«روتردام الدولي»: استبدال فيلم الافتتاح بسبب «كورونا»

المهرجان السينمائي الهولندي حشد عدداً كبيراً من الأفلام ملغياً الحضور الشخصي والفعلي لجمهوره

فيلم الافتتاح المنسحب «على طول الطريق»
فيلم الافتتاح المنسحب «على طول الطريق»
TT

«روتردام الدولي»: استبدال فيلم الافتتاح بسبب «كورونا»

فيلم الافتتاح المنسحب «على طول الطريق»
فيلم الافتتاح المنسحب «على طول الطريق»

فيلم الافتتاح للدورة الـ51 من مهرجان روتردام السينمائي يبدو واحداً من تلك التي تتوخى جذب الاهتمام إلى الموضوع أكثر مما تنجح في معالجته.‬
المهرجان الهولندي الذي سعى منذ البداية لأن يكون المنافس القريب من مهرجان برلين حشد هذه السنة عدداً كبيراً من الأفلام. كثير منها لافت للنظر والاهتمام. في زمن الوباء قرر قبل أسابيع قليلة من افتتاحه في 26 من يناير (كانون الثاني) الحالي أن يلغي الحضور الشخصي والفعلي لجمهوره ومجتمع الإعلام، واللجوء إلى النت لعرض أفلامه عليه. السبب لا يحتاج إلى ذكر. هذا هو زمن صعب وغريب.
لكن ما هو أصعب وأغرب أنّ نهر السينما لم يتوقف وأعداد الأفلام التي تُنتج وتُوزّع إما على الأثير أو في صالات السينما أو في المهرجانات عموماً مستمر بـ«كورونا» ومن دونه.
وفي حين أنّ بعضنا يتوقف هذه الأيام عند أفلام كان يمكن أن تمر من دون لغط، مثل «أميرة» و«أصحاب ولا أعز» وأن تُنسى بعد حين وجيز، نشهد سعياً متواصلاً من قِبل صانعي الأفلام حول العالم لدخول المهرجانات كافة. ليس أن كل فيلم منها يستحق الاشتراك في مهرجانات العالم، لكن معظمها مصنوع ومشغول عليه وفي البال أن يدخل أحد المهرجانات الكبيرة الثلاث برلين (بعد أيام) وكان وفينيسيا.
«أصحاب ولا أعز» لوسام سميرة، ليس من عروض روتردام ولو كان لمر بقدر من الإعجاب لم يحرزه بين قطاع كبير من الذين شاهدوه (وعدد من الذين هاجموه من دون أن يشاهدوه) في ربوعنا العربية. السبب هو السرعة في الانتقاد وسهولة الانحياز مع وضد على أسس غير صحيحة.

