ابنة ماركيز السرية

بعد وفاته في عام 2014 بدأ السر الكبير يدور على ألسنة الأصدقاء المقربين (1 - 2)

ابنة ماركيز  -  ماركيز
ابنة ماركيز - ماركيز
TT

ابنة ماركيز السرية

ابنة ماركيز  -  ماركيز
ابنة ماركيز - ماركيز

منذ صدور الطبعة الأولى من رواية «مائة عام من العزلة»، أواخر عام 1967، وتحولها إلى إحدى روائع الأدب الأميركي اللاتيني والعالمي، خصوصاً بعد نيله جائزة نوبل للآداب في عام 1982، وضعت حياة الصحافي والكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز تحت المجهر، وباتت كل مناحيها وأدق تفاصيلها موضع اهتمام وبحث من جانب الدارسين لأعماله وعشرات الملايين من قرائه في جميع أنحاء العالم. ومع مرور الزمن كان يتبدى بوضوح أن «غابو» حرص، عن طريق صداقاته العديدة وشغفه بالتخطيط لكل مراحل مساره الأدبي، وإصراره على إبقاء حياته العائلية والشخصية بعيدة عن الأنوار الكاشفة المسلطة على نتاجه الأدبي، على تغذية هذا الاهتمام ومده، وفقاً لإيقاع زمني مبرمج، بالمواد اللازمة لإذكائه وديمومته.
كثيرة هي الأمور الشخصية التي أبقاها ماركيز حبيسة دائرة الأسرة الضيقة والأصدقاء المقربين طوال سنوات عديدة، وأحاط علاقته الملحمية بزوجته مرسيديس، المتحدرة من عائلة البرشا اللبنانية، بهالة منيعة من التكتم الذي لم يرشح خبراً واحداً خارج ما كان متفقاً عليه ومخططاً له داخل الأسرة التي بقيت متراصة كنواة ولم تتصدع قيد شعرة تحت وطأة النجاح والشهرة.
لكن بعد أيام على نشر خبر يفيد بأن ولدَي ماركيز، غونزالو ورودريغو، تقدما بطلب من جامعة قرطاجة الكولومبية لنقل رفات الوالدة مرسيديس إلى جانب رفات الأب الذي يرقد منذ عام 2016 في مقبرة الدير الذي تشرف على إدارته هذه الجامعة التي يقع في حرمها، والتي أنهى فيها ماركيز دراسة الحقوق، وتقرر أن يتم ذلك أواخر مارس (آذار) المقبل، فاجأت صحيفة «أونيفرسال»، العالم، بخبر عن وجود ابنة «سرية» لصاحب «خريف البطريرك» من الصحافية والكاتبة السينمائية المكسيكية سوزانا كاتو، وأن أفراد العائلة وحفنة من المقربين كانوا على علم بذلك واتفق الجميع على عدم كشف هذا السر إلا بعد وفاة ماركيز وزوجته.
وكانت الصحيفة الصادرة في مدينة قرطاجة التي كانت المفضلة لدى غابو، المولود في بلدة آراكاتاكا، نشرت مقالاً بقلم الكاتب والخبير الأكبر في حياة ماركيز وأعماله غوستافو تأتيس غيرا، يقول فيه إنه أكد مع أفراد العائلة وبعض المقربين هذا الخبر الذي حرص الجميع على إبقائه طي الكتمان احتراماً للزوجة مرسيديس التي توفيت صيف عام 2020 بعد إصابتها بفيروس كورونا.
وسبق لسوزانا كاتو، المولودة عام 1960 في العاصمة المكسيكية، أن وضعت إلى جانب ماركيز عدداً من السيناريوهات السينمائية، بعد أن كانت تتلمذت على يده في المحترف السينمائي الذي كان يديره في معهد سان أنطونيو دي لوس بانيوس، الذي أسسه بدعم من صديقه الكوماندانتي فيديل كاسترو في كوبا. ولها مؤلفات أخرى في المسرح ومجموعات من القصص القصيرة، ومقابلة طويلة شهيرة مع ماركيز نشرتها تحت عنوان «في كولومبيا، على الكاتب أن يغير حرفته». وتحمل ابنة ماركيز اسم أنديرا الذي أطلقه عليها والدها، لكنها قررت أن تحمل كنية والدتها، علماً بأن والد غابو وجده حملا كنية عائلة الأم بعد أن رفض والداهما الاعتراف بهما. وهي منتجة سينمائية حازت جوائز عديدة، كما شاركت في وضع سيناريوهات لبعض الأفلام القصيرة بعد أن تخرجت من كلية الأدب الدرامي والمسرح في جامعة مكسيكو المستقلة التي تخرج منها المخرج السينمائي رودريغو غارسيا ابن ماركيز، الذي تنشر «الشرق الأوسط» قريباً حواراً مطولاً معه. وتشاء صدف الحياة أن أحد زملاء أنديرا على مقاعد الدراسة كان ماتيو غارسيا حفيد ماركيز من ابنه غونزالو.
