رحيل العراقي محمد مهر الدين فنان التجارب اللونية

قال في آخر حديث لـ «الشرق الأوسط»: أنا أطوّر الصدفة الفكرية لأصوغها جماليًا

الفنان الراحل محمد مهر الدين في مشغله مع مجموعة من أعماله («الشرق الأوسط»)
الفنان الراحل محمد مهر الدين في مشغله مع مجموعة من أعماله («الشرق الأوسط»)
TT

رحيل العراقي محمد مهر الدين فنان التجارب اللونية

الفنان الراحل محمد مهر الدين في مشغله مع مجموعة من أعماله («الشرق الأوسط»)
الفنان الراحل محمد مهر الدين في مشغله مع مجموعة من أعماله («الشرق الأوسط»)

في آخر لقاء لنا مع الفنان التشكيلي العراقي، المعروف عالميا، محمد مهر الدين كان في مقهى وسط العاصمة الأردنية عمان، كان بتأمل المشهد الحياتي اليومي من شرفة المقهى، ليتحول هذا المشهد، في لحظة أو يوم ما إلى تفصيل لوني لإحدى أعماله التي يصفها بـ«الاجتماعية».. من هناك كان علينا أن ننتقل إلى مشغله، ومحل إقامته في جبل القلعة الذي يطل على وسط البلد.
مهر الدين (ولد في مدينة البصرة عام 1938)، الذي وصف بأنه شاغل الحركة التشكيلية العراقية ومتابعيها، رحل أمس في عمان إثر سكتة قلبية، بعد أن كان يعاني من مشكلات في التنفس ولإدمانه على التدخين..
«الشرق الأوسط» تنشر آخر حديث له معنا، وآخر صور التقطناها له، في مشغله الذي أمضى فيه سنواته الأخيرة بعد أن ترك بغداد حزنا على ما جرى لها من خراب بسبب «الغزو الأميركي».
مشغله المزدحم بأعماله التشكيلية، سواء المعلقة منها أو المكدسة فوق طاولته، يلخص مسيرة إنجازاته الإبداعية، تلك المسيرة التي بدأت احترافيا منذ أن تخرج عام 1956 في معهد الفنون الجميلة ببغداد، متتلمذا على يد أستاذ الفن التشكيلي العراقي فائق حسن، وليكمل مشوار دراسته في بولونيا للرسم والغرافيك. وفي رصد متأنٍّ لمنجزه التشكيلي، كان من الوضوح ملاحظة لوحة «طائرة ورقية ملونة» معلقة في واجهة المشغل، سألته إن كان منشغلا بتغييرات أسلوبية؟ قال: «الفنان لا يغير أسلوبه وإنما يطوره، أنا همي كان اجتماعيا، غالبية أعمالي اجتماعية، سواء كانت محلية أو عالمية، عالميا تطرقت للتمييز العنصري ورسمت أنجيلا ديفز، ثم وجاءت الحرب العراقية الإيرانية»، يصمت متأملا مع ذاته ليستطرد قائلا: «تاريخنا كله حروب، لكن أسوأها هو الاحتلال الأميركي في 2003، كانت كارثة حقيقية في تاريخ العراق الحديث، قتل وتشريد وتخريب ثقافة وسرقة الآثار وتهديم بناء بلد، حتى إن المحتلين نقبوا في بابل وسرقوا الآثار».
يصر مهر الدين على أن «هناك تطورا أسلوبيا وليس تغييرا في الأسلوب»، قائلا: «أنت مطلع وراصد لمسيرتي الفنية، وهناك خط بياني يتصاعد مر بخمس أو ست مراحل أسلوبية، وهناك من يعتقد أنني غيرت أسلوبي بينما أنا طورت في أسلوبي ولم أغيره، أدخلت الغرافيك مع الرسم وكذلك الكولاج والمواد المختلفة والتقنيات الجديدة والأحبار، تحتم أن يكون إنشاء أو إخراج اللوحة بنمط آخر.. كل مضمون وكل موضوع يدفعني لأسلوب»، موضحا: «لوحاتي الأخيرة فيها اختزال باللون، حالة الحرب دفعتني لاختزال الألوان»، يشكو من ضيق في تنفسه فأشير إلى السيجارة التي تحترق بين أصابعه، يبتسم ويواصل حديثه: «طوال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق كنت أحاول استيعاب حالات الحرب حتى بدأت تأثيراتها تظهر، ففي 2011 بدأت تتبلور موضوعات الحرب، لأن هذا الحدث لا يمكن أن يكون عابرا، حتى 2013 بدا التغيير في الألوان.. التغيير يأتي تلقائيا ولا أخطط له.. بعد أن أنجز الأعمال، أكتشف أن هناك لونا أو خطا أو شكلا يأتي بالصدفة، فأشتغل على تطوير الصدفة الجمالية والفكرية».
