قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان

دبلوماسي هادئ برزت «أنيابه» في وجه الاحتجاجات

قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان
TT

قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان

قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان

يسخر الساسة أحياناً، من الأسئلة الافتراضية التي تبدأ بعبارة «ماذا لو»؟ لكن السؤال ما كان ليبدو غريباً، إذا طرح حول الرئيس الكازاخي قاسم جومرد توكاييف، الذي تعرّف عليه العالم «فجأة» أثناء الاحتجاجات الدامية التي شهدتها بلاده في الأيام العشرة الأولى من العام الجديد.
ماذا لو لم تنفجر كازاخستان بشكل مفاجئ في بداية العام؟ يبدو الجواب بسيطاً ومباشراً: ما كان قدّر للرئيس الذي ظل منذ توليه السلطة في ربيع العام 2019 متوارياً خلف «الأب المؤسس» والقائد الفعلي للبلاد، نور سلطان نظرباييف.
يبدو توكاييف المنتصر الأول في معركة دامية لم يلعب دوراً في إطلاقها، لكنه نجح في توظيفها لصالحه سريعاً. ليتحرر من قيود سلفه، ويطلق العنان لسياساته الخاصة.

تحول قاسم جومرد توكاييف، الدبلوماسي المخضرم المعروف بهدوئه الشديد، إلى زعيم فولاذي برزت أنيابه بقوة، وهو يأمر بفتح النار من دون إنذار مسبق على المحتجين الذين وصفهم بأنهم «قطاع طرق». بيد أنه في الوقت ذاته، أدار بمهارة نتائج المواجهة بعدما استتب الأمن وسيطر على الأوضاع، حتى بدا وكأنه يتحرك استجابة لـ«إرادة الجماهير».

- صعود سياسي سريع
ولد قاسم جومرد توكاييف في العام 1953 وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال. فهو ابن كمال توكاييف، الكاتب الكازاخي المعروف، وأحد أبطال بلاده في الحرب العالمية، الذي أمضى سنوات عمره متنقلاً في دوائر السلطة السوفياتية وختمها عضواً في هيئة رئاسة مجلس السوفيات الأعلى لكازاخستان السوفياتية (البرلمان). ويعني هذا بمعايير ذلك العهد، أنه كان قيادياً في الحزب الشيوعي وحصل طوال حياته على امتيازات واسعة جداً.
كذلك، كانت والدته تورار شاباربايفا، أيضاً من «أبطال العمل» وفقاً للمفهوم الذي كان سائداً، وعملت لسنوات طويلة في معهد ألما آتا (ألماتي) للغات الأجنبية.
لذا؛ لم يكن صعباً أن ينطلق توكاييف الابن إلى موسكو فور تخرّجه في المدرسة، وهناك قبل في «معهد العلاقات الدولية» المرموق التابع للخارجية السوفياتية في ذلك الوقت. ومن هنا وضع الشاب، الذي سيقضي كل سنوات حياته اللاحقة في دهاليز السياسة، أقدامه على طريق النجاح. لكن «الواسطة» لم تعلب الدور الأساسي في مسيرته الناجحة؛ إذ قاد تفوقه في الدراسة إلى إرساله سريعاً في بعثة إلى بكين وهو ما زال في سنة دراسته الخامسة، وفي الصين حصل كمتدرب في سفارة الاتحاد السوفياتي على أول خبرات عملية مهدت طريقه سريعاً إلى قمة النجاح.
ثم في عام 1975، التحق توكاييف بوزارة الشؤون الخارجية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وأُرسل للعمل في السفارة السوفياتية في سنغافورة. ثم عاد بعد أربع سنوات موظفاً في الخارجية حتى اواسط ثمانينات القرن الماضي. وعندما كان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يطلق سياسة «الانفتاح والتغييرات الواسعة» في البلاد، كان توكاييف قد بدأ يترقّى سريعاً في المناصب في سفارة بلاده لدى بكين حتى غدا مع حلول العام 1991 مستشاراً برتبة سفير. وهناك راقب من بُعد انهيار البلد الذي يمثله. ليعود في العام التالي على الانهيار. ولكن ليس إلى موسكو هذه المرة، بل إلى الدولة الفتية في كازاخستان، التي سرعان ما عيّن فيها في العام 1992 نائباً لوزير الخارجية.
غدا توكاييف، منذ تلك اللحظة، جزءاً من النخبة السياسية الأولى في البلاد، وفي عام 1993 أصبح النائب الأول لوزير الخارجية، ليتقلد الوزارة في العام التالي. وبقي في منصبه حتى ربيع 1999، عندما حصل على ترقية جديدة غدا معها نائباً لرئيس الوزراء، وهي خطوة مهدت لتعيينه في خريف العام ذاته رئيساً للحكومة.
إلا أن الدبلوماسي المحترف لم يتمكّن من الصمود في منصب يحمله مسؤولية الأحوال المعيشية والاقتصادية للبلاد، فقدم استقالته في بداية 2002، ليستعيد حقيبة وزارة الخارجية التي ترضيه وتجنبه مواجهة السياسات الداخلية.
العام 2007 شكّل لتوكاييف بداية الانتقال الواسع إلى رأس هرم السلطة. ففيه عيّن رئيساً لمجلس الشيوخ في البرلمان، وهو شغله لسنوات قبل أن يجد «زعيم الأمة» نور سلطان نظرباييف نفسه مضطراً إلى مغادرة مقعد الرئاسة في 2019، ويومها لم يجد أفضل من الرجل الذي حاز ثقته طوال سنوات لينقله إلى سدة الرئاسة في إطار صفقة ضمنت لنظرباييف أن يبقي مفاتيح القرار السياسي والاقتصادي في يديه إلى الأبد.