صف أول
قائمة المهرجانات الأساسية حول العالم تطول، لكن تصنيفها حسب أهميتها بالنسبة لصانعي السينما ولنا نحن النقاد لا يتغير كثيراً. هناك المهرجانات الثلاث الأولى، تلك المذكورة منذ قليل، وهناك سبعة في الصف التالي هي روتردام الهولندي، وصندانس الأميركي، وتورونتو الكندي، ولوكارنو السويسري، وكارلوفيفاري التشيكي، وسان سابستيان الإسباني، ولندن البريطاني. هذا ما يجعل عدد المهرجانات التي لا بد من حضورها لمن يرغب في متابعة الجديد والمثير من التجارب والأفلام عشرة.
بعد ذلك هناك صف ثانٍ، من الممتع أن يحضره المرء، إن لم يكن بسبب أفلامه فبسبب جمال موقعه أو هدوئه أو اختصاصه. في هذا النطاق «ترابيكا» في نيويورك، و«سان فرانسيسكو» و«بالم سبرينغز» في ولاية كاليفورنيا، و«فيزيون دو ريل» السويسري وIDFA التسجيلي (في العاصمة الهولندية أمستردام) و«أنيسي» الفرنسي المتخصص بالرسوم المتحركة، وحفنة قليلة من هنا وهناك لا يمكن تجاهلها كاختيار ثانٍ. كثير منها يوفر أفلاماً جديدة لم تُعرض سابقاً، وعدد كبير يجمعه من تلك المهرجانات الأولى.
بالنسبة لروتردام، فإنّ المهرجان انطلق مرّتين. الأولى في سنة ميلاده قبل 50 سنة، والثانية قبل نحو 25 سنة عندما قرر أنّه لا يريد أن يلعب دور الممهد لمهرجان برلين (كون المسافة بينهما لا تتعدّى أسبوعين) بل لا بد له من القفز إلى الواجهة الأولى وترك الأثر الكبير الذي يتوخاه. كان ذلك طموحاً كبيراً والبعض اعتقد أنّ المنافسة لا ريب فيها.
هذا الاعتقاد صحيح. المهرجانان يستوليان على أهم ما هو متوفر في هذه الحقبة من السنة. طبعاً الميزان يميل لصالح برلين الذي يسبق روتردام بنحو أكثر من عقدين أسس خلالهما نفسه على ناصية الطريق الرئيسي بين شوارع الأفلام وقنواتها. لكن من يراجع خطوات روتردام الحثيثة وتاريخه القريب يدرك أنّ المهرجان حفل سابقاً، وكما في هذه الدورة، بأعمال لا يمكن تجاهلها. كونه يقع في بداية السنة يجعله يجذب سريعاً أعمالاً لافتة منتقاة بعناية، وعدداً من الأعمال التي لا ينتمي مخرجوها إلى المهرجانات الثلاث الأكبر («برلين» و«فينيسيا» و«كان») كزبائن مداومين.

استبدال
فيلم الافتتاح تغير قبيل بدء هذه الدورة من «روتردام». حتى ساعة إعلان انتقاله من الصالات الكبيرة إلى بيوت المشتركين قرّر أصحاب فيلم «على طول الطريق» (Along the Way) للمخرجة الهولندية مييكي دو يونغ، سحب فيلمهم من المهرجان من دون سبب معلن رسمياً، لكن السائد هو أنّ المنتجين والمخرجة رأوا أنّهم يفضلون الانتظار بضعة أشهر لن يكون الوباء فيها سبباً لدفع الفيلم في عروض منزلية عبر قنوات التحميل.
بمقارنة ذلك الفيلم مع الفيلم الذي انتخب بديلاً، وهو «أرجوك يا حبي» (Please (Baby Please لمخرجة أخرى، هي الأميركية أماندا كرامر، يتمنى المرء لو انسحب هذا الفيلم عوض انسحاب ذاك.
هذا التمني له دواعيه على صعيد الموضوع على الأقل. ففيلم «على طول الطريق» هو فيلم رسالة حول فتاتين توأم من أفغانستان تحاولان الهرب غرباً من جحيم حياتهما ليواجها جحيماً آخر قوامه مهرّبو البشر والمخدرات وأصحاب النوايا الشريرة، المنتشرون على الحدود التركية والإيرانية الذين قد يتعرّضون للفتاتين زهرة وفاطمة بالأذى لو استطاعوا الوصول إليهما.
فيلم أماندا كرامر لا علاقة له بما يدور في عالمنا من أحداث، بل له علاقة بما يدور في الصدور من أهواء عاطفية تقع لدى زوجين حدث أنّهما كانا يتمشيان في إحدى الحدائق العامّة ليلاً عندما شهدا عصابة من الشبّان ترتكب جريمة قتل. يتبادل الزوجان وأحد أفراد العصابة نظرة طويلة تقودهما للوقوع في حبه من النظرة الأولى.
بالنسبة للزوج طالما شكا وتصرّف على أساس أنّه غير راضٍ على أنّه وُلد رجلاً. بالنسبة للزوجة طالما شكت من أنّ زوجها حائر في جنسه. الشاب تَدي يبدو خلاصهما معاً. إذا ما نجحا في جذبه سيمنح كليهما ما يبحث عنه من الحب والجنس.
تَدي هو اسم جائزة خاصة بالأفلام المثلية والمنحرفة التي تُمنح للفيلم الذي يناسب هواها في مهرجان برلين، والفيلم الجديد - عن قصد أو بدونه - يتّخذ منه اسم الشاب (يؤديه كارل غلوزمان) والهدف هو أنّه إذا ما أخفق الفيلم في استحواذ جائزة «روتردام»، فلربما فاز بواحدة من جوائز الجمعيات المثلية في الولايات المتحدة أو خارجها. هو بالتأكيد موجّه لهذا الفريق من المشاهدين ولجمهور المهرجانات ككل.
المثلية ليست في الموضوع فقط، بل في الطريقة التي أخرجت بها كرامر فيلمها. يتأتى ذلك عبر التصاميم الفنية للأماكن (المنازل تبدو كما لو أنّها مما خلفه المخرج جون ووترز في بعض أفلامه)، وعبر تفاعل الكاميرا مع الموضوع ومنحه ذلك القدر من الاضطراب. يجاور كل ذلك طروحات تتمحور حول ما إذا كانت الرجولة هي فعلاً بتلك الأهمية كما نعتقد.

