مالي.. المصالحة الصعبة

«إقليم أزواد» بات معضلة لمنطقة الساحل الأفريقي والمتهمين بأمنها

مالي.. المصالحة الصعبة
TT

مالي.. المصالحة الصعبة

مالي.. المصالحة الصعبة

بعد ثمانية أشهر من المفاوضات العصيبة، تسلّمت الوفود التي تمثل حكومة دولة مالي وست حركات مسلحة في شمال البلاد، في أحد فنادق العاصمة الجزائرية، مقترح اتفاق لإنهاء الصراع الذي بدأ منذ عدة عقود وتجدد قبل ثلاث سنوات بتمرد مسلح كاد يعصف بكيان الدولة في مالي. وشكل المقترح الجديد آخر أملٍ لدى الوساطة الدولية في التوصل إلى حل سلمي بين أطراف الأزمة.
الاتفاق الجديد حظي بمباركة الحكومة وثلاث حركات مسلحة موالية لها، ووقعته في 1 مارس (آذار) الماضي، فيما رفضت ثلاث حركات أخرى التوقيع عليه متحفظة على بعض بنوده وخلوه من نقاط تعدها محورية في أي حل للأزمة. وبالتالي، المجموعة الدولية لجأت إلى سياسة الجزرة والعصا في التعامل مع أطراف الأزمة، ولوحت بفرض عقوبات على من يرفض التوقيع على الاتفاق.

مقترح الاتفاق الذي ومن شأنه أن ينهي الصراع في مالي وإن كان يواجه صعوبات كبيرة إلا أنه يحمل معه الأمل في استعادة الاستقرار في هذا البلد الواقع في غرب القارة الأفريقية والذي يعد واحدا من أفقر بلدان العالم، ويعاني من حالة انقسام حادة ما بين الشمال الذي تقطنه أقلية من العرب والطوارق، والجنوب الذي تسكنه عرقيات أفريقية تشكل الأغلبية وتهيمن على الحكم في البلاد، وتتهم من طرف الطوارق والعرب بتهميش الشمال وتركه فريسة للفقر والجهل وانعدام البنية التحتية.
هذا الوضع قاد إلى ظهور حركات تمرد مسلحة مباشرة بعد استقلال مالي عن المستعمر الفرنسي عام 1960. وظلت تتجدد بشكل دائم حتى التمرد الأخير الذي بدأ يناير (كانون الثاني) من عام 2012، وأسفر عن سيطرة الجماعات المسلحة على شمال مالي وإعلان الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وهي واحدة من أكبر الحركات المسلحة المتمردة، استقلال دولة أزواد. ولكن هذا الإعلان ظل من جانب واحد ولم يحظ بأي اعتراف دولي، قبل أن تتراجع عنه الحركة لتدخل في مفاوضات شاقة مع الحكومة المركزية تطالب فيها بـ«الاستقلال الذاتي» أو على الأقل «نظام فيدرالي» يمكنها من إدارة الإقليم.
الجزائر بحكم قربها من شمال مالي، وتأثرها المباشر بتدهور الوضع الأمني في المنطقة، ظلت حاضرة بقوة في المعادلة الأمنية والسياسية في مالي، حيث استطاعت خلال عمليات التمرد التي عاشتها مالي في العقود الثلاثة الماضية أن تكون الحاضنة لمفاوضات شاقة أسفرت عن اتفاقية تمنراست 1991 والميثاق الوطني عام 1992، بالإضافة إلى اتفاقية الجزائر عام 2006. ولكن جميع هذه الاتفاقيات وإن كانت نجحت في إخماد التمرد وتهدئته، إلا أنها لم تنجح في حل معضلة «إقليم أزواد» المزمنة، التي أصبحت تشكل صداعا لمنطقة الساحل الأفريقي المضطربة.