- «رجل السلام» ونزع السلاح النووي
بصفته وزيراً للخارجية لسنوات طويلة، لعب توكاييف دوراً نشطاً في مجال حظر انتشار الأسلحة النووية. وكانت له بصمات أساسية في التوقيع عام 1996، على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. لكنه احتاج إلى عشر سنوات أخرى تقريباً ليوقع على معاهدة مهمة تتعلق بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في آسيا الوسطى.
في المقابل، نجح كوزير للخارجية إلى تحويل بلاده إلى منصة لإطلاق مبادرات مهمة بينها ـ في العام 2003 - مبادرة تهدف إلى دعم البلدان النامية غير الساحلية. وقاد مؤتمراً نظّم في ألماتي أسفر عن وضع خريطة طريق لتعزيز هذا المسار.
ولم يهمل الدبلوماسي المخضرم الجانب الأكاديمي في مسيرته، بل تعمد أن يدافع في العام 2001 عن رسالة الدكتوراه في المعهد الدبلوماسي الروسي نفسه، حيث ذات يوم. وحملت رسالته مضموناً يعكس اهتماماته كوزير للخارجية، فقد وضع تصوراته فيها حول «السياسة الخارجية لجمهورية كازاخستان أثناء تشكيل النظام الدولي الجديد». وكان من الطبيعي للدبلوماسي المحترف ألا يقتصر نشاطه على بلاده. وفي عام 2008 انتُخب نائباً لرئيس الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا كرئيس لمجلس الشيوخ في برلمان كازاخستان.
ثم، بعد ثلاث سنوات، عيّنه الأمين العام للأمم المتحدة نائباً له، وغدا المدير العام لمكتب الأمم المتحدة في جنيف، والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في مؤتمر نزع السلاح. وهو منصب حافظ عليه لسنتين قبل أن يعود إلى مقعد رئاسة مجلس الشيوخ في بلاده.

