الإمبراطورية الفرثية التي امتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات، في ما يُعرف في زمننا بوسط تركيا، إلى شرق إيران، وسادت على طريق الحرير، وأضحت مركزاً للتجارة والتبادل التجاري والاجتماعي في القرنين الميلاديين الأولين. يظهر هذا الطابع الشرقي كذلك في نحت سمات الوجه، وفي نقش ملامحه وفقاً لطراز خاص يغلب عليه طابع التحوير والاختزال.

العينان لوزتان واسعتان مجرّدتان من أي تفاصيل، وأجفانهما محدّدة بوضوح. الأنف متّصل بخط واحد مع الجبهة، والفم كتلة بيضاوية أفقية يخرقها في الوسط شق يفصل بين الشفتين. تعلو الجبين خصل من الشعر نُقشت على شكل شبكة هندسية تحاكي في صياغتها وريقات نبات النفل المتجانسة، وتعكس هذه الشبكة كذلك أثر التقاليد الفرثية التي بلغت مناطق واسعة من الشرق القديم. تختزل هذه المنحوتة في صياغتها قالباً اعتُمد بشكل واسع في البحرين في الحقبة التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، كما تشهد مجموعة كبيرة من شواهد القبور الأنثوية التي عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عديدة تعود إلى هذه الدولة الجزيرية الواقعة على الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية.

ساد هذا التقليد بشكل واسع كما يبدو، غير أن هذه السيادة لم تحدّ من ظهور تنوّع كبير في العناصر التي تهب القالب الواحد أوجهاً متجدّدة. تتجلّى هذه الخصوصية في شاهد قبر عُرض ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012. خرج هذا الشاهد من مقبرة الشاخورة الأثرية شمال غرب القرية التي تحمل اسمها، على مقربة من جنوب شارع البديع، شمال المنامة، وهو على شكل كوّة من الحجر الجيري يبلغ طولها 46 سنتمتراً، وعرضها 39 سنتمتراً. تتكوّن هذه الكوّة من عمودين يعلو كلاً منهما تاج مجرّد، وقوس عريض يخرقه شق في الوسط، ويُعرف هذا القوس في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي بـ«قوس المجد». وسط هذه الكوّة، على سطح الخلفية الأملس، تبرز قامة أنثوية ناتئة، نُقشت ملامحها وفقاً للأسلوب التحويري المختزل الذي اعتُمد بشكل واسع في البحرين.

تشكل النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان

يتكرّر القالب المألوف. تمسك السيدة بيدها اليسرى طرف وشاحها، وترفع راحة يدها المبسوطة نحو صدرها في وضعية الابتهال المألوفة، غير أنها تكشف هنا عن شعرها الطويل، على عكس التقليد المتبع. يتكوّن هذا الشعر من كتلتين متوازيتين يفصل بينها شق في وسط أعلى الرأس، وتزين هاتين الكتلتين شبكة من الخطوط الغائرة ترسم ضفائر الشعر المنسدلة على الكتفين، كاشفتين عن أذنين كبيرتين، يُزين طرف كل منهما قرط دائري. يحدّ العنق العريض عقدان يختلفان في الشكل. يبدو العقد الأسفل أشبه بسلسلة تحوي في وسطها حجراً مستطيلاً، ويتكوّن العقد الأعلى من سلسلة من الأحجار اللؤلؤية المتراصة. حول معصم الذراع اليسرى، يلتفّ سوار عريض، يجاوره خاتم يظهر في الإصبع الخامسة المعروفة بالخُنصر. يماثل الوجه في تكوينه وجه المنحوتة التي خرجت من مقبرة المقشع. الوجنتان مكتنزتان. العينان لوزتان ضخمتان مجردتان من البؤبؤين. الأنف كتلة مستطيلة ومستقيمة. والثغر منمنم مع شق بسيط في الوسط.

يحضر هذا النموذج المميز بشكل مغاير في قطعة أخرى من مقبرة الشاخورة، عُرضت كذلك في موسكو، وهي تمثال جنائزي منمنم على شكل لوح جيري، يمثّل سيدة أنيقة يعلو رأسها أكليل عريض يتكون من سلسلة من المكعبات المتوازية. ترخي هذه السيدة ذراعها اليمنى على وركها المنحني بشكل طفيف، وترفع ذراعها اليسرى نحو وسط صدرها، كاشفة عن سوار يلتف حول معصمها.

أُنجزت هذه القطعة على الأرجح في القرن الميلادي الأول، وأُنجز شاهد قبر المقشع وشاهد قبر الشاخورة في مرحلة لاحقة، بين القرن الثاني والقرن الثالث. وتشكل هذه النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان، جامعاً بين تقاليد متعدّدة في قالب محلّي خاص.