«توب شيف» يتوج اللبناني شربل حايك بتجربة العمر

أكثر البرامج فخامة وإلهاماً يختتم موسماً خامساً

TT

«توب شيف» يتوج اللبناني شربل حايك بتجربة العمر

يقفل مطبخ «توب شيف» أبوابه للمرة الخامسة، متوجاً اللبناني شربل حايك نجم الموسم. ثلاثة أشهر من التعب، تؤهل أربعة طهاة محترفين إلى النهائيات، فيبذلون أقصى الجهد لتحقيق الحلم. أفخم البرامج على الشاشات، تعرضه «إم بي سي» و«إم بي سي العراق»، يرتقي بالأطباق إلى العقل والمخيلة، فيجعلها بمثابة دروس من صميم الحياة. يتخطى الابتكار التوقعات، كما يقول الشيف مارون شديد. آخر ما تخاطبه الأطباق هي المعدة. تحضر للمتذوقين الصعب إرضاؤهم. يكسب الطهاة الجولات بتحدي أنفسهم أولاً. 15 متسابقاً عربياً حضروا إلى البرنامج بنسخة عن ذاتهم وخرجوا منه بنسخة أخرى، أكثر ثقة بالمهارات والتقنيات واحتراماً للنكهات.
موسم خامس يصور في السعودية. يحرص المخرج اللبناني وسيم سكر على إظهار حضارة المدينة وقيمها. رائع هذا الانسجام بين الماضي والمستقبل؛ الإرث والعصر. على ارتفاع شاهق في قلب الرياض، يقف الحكام الثلاثة، الشيف السعودية منى موصلي، اللبناني مارون شديد والمصري بوبي شين، يراقبون الأضواء الساحرة، ويذكرون اللحظات المؤثرة.
يلتقون في عدالة التحكيم وصواب النصيحة التي يسديها كل على طريقته: شديد بحنكة اللين والقسوة، يخدش حيناً، لكنه يعلم عميقاً؛ شين بنظرته الثاقبة للملمس والنكهة، يشجع مردداً عبارته المحبوبة: «ياااااه». ومنى موصلي المرهفة، بلطفها المسيطر عليها، ورقي أخلاقها. معسولة اللسان وكبيرة القلب، تمنح المشتركين راحة نفسية. ولو أنها بسن صغيرة تقارب سنهم، فهي تحتضنهم كأم وتمدهم بالمعنويات والكلمة الحلوة.
أضخم إنتاج تلفزيوني يحط في الرياض، عاصمة الابتكار، بعد بيروت ودبي. يتجاوز الطبخ بكونه وجبة يومية تسكت أمعاء الجائعين، فيتسلق السلالم إلى العلا، حيث المذاقات الفخمة القادرة على قلب الأمزجة الإنسانية. تحديات غير مسبوقة في كل حلقة، ولا حدود لما قد يطلب من الطهاة. برنامج الأفكار الخلاقة والإبحار في الخيال. كل شيء خارج الصندوق، من المطبخ إلى المخزن والسكاكين والساعة العملاقة. وما أحلاها الشيف منى وهي تطلق إنذار الوقت وتعلم المتنافسين إدارته: «وقتكم يبدى دحين (الآن)»! الجملة المنتظرة تسرع الخفقان وتنذر بالآتي الأعظم، كـ«سلم سكاكينك وامش»، جملة الوداع.
التشويق دائم: ماذا سيحدث الليلة؟ لم تخيب حلقة التوقعات، ومن أسبوع إلى آخر، يرتفع المستوى وتشتعل المنافسة. في الأسبوع الأخير، ودع أربعة مشتركين المكان، بعدما كانوا ودعوا زملاءهم واحداً تلو الآخر: الشيف طارق طه من فلسطين، الشيف نسيم رسروماني من البحرين، وحالمان من لبنان، الفائز شربل حايك و«الشيف الثائر» باتريك مرعب، بوصف الشيف مارون. أربعة متحمسين يشاءون التهام الحياة كما تلتهم الأطباق بعد تحضيرها، لكن ما يجمل المنافسة هو أنها عصية على الابتلاع، وعلى المرء المحاولة من دون توقف لتذوق لذائذها.
تكمن العبرة خلف الاختبار والتحدي، جولة كل حلقة. لا شيء بالمجان ولا مكان للعبث. حتى التفاصيل الصغيرة تتكلم. حتى الثواني لها قيمتها. كرشة الملح، كدوزنة البهارات. الخطأ ممنوع، وعلى الشيف أن يتعلم من أخطائه وأخطاء الآخرين. عين وعقل. المعدة تأتي لاحقاً أمام هذين الجبارين.
تظهر الرياض من الأعلى مدينة مشعة، تمتلئ بالبهجة. منى موصلي في الوسط بين مارون شديد وبوبي شين. يمر شريط المشتركين الأربعة كأنه شريط الحياة: بداياتهم واكتسابهم خبرات إضافية، فتطور الموهبة ولحظات التفوق والإخفاق. ثلاثة أشهر بمثابة مدرسة. يكاد الشيف نفسه لا يصدق كيف بدأ وأين انتهى. الشيف باتريك برفعه معاييره وصراعاته الشخصية من أجل الوصول، وبإصراره على الهدف فيبذل كل ما يستطيع. الشيف طارق بثلاثية التقنيات والمهارة والرقي، يضاف إليها ما أدهش الحكام: هدوء أعصابه وسكينته في المطبخ، فلا يعمل تحت الضغط. جولة أولى أخرجت الشيف باتريك، فثانية أخرجت الشيف طارق، ابن فلسطين. قوانين اللعبة والحياة. لا شيء يدوم إلى الأبد، وبعض الجولات تتوج فائزاً واحداً باللقب وفائزين كثيرين بالأحلام الملونة والذكريات.
والشيف نسيم تضع هدفاً لكل طبق وتفرض شخصيتها بأطباقها. تشعر الشيف منى بالفخر بوصول نساء عربيات إلى مستويات عالية. ويصفها الشيف مارون بالمعطاءة والفنانة. تقف في الجولة الأخيرة من النهائيات وجهاً لوجه مع الشيف شربل، أصغر الطهاة في «توب شيف»، يبلغ 24 سنة. يسعد الحكام وجود مواهب من هذا الصنف، ويستذكرون مزاياه: يدمج خبرة المطبخ اللبناني بدراسته بين فرنسا ولوس أنجليس. ويحسن الجمع بين أكل البيت ورقي المطاعم. تترك الشيف منى ضحكة من القلب وهي تؤكد: «أطلعني حدسي بأنه سيصل إلى النهائيات». وصدقت التوقعات.
كيف يمكن للطبق أن يسافر بالمرء عبر الزمان والمكان؟ «توب شيف» يجيب. حين يتنافس المشتركون تحت لهيب الشمس في الصحراء. حين يتوافدون إلى الدرعية لاستلهام أفكار من مهد الدولة السعودية. حين يتطرقون بأطباقهم إلى إشكاليات عالمية كتغير المناخ وهدر الطعام. وحين يراعون في تحضيرها الأنظمة الغذائية والنباتية والخضرية، ويفكرون بابتكار أطباق للمستقبل. «توب شيف» أطباق لها هوية. نكهات مجنونة. ذكريات الطفولة. رائحة الأم والجدة. الكرم والشغف. التقاليد والحضارة والتراث والفن. تجربة العمر.