ويقول غيرمو آنغولو أحد الأصدقاء المقربين من ماركيز، إنه برغم عدم اعتراف غابو علناً بابنته، كان دائم الاهتمام بها ومتابعاً لأنشطتها، وقدم لها منزلاً أنيقاً في واحد من أجمل أحياء العاصمة المكسيكية التي عاش فيها معظم سنوات عمره إلى جانب أسرته. ويضيف هذا الصديق الذي رافق ماركيز من بداياته، والذي أشرف اليوم على الخامسة والتسعين من العمر، أن خبر وجود الابنة السرية لغابو نزل كالصاعقة على العائلة عندما بلغها في مدينة قرطاجة قبل انتقالها إلى مكسيكو، لكن سرعان ما احتضنها الجميع بحرارة ومودة كأي فرد آخر من تلك السلالة التي كانت تنمو حول جذع واضع «الحب في زمن الكوليرا».
ورغم التوتر الطبيعي الذي أثاره ذلك الخبر بين زوجة ماركيز وبقية أفراد العائلة، اتفق الجميع على أن ما حصل لا يجب أن ينال من رونق أسطورة العشق التي نسجها غابو ومرسيديس طوال ستة عقود تقريباً من الزواج، وتحول الخبر إلى السر الأكبر لماركيز وعائلته.
ويقول داسو سالديفار المؤرخ الرئيسي لسيرة ماركيز في كتابه المرجع «سفر البذور»، إن الخبر بلغه من آنغولو، وإنه عندما طرح اسم الابنة السرية أمام أفراد العائلة خيم صمت ثقيل وطويل على الجميع قبل أن يؤكدوا له الخبر، ويكشفوا له أن أحداً لم يكن يجرؤ على الإشارة إلى تلك العلاقة بين ماركيز والكاتبة المكسيكية من باب الإجلال العميق الذي كانت تحظى به مرسيديس برشا بين الجميع.
ويذكر داسو، الذي كان قرر أن ذلك السر لا يجب أن يفشى قبل وفاة ماركيز وزوجته، أنه كان شاهداً في إحدى المرات على جلسة بين غابو والطفلة أنديرا في حضنه، وأنه لا يمكن أن ينسى في حياته الابتسامة التي كانت مرتسمة على وجه صديقه. ويقول جيرالد مارتين الناقد الأدبي البريطاني الذي وضع سيرة ماركيز باللغة الإنجليزية، إن الشكوك الأولى بدأت تساوره منذ ثلاثين عاماً عندما بدأ المقربون يتهامسون الخبر بشكل مشفر، لكنه لم يتيقن منه إلا منذ عشر سنوات، واتفق هو أيضاً مع سالديفار وآخرين على كشفه في الوقت المناسب، وتكليف هذه المهمة للصحافي والكاتب غوستافو تأتيس غيرا من صحيفة «أونيفرسال»، الذي وضع واحداً من أجمل الكتب عن ماركيز بعنوان «زهرة الساحر الصفراء».
المعروف أن غابو كان يعشق الورد الأصفر الذي كانت مرسيديس تضع باقة منه كل يوم على الطاولة التي يجلس وراءها للكتابة، وتزين به المنزل في المناسبات الخاصة. وبعد مرور عامين على وفاة ماركيز عام 2014 في مكسيكو، نفذ ولداه غونزالو ورودريغو وصيته بأن يدفن في مدينته المفضلة قرطاجة، وليس في مسقط رأسه آراكاتاكا، حملوا رفاته إلى دير الرحمة (La Merced)، ووضعوها تحت تمثاله النصفي الذي يتوسط باحة بيضاء وصفراء.
وجاء في الرسالة التي وجهها غونزالو ورودريغو إلى رئيس الجامعة لنقل رفات الوالدة إلى جانب رفات زوجها الراحل: كانا فريق حياة جميلاً نريد الحفاظ عليه إلى الأبد. لكن منذ اليوم ينضم لاعب جديد إلى هذا الفريق الجميل، يحمل اسم أنديرا ونظرة غابو العميقة التي تعبر الأشياء بمجد التحديق بها.



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.