ماجدة الرومي في حفل العُلا... وجع على لبنان وعرفان للسعودية

طبطبت على جراح اللبنانيين... وشَدَت بـ17 أغنية من روائع أرشيفها الفني

ماجدة الرومي تشدو على مسرح المرايا في العُلا بـ17 أغنية تدهش التواقين للطرب الأصيل
ماجدة الرومي تشدو على مسرح المرايا في العُلا بـ17 أغنية تدهش التواقين للطرب الأصيل
TT

ماجدة الرومي في حفل العُلا... وجع على لبنان وعرفان للسعودية

ماجدة الرومي تشدو على مسرح المرايا في العُلا بـ17 أغنية تدهش التواقين للطرب الأصيل
ماجدة الرومي تشدو على مسرح المرايا في العُلا بـ17 أغنية تدهش التواقين للطرب الأصيل

ما بين عرفان الجميل وغصة الخذلان، وقفت المطربة اللبنانية ماجدة الرومي على مسرح المرايا في العُلا (شمال غربي السعودية)، مساء الأول من أمس، في حفل ضخم اختلط فيه الطرب والفن مع الوجع والشتات، عبر كلمات عميقة أطلقتها من أعماق قلبها، قبل أن تشدو بـ17 أغنية من روائع أرشيفها الفني الغزير، الذي أذهل الجمهور المكتظ والتوّاق لعذوبة صوتها المخملي.
أحيت الرومي حفلها برفقة الفرقة الموسيقية اللبنانية، يقودها المايسترو لبنان بعلبكي، وفريق لبناني بالكامل يعمل على الإضاءة والإخراج والصوت ويقف خلف الكواليس، تكلمت باسمهم، قائلة: «نمسي عليكم بالحب، ونوجه تحية من القلب إلى المملكة العربية السعودية القوية العليّة، ولشعبها الكريم وقيادتها الجليلة، البلد الحبيب الذي لم يستقبلنا نحن اللبنانيين إلا بالترحاب، بكل رعاية وبكل اهتمام، خلال أسوأ سنين الحرب اللبنانية، ولليوم، وكل يوم».
ولأن لبنان يحضر دائماً في وجدان ماجدة الرومي، بفرحه ووجعه، قالت: «صلواتنا نحن اللبنانيين للبنان، لبنان حر مستقل... نحن اللبنانيين انتماؤنا عربي، سيادتنا محفوظة بصمودنا، مهما يطول زمن الضيق، صلاتنا لله أن يحفظ أمن وسيادة واستقرار هذا البلد الحبيب وكل حبة تراب فيه، وكل حبة تراب في الخليج العربي، والوطن العربي كله».
وبعرفان بالغ، وصفت ماجدة الرومي كلمتها قائلة: «هي كلمة حق قلتها من قلبي، أمام الله وضميري، وإن شاء الله الدنيا كلها تسمعها وتتذكرها». وزادت: «البيت السعودي العربي الأصيل المبارك، نتمنى ربنا يديم مجده وازدهاره وتقدمه»، مؤكدة أنها وأبناء شعبها من اللبنانيين رسالتهم هي الثقافة والفنون الجميلة.
ووجهت ماجدة الرومي حديثها للبنانيين المقيمين في السعودية خلال الحفل، قائلة: «أنتم هنا في السعودية بين أيدي أمينة، أنتم بين أهل وأخوة، يحيطونكم بقدر ما نحيطكم... أنتم أولادنا وأخوتنا وأهلينا، وما حصل منذ سنة 1975 إلى اليوم، نحن لا ذنب لنا فيه». ودون أن تُحمّل الرومي المسؤولية المباشرة لأحد الأطراف، أردفت بالقول: «اختاروا ساحة المعارك التي لا أعرف لماذا لا تنتهي، ونحن ذخيرتها الحيّة».
وبصوت موجوع، ختمت الرومي كلمتها قائلة: «سيأتي زمن يُخرجنا من زمن الضيقة، لأني لم أر - أبداً - بلداً في الدنيا يظل في زمن الضيقة كل العمر... ربما يظل زمن، أو زمنين، أو يمكن ثلاثة، وربما يبق على أيام أحفادنا... لكنه سيرجع بإرادتنا». ثم أهدت اللبنانيين أغنية «ميلي يا حلوة ميلي»، بكلماتها الراقصة ولحنها المبهج، لتمسح أحزانهم كعادتها، في أغنية شعبية ممتلئة بالفرح.
بدأت ماجدة الرومي حفلها بأغنيتها الشهيرة «عم يسألوني عليك الناس»، التي كانت بمثابة بطاقة عبورها لوجدان الجماهير العربية، في ألبومها الأول الصادر عام 1977. ومن ذات الألبوم اختارت أن تغني أيضاً «مطرحك بقلبي»، التي صاغ لحنها الحالم؛ اللبناني إحسان المنذر، ورغم مرور أكثر من 40 عاماً على صدورها فإن ماجدة الرومي ما زالت تغنيها على المسارح، كأغنية ثابتة في معظم حفلاتنا.
ومن كلاسيكيات الغناء العربي، اختارت ماجدة الرومي أغنية «التوبة» للمطرب المصري الراحل عبد الحليم حافظ، والأغنية التي كتب كلماتها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي، غناها الكثيرون، إلا أن ماجدة الرومي في كل مرة تضيف لها لمستها الحانية الخاصة، لتغنيها على مسرح المرايا في العُلا مُحلقة كفراشة في البستان.
ونثرت ماجدة الرومي طاقة حب عالية على جمهور الحفل، باختيارات بالغة الشاعرية، من أغنية «غني للناس... للحب»، وأغنية «مررت في خيالي... أحلى من الخيال»، وكذلك أغنية «لوّن معي الأيام يا حبيبي». وكعادتها مع الفصحى المُنسابة بخفة من حنجرتها، غنت عدة أغنيات فصيحة، مثل: «لا تغضبي»، وأغنية «عيناك ليال صيفية»، التي تعد من أنجح أغانيها.
وحضر الشاعر السوري الراحل نزار قباني بقوة في الحفل، بعد أن غنّت الرومي ثلاث أغنيات من كلماته، بدأتها بـ«اسمع قلبي»، ثم أغنية «أحبك جداً»، وختمت الحفل بأغنيتها الأكثر نجاحاً «كلمات» التي صدرت عام 1991 وتركت أثراً واضحاً في مسيرتها الفنيّة، وهي الأغنية التي ظل الجمهور يطلبها طيلة الحفل.
كما استرجعت ماجدة الرومي نجاحاتها مع الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، التي كتبت أغنية «كن صديقي»، وكانت محطة مختلفة حلقت فيها ماجدة الرومي عالياً عام 1994. ورسخت مكانتها الفنيّة وبصمتها الثقافية بالنظر لموضوع الأغنية المناصر للمرأة، وكذلك غنّت الرومي للشاعرة الصباح «لا تسأل ما هي أخباري... لا شيء مهم إلا أنت».
ومن ألبومها الأخير (غزل) الذي صدر قبل نحو 10 سنوات، غنّت ماجدة الرومي «متغيّر ومحيرني»، و«ما راح إزعل ع شي»، و«على قلبي ملك». ورغم أن معظم أغنيات الحفل صدرت ما بين عقود السبعينيات والثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، وهي الفترة التي عاشت ماجدة الرومي فيها أوج نجوميتها العربية، فإن الجمهور - من مختلف الأعمار - ظل حافظاً ومردداً أغانيها، ومتفاعلاً معها بالغناء والتصفيق الحار، احتفاءً بهذا الأرشيف الفني الزاخر بالروائع.
ماجدة الرومي التي تألقت بفستان أحمر اللون، وقطعة من المجوهرات البراقة، يأتي حفلها هذا ليكون الثاني في العُلا، حيث سبقته بحفلة أولى عام 2018، على نفس مسرح قاعة المرايا التي تعد تحفة فنية حقيقية تتربع بأودية العُلا، فضلاً عن كونها أكبر مبنى عاكس في العالم، وفقاً لموسوعة غينيس للأرقام القياسية.
ماجدة الرومي تسترجع قصائد نزار قباني وسعاد الصباح وتوهج أغانيها في التسعينيات.