مقالات ذات صلة

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

مذاقات البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات.

إيمان مبروك (القاهرة)
مذاقات مبنى «آر إتش» من تصميم المهندس المعماري البريطاني السير جون سوان (الشرق الأوسط)

«آر إتش» عنوان يمزج بين الأكل والأثاث في حضن الريف الإنجليزي

سحر الريف الإنجليزي لا يقاوم، وذلك بشهادة كل من زار القرى الجميلة في إنجلترا. قد لا تكون بريطانيا شهيرة بمطبخها ولكنها غنية بالمطاعم العالمية فيها

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات طبق الكشري المصري (شاترستوك)

مبارزة «سوشيالية» على لقب أفضل طبق كشري في مصر

يبدو أن انتشار وشهرة محلات الكشري المصرية، وافتتاح فروع لها في دول عربية، زادا حدة التنافس بينها على لقب «أفضل طبق كشري».

محمد الكفراوي (القاهرة )
مذاقات مطعم "مافرو" المطل على البحر والبقايا البركانية (الشرق الاوسط)

«مافرو»... رسالة حب إلى جمال المناظر الطبيعية البركانية في سانتوريني

توجد في جزيرة سانتوريني اليونانية عناوين لا تُحصى ولا تُعدّ من المطاعم اليونانية، ولكن هناك مطعم لا يشبه غيره

جوسلين إيليا (سانتوريني- اليونان)
مذاقات حليب جوز الهند بلآلئ التابيوكا من شيف ميدو برسوم (الشرق الأوسط)

نصائح الطهاة لاستخدام مشتقات جوز الهند في الطهي

حين تقرّر استخدام جوز الهند في الطهي، فإنك ستجده في أشكال مختلفة؛ إما طازجاً، مجفّفاً، أو حليباً، أو كريمة، وثمرة كاملة أو مبشورة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)