خارج التصنيف
فيلم آخر في المسابقة هو للآن أفضل ما شوهد فيها، عنوانه «الفائض سينقذنا» Excess Will Save Us. العنوان بالإنجليزية وكذلك عناوين الفصول السبعة التي يأتي الفيلم عليها، لكن الفيلم فرنسي الأماكن والشخصيات والمضمون. فوق ذلك، هو فيلم من خارج التصنيف، لا هو وثائقي ولا هو روائي ولا هو - أيضاً - دوكيودراما، كما يحب البعض تسمية أعمال تخلط بين النوعين.
«الفائض سينقذنا» عبارة عن سجل تاريخي في يومنا هذا لقرية في شمال فرنسا، اسمها فيلييرو؛ يبدأ برجل يشرح وهو واقف على ربوة عالية، لكاميرا بعيدة عنه، أنّه استيقظ ليلاً على أصوات انفجار. «لا بد أنّهم الإرهابيون». حركته وهو يصف ذلك كوميدية «بانغ… بانغ… بانغ». وعلى أساس ذلك الصوت تم الاتصال بالشرطة، فهرعت سيارات الأمن ومكافحة الإرهاب والقوة الخاصة والإسعاف والإطفاء (نحو 50 حافلة) إلى القرية تحسباً، فلربما تكون يد الإرهاب قد أخذت تمتد إلى القرى البعيدة والخالية من كل عنصر جذب. تسخر المخرجة من دون أن تبتسم وهي تقف في نهاية الفصل الأول واصفة قريتها وتقول: «لا محطة قطار، لا شوبينغ مول، لا صالة سينما، لا مسبح، لا صيدلية، لا صالون نسائي».
رغم ذلك، الفيلم في نحو ساعتين حافل بالملاحظات عن أناسٍ يشكّلون عماد تلك القرية ومشاكلها الصغيرة - الكبيرة. بعد إشاعة أنّ هناك هجوماً إرهابياً، هناك يد خفية تحرق مستودع أعلاف وبندقية صيد تقتل الطيور ومشاكل بين أب متعصّب وابنته التي تحب عربياً (يعيش في المدينة). ثم هناك قصّة حب والد المخرجة بامرأة كانت تعمل لديه قبل سنوات عديدة ولم يلتقيا منذ ذلك الحين.
لا تحاول المخرجة مرجان دزيريلا - بيتيت تقصّي ما يدور كمحققة، لكنّها تتوقف في فصولها اللاحقة على وقائع تدلي بالكثير. والدها في غمرة سكره يقتل دجاجاته. يهوي عليها ليلاً بالضرب حتى يقتلها. تدخل ابنته صباح اليوم التالي، توقظه وتسأله، لماذا فعل ذلك. يدّعي أنّه لا يتذكّر شيئاً مما تقول. بعد قليل يؤلّف مع زوجته حكاية مفادها أنّ كلب جاره هو الذي هاجم الدجاجات وقتلها. الكذبة تنتشر ويؤخذ بها وها هي الزوجة تجمع تواقيع أهل القرية لاتخاذ إجراء ما بحق الكلب. على أنّ قاتل الدجاجات لن ينتظر. سيأخذ بندقيّته ويطلق النار على الكلب. هذا يتم خارج الكاميرا.