- رئيس في الظل خلف «زعيم الأمة»
مع حلول ربيع العام 2019 كان نظرباييف، الرئيس «التاريخي» لكازاخستان، أمام استحقاق تجديد الولاية أو البحث عن مخرج يمكّنه من المحافظة على مفاتيح القرار في البلاد. وهنا اختار سيناريو «الخليفة الموثوق» وأعلن للشعب أنه يرشح للرئاسة «الرجل المناسب لهذا المنصب».
قال نظرباييف في حينها، في خطاب للشعب «لقد عمل بجواري منذ الأيام الأولى لاستقلال كازاخستان. أنا أعرفه جيداً. إنه شخص أمين ومسؤول. يدعم النهج الذي سارت عليه البلاد بالكامل داخلياً وخارجياً، لقد تم تطوير جميع البرامج واعتمادها بمشاركته. أعتقد أن توكاييف هو الشخص المناسب الذي يمكننا أن نعهد إليه بإدارة كازاخستان».
هكذا رُسمت ملامح انتقال السلطة: توكاييف إلى مقعد الرئاسة. ونظرباييف إلى مقعد أعلى قليلاً. إذ نصّت «الصفقة» على أن يتولى الزعيم التاريخي منصب رئيس مجلس الأمن القومي، وأن يبقى المشرف الأعلى على سياسات البلاد. وكان لافتاً لاحقاً، أنه أثناء جلسات البرلمان، كان رئيس البلاد يجلس إلى جانب رئيس المجلس أمام الأعضاء، بينما أعدت مقصورة خاصة، تعمد مهندسوها أن تكون مرتفعة ليجلس فيها نظرباييف.
أيضاً، كانت إحدى أولى خطوات توكاييف في رئاسة الجمهورية إعادة تسمية العاصمة آستانة لتغدو «نور سلطان» تكريماً للرئيس السابق، وجرى دعم الاقتراح من قبل برلمان كازاخستان بالإجماع. وصدر المرسوم الرئاسي رقم واحد بمنح نظرباييف أعلى تقدير حكومي هو «النجمة الذهبية».
لكن خلف هذه المظاهر اللافتة، تبلور العنصر الأهم في آلية إدارة كازاخستان. وكان واضحاً أن نظرباييف انتقل من مقعد الرئاسي إلى مقعد «المرشد العام» للجمهورية بصفته الرمزية التاريخية وبسبب أنه يُحكم السيطرة مع أفراد عائلته وعدد من المقربين إليه، على كل مقاليد الاقتصاد والسياسة في البلاد.
لذا؛ عندما وقعت الأحداث الدامية في بداية 2022 تحدث كثيرون من الخبراء الكازاخيين عن استفحال مشكلة ازدواجية السلطة، وكيف أن توكاييف فشل في تمرير ولو جزءاً من سياسات إصلاحية وعد بها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية. وبالتالي، كانت النتيجة أن التحركات الاحتجاجية سرعان ما رفعت شعارات تطالب بـ«رحيل الختيار» وهو التعبير الذي تطلقه الأوساط الشعبية على نظرباييف.
المثير أن كل أصدقاء كازاخستان وحلفائها الخارجيين كانوا يتعاملون مع واقع إدارة الأمور في البلاد، وهو أمر كان واضحاً في طريقة تعامل الكرملين مع توكاييف ومع نظرباييف. ولم يشفع للرئيس الجديد في كازاخستان أنه تعمد أن تكون موسكو وجهته في أول زيارة خارجية بعد توليه المنصب.
لم تقنع هذه الحركة الدبلوماسية الرئيس فلاديمير بوتين الذي فضّل أن يواصل خلال السنوات الثلاث اللاحقة، التعامل مع الشخص الحقيقي الذي يدير أمور كازاخستان. وهذا الأمر ظهر بوضوح قبل أسابيع قليلة من الاحتجاجات التي غيرت كل المعادلات. فخلال اجتماع لرؤساء «رابطة الدول المستقلة» عقد في بطرسبرغ في 28 ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، جاء من كازاخستان رئيسان لحضور القمة. وكان لافتاً أن بوتين أجرى جولة مباحثات مع نظرباييف، على هامش أعمال القمة، في حين اكتفى بإعلان أنه «سيلتقي قريباً توكاييف في زيارة رسمية إلى موسكو». وتعكس هذه الحادثة، طبيعة توازن القوى واليات تعامل «الحلفاء» مع كازاخستان عشية الاحتجاجات التي اندلعت بعد أقل من أسبوع على هذه الواقعة.