ويعترف مهر الدين: «أستعين كثيرا بتقنيات الإنترنت والديجيتال في تجاربي، فأنا فنان مجرب.. أجرب من خلالها، أصور وأعكس الأشكال، أنا مهتم بجانب التقنيات».
وبعد عشرات المعارض الشخصية والمشتركة محليا وعربيا وعالميا، والجوائز العالمية التي حصل عليها؛ إذ حصل على عدة جوائز خلال مسيرته الفنية التي تمتد إلى نحو نصف قرن، منها الجائزة التقديرية في المرتبة الثانية في بينالي الفنون في أنقرة عام 1986، والجائزة الأولى في مهرجان الفنون الثاني في بغداد عام 1988، وجائزة تقديرية عام 1993 في بينالي الفن الآسيوي ببنغلاديش، والجائزة الوطنية للإبداع في بغداد عام 1998.
حقق مهر الدين ثلاث جداريات رسم كبيرة في مطاري بغداد والبصرة، وساحة الاحتفالات في العاصمة بغداد، و«أول معرض شخصي لي كان في 1965، كان ذلك بعد دراستي في بولونيا، عرضت فيه أعمال غرافيكية وملصقات، حيث سألت الأستاذ فائق حسن عن مكان يمكن أن أقيم فيه معرضي فاقترح مكتب المعماري رفعت الجادرجي، أما أول معرض مشترك فكان في 1956 في جمعية التشكيليين العراقيين مع كبار الفنانين».. بعد كل هذه الإنجازات التشكيلية يقر مهر الدين بأن «الوقوف أمام اللوحة البيضاء يشعرني بالقلق والحذر على الرغم من أني أكون قد هيأت التخطيط الأولي للوحة (الاسكيتش) أو أن الموضوع موجود في داخلي، غالبية أعمالي هناك نموذج (سكيتش) بالرصاص.. أن تبدأ باللوحة صعب جدا، لكن أن تنتهي منها فهذا هو الأكثر صعوبة، وعندما أضع توقيعي عليها أنتهي منها»، مضيفا: «اللوحة بالنسبة لي فكرة، يجب أن تقدم مضمونا فكريا وجماليا، ويجب أن يكون فيها هدف.. القيمة الجمالية تأتي بالدرجة الثانية، وأهم شيء عندي هو الموضوع»، مشيرا إلى أن «الخبرة المتراكمة مهمة جدا في إنجاز عمل إبداعي متطور.. الفنان يجب أن يتطور في مراحله من الدراسة، ولا يجب أن يقفز إلى الأساليب الحديثة مباشرة.. والشخوص لا يغيبون عن أعمالي، فأنا عندي إمكانية في الرسم الأكاديمي متطورة جدا، وكنت أقلد فائق وجواد سليم وموديلياني عندما كنت طالبا في المعهد».
يقول مهر الدين عن أعماله: «رغم كل هذه التطورات فإن أعمالي تشير إليّ حتى ولو لا تحمل توقيعي.. أنا فنان تجريبي.. عندما كنت مدرسا في معهد الفنون الجميلة كنت أشعر بمتعة العطاء، لم أبخل بتعليم طلابي التقنيات والأسلوب، وأفرح حين أرى طلابي فنانين كبارا.. لكن حتى الآن لم يتجاوزني أي من طلابي أو يتفوقوا عليّ، وكنت سأفرح لو حدث ذلك، رغم أنهم أنجزوا أعمالا مهمة»، منبها إلى أن «الحركة التشكيلية العراقية هي الأفضل عربيا، منذ جيل الرواد، ثم جيلنا، جيل الستينات، وهو الأهم، لأنه أوجد التغيير في الحركة التشكيلية»، مشيرا إلى أن من بين «الفنانين الشباب الذين أرصد تطورهم الفنان سيروان باران؛ فهو رسام جيد خاصة مع التعبيرية التي يشتغل عليها راهنا، وفنان في استخدام الألوان، وسيكون أفضل لو يتأمل ما ينجزه ولا يسرع في إنجاز أعماله»، مستطردا: «أثرت به ليزا فتاح ثم تأثر بمهر الدين. المتميزون في جيلي الثمانينات والتسعينات تأثروا بجيل الستينات، بشاكر حسن وإسماعيل فتاح ورافع الناصري وضياء العزاوي.. وهذه مسألة صحية في بداياتهم».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».