في «بينالي الدرعية»... يموت الفنان ويبقى عمله حيّاً

فُقداء الفن يعودون بلوحاتهم... ودبلوماسي فرنسي: «تكريم رائع»

لوحة الفنان فهد الحجيلان في بينالي الدرعية
لوحة الفنان فهد الحجيلان في بينالي الدرعية
TT

في «بينالي الدرعية»... يموت الفنان ويبقى عمله حيّاً

لوحة الفنان فهد الحجيلان في بينالي الدرعية
لوحة الفنان فهد الحجيلان في بينالي الدرعية

الفنان لا يموت، بل يرحل جسده وتبقى أعماله حيّة. وهذا ما يشهده زائر «بينالي الدرعية» المقام حالياً في حي «جاكس» بالعاصمة السعودية الرياض، الذي يُرسخ فكرة خلود الفنان حتى بعد مماته، عبر لوحات من روائع الفن المعاصر، شكّلها فنانون رحلوا وعاشت بصمتهم الفنيّة، في النسخة الأولى من بينالي الدرعية، الذي يجمع قرابة 70 فناناً عالمياً ومحلياً، حيث حضرت روح الفنان المغربي الراحل محمد المليحي، الذي اختطفه فيروس كورونا عام 2020. في باريس، عن عمر 84 عاماً، إلا أنّ زوار بينالي الدرعية عادوا لتذكره عبر 6 لوحات، امتلأت بالألوان المبهجة على الطريقة المعتادة للراحل الذي يدهش المتلقي بالعوالم الغنية بالألوان، مع كونه قامة فنية كبيرة، وأحد رواد الممارسة التشكيلية.
ووصف لودوفيك بوي، سفير فرنسا لدى السعودية، مشاركة أعمال المليحي في بينالي الدرعية بأنها «تكريم رائع بعد سنة على غياب هذا الفنان الرائد في الفن التشكيلي العربي المعاصر»، وأردف عبر حسابه الرسمي في «تويتر» قائلاً: «استمتعت كثيراً بالألوان الغنية التي تملأ لوحات الفنان المغربي العظيم محمد المليحي».
والأمر ذاته مع الفنان السعودي الراحل محمد السليم، الذي شاركت لوحته «ربيع الصحراء» في بينالي الدرعية، رسمها عام 1987. وتظهر فيها الخطوط الأفقية للأفق الصحراوي. ويجسّد هذا العمل الأسلوب الفني «الأفقي»، الذي يتميز به السليم، والذي يدمج الفنان من خلاله خطوط الصحراء الإضافية مع الإيقاعات المتعرجة للكلمات العربية. ويحاكي السليم في لوحته، تأثير أشعة الشمس القوية في إظهار ما تتمتع به أرضنا من اختلافات على صعيد الأشكال والألوان، عن طريق استعمال تدرجات الألوان الدافئة، مع إضفاء نغمات وإيقاعات فريدة من نوعها. ويهدف السليم إلى نقل انطباع واقعي عن قوة أشعة الشمس، ومدى تأثيرها في طبيعتنا. وتشكل هذه اللوحات الأساس الذي يرتكز عليه أسلوب السليم العالمي المُبتكر ضمن السياق البيئي. والسليم الذي توفي عام 1997، هو أحد مؤسسي المشهد الفني الحديث في السعودية، وقد بدأ مشواره في الستينات من القرن الماضي، بالانتقال من بلدته الريفية في محافظة مرات إلى الرياض، كي يخطو خطواته الأولى نحو حلمه في أن يصبح فناناً. وفي عام 1970، حصل على منحة للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا، ليصبح أحد أوائل الفنانين السعوديين الذين غادروا المملكة في سبيل تحصيل التخصص العلمي في مجال الفنون.
وفي عام 1979 أسس السليم دار الفنون السعودية، وهي مؤسسة استضافت المعارض، وقدمت الرعاية للفنانين والشباب، ونشرت الكتالوجات، وعقدت البرامج الفنية، وأصبحت دار الفنون السعودية وجهة فنية وطنية، في وقت نَدرت الساحات المخصصة للتعليم الفني وتنظيم المعارض الفنية، وكان السليم من أوائل المناصرين لضرورة وجود حوار بين التراث السعودي والنماذج الفنية العالمية الحديثة. وفي وقفة مع فنان آخر، شاركت لوحات الراحل فهد الحجيلان ضمن مجموعة المنصورية في بينالي الدرعية، الذي توفي عام 2018. وكان أحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة الرياض للفنون الجميلة، وهي أول مبادرة وطنية للفنون العامة في السعودية.
لعب الحجيلان، مستلهماً من جذوره المصرية وهويته السعودية، على أوجه التشابه بين البيئتين، وذلك من خلال تصوير المشاهد الثقافية لهما في لوحاته، إذ تُظهر رسوماته مجموعة من النسوة المتدثرات بالعباءة السوداء على طريقة الأرياف المصرية والبيئة النجدية القديمة.
وحضر عمل الفنانة الراحلة منيرة موصلي (بارفان)، التي توفيت عام 2019. بألوان مشرقة وفكرة استلهمتها من التراث الحجازي الأصيل. وأعمال موصلي والحجيلان كلاهما شاركتا في بينالي الدرعية ضمن مؤسسة المنصورية، التي تعدّ أول مؤسسة غير ربحية تُعنى بالفن والثقافة، أسستها الأميرة جواهر بنت ماجد بن عبد العزيز عام 1998، ونشأ عنها لاحقاً مجلس الفن السعودي عام 2013. وتركز المؤسسة، المسجلة في باريس، على عرض أعمال الفنانين السعوديين وتوثيقها من خلال إصداراتها، وتنظيم برنامج إقامة في مرسم المنصورية بالمدينة الدولية للفنون، والحفاظ على مجموعة تضمّ أكثر من 400 عمل فني.
وما تزال الفرصة متاحة للتمتع بأعمال بينالي الدرعية، الذي يستمر حتى 11 مارس (آذار) المقبل، كأول معرض بينالي دولي يكشف عن جوهر الفنون المعاصرة بمختلف أشكالها في السعودية، طوّره فريق عمل مؤلف من نخبة دولية من القيمين الفنيين، ليكون منصة رائدة لمد جسور الحوار بين المبدعين من شباب السعودية وربطهم مع العالم الفني الفسيح.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)