الأمر الثاني هو عندما أنجزت المخرجة فيلماً قصيراً قبل ثلاث سنوات (وبالعنوان نفسه) قُبِل في مهرجان «كليرمو - فيران» للأفلام القصيرة. لا نرى الفيلم، بل تعرض لنا كيف تصرّف والداها عندما جاءهما الخبر بأنّ فيلمهما قد قُبل في مسابقة المهرجان.
ينطلق والد الفتاة وزوجته إلى المدينة. نسمعه يردد أن «كليرمو - فيران» هو «أعظم مهرجان في العالم»، وحين يعود منه لاحقاً للقرية، يُخبر جميع من حوله أنّه بات «نجماً سينمائياً هناك». نراه يقرّر وزوجته ترك القرية إلى تلك المدينة ليلتقي بـ«جمهوره» ويستثمر نجاحه (!).
على الرغم مما يثيره الفيلم من مرح ومشاهد فكاهية، فإنه فيلم عابق بالدكانة والنقد. عرض المخرجة الشابة مرجان لما يدور في القرية يبدأ مبهجاً من ثمّ يتدرّج في الدكانة. مع بلوغها الفصل السابع، تكون وصفت شخصيات الفيلم (بمن فيهم أقربهم إليها)، بنعوت شديدة، لا كلاماً بل من خلال ما يرد من مفادات خلال العرض. بالنسبة لها، قريتها هي محفل أكاذيب وقتل لحيوانات بريئة (اللقطة الأولى من الفيلم لحمامة مقتولة) ورجالها عنصريون (يُطرد العربي من حفل العرس، مما يقطع العلاقة بينه وبين الفتاة التي لاحقاً ما تنزح صوب المدينة بدورها). حتى في شجار يقع بين رجلين من القرية صوّرته المخرجة بالتركيز على منظر طبيعي. نسمع الشجار ولا نراه. يصف فيه أحدهما الآخر بأنّ لكنته بلجيكية كمأخذ عليه. نوع من الإهانة والتشكيك بفرنسيّته. أصواتهما تتعالى ولاحقاً ما نسمع انتقال الشجار الشفهي إلى جسدي… لكن المخرجة تؤثر عدم تصويره. المضمون يصل بكامله.
لا علم لنا بأين تدخلت المخرجة لتطلب من شخصياتها إعادة أداء ما قامت به في حياتها، لكنّ المؤكد أنّها تصوّر كل شيء من زاوية تسجيلية بحتة. لا دراما في الأداءات ولا تناقض بين وقائعه. تضمن المخرجة لفيلمها وحدة نص ووحدة أسلوب رائعتين.
إذ يتدرّج الفيلم من نكهة مرحة إلى أخرى مُرّة وداكنة، تتدّرّج تلك الدكانة بدورها لتغطي مساحة الفيلم بأسره، صورة ومفاداً. هذا فيلم عن عالم غير مرتاح في شأنه. يَخاف وبدوره مُخيف. معاكس لما نتداوله عادة من مفهوم أنّ للريف وقراه الصغيرة مناخ آمن وطيّب ووديع. فيلم «دزيريلا - بيتيت» ينقل واقعاً غير مسبوق على هذا النحو، من مزج ناجح للروائي من دون دراما، والتسجيلي من دون وثيقة.


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».