مقالات ذات صلة

الأوركسترا السعودية تحتفي بالوطن في لندن

يوميات الشرق جانب من حفل روائع الأوركسترا السعودية في لندن (هيئة الموسيقى) play-circle 01:33

الأوركسترا السعودية تحتفي بالوطن في لندن

استضافتْ إحدى أعرق قاعات لندن، ألا وهي «سنترال ويستمنستر هول»، عرضاً للأوركسترا الوطنية السعودية احتفى بالوطن وجعل الحضور يتمايل تارةً، ويردد وراء الكورال.

عبير مشخص (لندن)
رياضة سعودية تركي آل الشيخ لدى تتويجه دوبوا بحزام الوزن الثقيل (أ.ف.ب)

«بي بي سي»: الملاكمة العالمية في الاتجاه الصحيح بدعم السعودية

إذا كانت المملكة قد أصبحت موطناً لبطولات الملاكمة الكبرى، فإن «أسبوع النزالات» في لندن كان إبرازاً لهذا التأثير المتصاعد للمملكة على هذه الرياضة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
رياضة عالمية الملاكم البريطاني دوبوا يحتفل بفوزه المثير (أ.ف.ب)

نزال موسم الرياض - ويمبلي: لكمات دوبوا المذهلة تثير 96 ألف مشجع

تغلب البريطاني دانييل دوبوا على مواطنه أنتوني جوشوا، بطل العالم مرتين، بالضربة القاضية اليوم السبت على ملعب ويمبلي في لندن ليحتفظ بلقب وزن الثقيل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق متحف «مركز طارق عبد الحكيم» أطلق فعاليات فريدة احتفاءً باليوم الوطني (الشرق الأوسط)

متحف «طارق عبد الحكيم»... إلهام يفيض بالفنّ ضمن احتفال وطني مميّز

تضمَّنت فعاليات اليوم الأول زيارة مدرسية للمتحف، حيث تعرّف التلامذة إلى تاريخ الموسيقى والفنّ السعودي ومسيرة الموسيقار الراحل وإنجازاته التي جعلت منه أيقونة.

إبراهيم القرشي (جدة)
رياضة عالمية الثنائي البريطاني أنتوني جوشوا ودانييل دوبوا يتأهبان لنزال أسطوري (رويترز)

«نزال جوشو ودوبوا»… الأكبر في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية

ترك الثنائي البريطاني أنتوني جوشوا ودانييل دوبوا الضجيج للمروجين حين التقيا في مؤتمر صحافي قبل نزال على لقب الوزن الثقيل من الاتحاد الدولي للملاكمة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)