- نهاية عهد نظرباييف
احتاج توكاييف إلى ثلاثة أيام لتقييم الموقف بعد اندلاع الاحتجاجات الواسعة في كازاخستان، قدم خلالها بعض التنازلات للمحتجين الذي نزلوا إلى الشوارع بمطالب اقتصادية تتعلق بتحرير أسعار الغاز المسال المستخدم كوقود للسيارات؛ ما أسفر عن رفع سعره بمعدل الضعفين. وسرعان ما اتخذت المطالب منحى سياسياً، من خلال رفع شعارات تدعو إلى إنهاء «نفوذ الختيار» وقام محتجون بتلطيخ تماثيل «زعيم الأمة» المنتشرة في البلاد.
لقد استخدم توكاييف العنف الذي استخدمه متظاهرون قاموا بإحراق مبانٍ حكومية وسيطروا على منشآت حيوية، بينها مطار ألماتي والقصر الرئاسي في هذه المدينة التي تعد العاصمة التاريخية للبلاد ليطلق سياسة متشددة في الخامس من يناير (كانون الثاني). إذ أعلن أن البلاد تواجه حملة إرهابية منظمة، وأمر الوحدات الأمنية باستخدام القوة المفرطة لتفريق الاحتجاجات، بما في ذلك عن طريق إطلاق النار من دون إنذار مسبق.
يومها بدا واضحاً أن السلطات مستعدة لدخول حرب شاملة لمنع الاستيلاء على السلطة. وسرعان ما نجح الرد القوي للسلطات في قمع الاحتجاجات وتقويض فرص اتساعها لتشمل مناطق أخرى بينها العاصمة «نور سلطان»، مع أن غالبية المدن شهدت عملياً تحركات تضامنية مع المحتجين تراوحت في حجمها وأدواتها.
ولكن في العاشر من يناير نجحت السلطات بإخماد التحرك نهائياً، وبات توكاييف يقف أمام استحقاق الاستخلاصات الرئيسية، وآلية إدارة الوضع في مرحلة ما بعد الأزمة. وسرعان ما اتضح أن النتيجة الأساسية للأزمة تمثلت في انتهاء حقبة الازدواجية في السلطة، وطي صفحة نظرباييف نهائياً. إذ حمل قرار إقالة الرئيس التاريخي للبلاد الذي كان يوصف بأنه أحد الرموز الخالدة لكازاخستان المعاصرة من منصب «رئيس مجلس الأمن القومي» دلالة خاصة.
ودلت الخطوات اللاحقة من خلال إقالة كل أفراد عائلة الرئيس السابق من مناصبهم المهمة، أن المرحلة المقبلة ستشهد سحباً تدريجياً لصلاحياته نظرباييف، وامتيازاته مع أفراد عائلته. وهذا سيكون له تأثير مهم على الوضع الداخلي، في إطار إعادة توزيع صلاحيات وقدرات الشخصية الأقوى في البلاد، على طائفة جديدة من أصحاب القرار. وبدا أن الرئيس توكاييف نجح في استغلال الأزمة لصالحه في هذا المسار بعدما فشل في فرض رؤاه في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بسبب ازدواجية السلطة.
طبعاً، من المبكر الحكم كيف ستكون الأمور بعد إنهاء نفوذ العهد السابق وتأثيرات ذلك على الحياة الاقتصادية والسياسية؛ لأن كثيرين من النخب الحالية ما زالوا يدينون بالولاء للرئيس السابق ما يزيد من صعوبة مهمة توكاييف. وهذا، مع أن توكاييف يبدو حالياً الكاسب الأكبر من التطورات، بعدما نجح في استغلال المزاج الشعبي لتعزيز قبضته بشكل قوي، تجعله قادراً على إدارة البلاد وفقاً لسياساته الخاصة للمرة الأولى منذ توليه الحكم.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.