دروس الماضي

تحاول الجزائر في الاتفاق الجديد أن تتفادى أخطاء الاتفاقيات السابقة، والوصول إلى حل نهائي لأزمة شمال مالي، وذلك من خلال قيادتها لفريق الوساطة الدولية الذي يضم بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي بالإضافة إلى عدد من المنظمات الدولية والبلدان المجاورة لمالي: النيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد.
واجه فريق الوساطة الدولية في البداية صعوبة كبيرة من خلال تسمية «أزواد»، حيث يصر المتمردون على أن يتضمن الاتفاق اعترافا رسميا بتسمية «أزواد» وذلك بوصفه «هوية جغرافية وسياسية محددة، ولديه شخصيته المستقلة التي تعطيه الحق في حكامة مبنية على تاريخه وواقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي»، وهو المطلب الذي ما تزال الحكومة المالية ترفضه حتى الآن وتعتبره مساسا بوحدتها الترابية.
ومن جهته، حاول فريق الوساطة الدولية أن يخرج من الإحراج باستخدام عبارة مطولة «شمال مالي الذي يسميه البعض أزواد». وفي نص الاتفاق الجديد توجد دعوة صريحة إلى القبول بإقليم أزواد كـ«حقيقة اجتماعية وثقافية مشتركة لدى سكان شمال مالي»، من دون إعطائه أي صبغة سياسية، وفق ما يطالب به المتمردون وترفضه الحكومة.
ولكن الاتفاق الجديد يحاول أن يقدم حلا لما قال إنه «مشكلة الوحدة الوطنية» في مالي وذلك عبر ما سماه «إعادة بناء الوحدة الوطنية في البلد عبر قواعد مبتكرة تحترم وحدته الترابية، وتأخذ في الاعتبار تنوعه الثقافي والعرقي»، حيث توجد في مالي أكثر من 3 آلاف عرقية أغلبها يقطن في الجنوب، بينما تتفاقم أزمة التعايش في شمال البلاد حيث توجد أقلية من العرب والطوارق.
وفي ظل ارتباط أزمة الوحدة الوطنية والتعايش بين المكونات العرقية في مالي، بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية معقدة ظلت تتراكم لعدة عقود، اقترح الاتفاق الجديد اعتماد «التوازن في الميزانية والتنمية» من خلال ما يمكن وصفه بأنه «سياسة تمييز إيجابي» لصالح المناطق الأكثر فقرا وفي مقدمتها شمال البلاد، حيث ينص الاتفاق على أن «تحوّل الحكومة 30 في المائة من عائدات الدولة المركزية إلى السلطات المحلية، مع اهتمام خاص بالمناطق الشمالية»، بالإضافة إلى إنشاء «منطقة تنموية في الشمال» ممولة بالكامل من طرف المجموعة الدولية للرفع من مستوى المعيشة لدى سكان الإقليم في إطار خطة تستمر لخمسة عشر عاما.
وبخصوص آليات إدارة الشأن العام في شمال مالي، تضمن الاتفاق الجديد تشكيل مجالس محلية تنتخب بشكل مباشر، ودعا الحكومة المركزية في باماكو إلى تهيئة الأرضية لانتخابات محلية جديدة ستنظم في غضون 18 شهرا لتشكيل هذه المجالس التي ستتولى إدارة الشأن العام في شمال البلاد بصلاحيات واسعة، مع وصاية من طرف الحكومة المركزية في باماكو.
ومن جهة أخرى، ينص الاتفاق الجديد على إنشاء «جهاز شرطة محلية» يشارك في إنشائه جميع الأطراف التي شاركت في مفاوضات الجزائر؛ وذلك عبر دمج مقاتلي الحركات المتمردة وتلك الموالية للحكومة في الجيش المالي، وتنظيم دوريات مشتركة في انتظار إعادة انتشار القوات المالية في الشمال في غضون شهرين. وما تزال قضية دمج مقاتلي الحركات المتمردة محل جدل بين أطراف الأزمة حيث تصر الحركات على ضرورة احتفاظها بالسلاح لضمان تطبيق بنود الاتفاق، في استحضار واضح للاتفاقيات السابقة التي يقولون إنها لم تطبق لأنهم تخلوا عن أسلحتهم وفقدوا ورقة ضغط مهمة على الحكومة المالية؛ فيما ترفض باماكو أي وجود عسكري خارج إطار الجيش الحكومي.
اتفاق الجزائر الجديد الذي جاء في 30 صفحة باللغة الفرنسية، وإن كان قد تحدث عن جميع محاور الأزمة التي يعيشها شمال مالي، إلا أنه يبقى «مجرد اتفاق مرحلي وليس نهائيا» حيث أوضح أنه لا بد من عقد مؤتمر وطني في غضون عامين لمناقشة «الأسباب الحقيقية والعميقة للصراع في شمال مالي»، بهدف التوصل إلى «اتفاق سلام نهائي وشامل».

الصراع القبلي

الاتفاق الجديد وإن كان قد حظي بمباركة جميع الأطراف المشاركة في المفاوضات، إلا أنه واجه تحفظا من طرف ثلاث حركات مسلحة منخرطة في إطار ما يعرف بمنسقية الحركات الأزوادية التي تضم: الحركة الوطنية لتحرير أزواد والمجلس الأعلى لوحدة أزواد والحركة العربية الأزوادية؛ حيث اعترضت هذه الحركات على بعض بنود الاتفاق وخلوه من أي إشارة إلى «نظام فيدرالي» لإدارة الإقليم ودعت إلى منحها «مهلة معقولة» للتشاور مع «قواعدها الشعبية»، وذلك في محاولة واضحة لتهدئة الشارع في عدد من مدن شمال مالي شهدت مظاهرات رافضة للاتفاقية التي وصفها بعض السكان المحليين بأنها «مجحفة في حقهم».
الصراع المسلح الدائر بين المتمردين الطوارق والحكومة المركزية في باماكو، يطوي في ثناياه خلافات محلية أكثر عمقا ويحمل خطورة كبيرة على مشروع المصالحة في البلد الهش، حيث تبرز على السطح صراعات ذات طابع قبلي داخل الطوارق أنفسهم، يشير مراقبون إلى أن الحكومة المالية لعبت دورا كبيرا في إذكائها لشق صف المتمردين.
في صحراء أزواد كل شيء يتحرك ويتغير وفق معادلة معقدة يختلط فيها عوامل الأمن والسياسة والتهريب والإرهاب والأطماع الدولية في الثروات التي تنام في جوف الصحراء؛ الثابت الوحيد في هذه المعادلة المعقدة هو القبيلة بوصفها المحرك الرئيس لجميع هذه العوامل.
قبيلة «إيفوغاس» هي الأكثر عددا من بين قبائل الطوارق، تتمركز هذه القبيلة في منطقة كيدال التي تعد معقل المتمردين الطوارق. وينحدر من «إيفوغاس» أغلب قيادات الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تسعى لإقامة دولة ديمقراطية ذات طابع علماني في إقليم أزواد؛ كما ينحدر منها جميع قيادات المجلس الأعلى لوحدة أزواد، وهو المجلس الذي قام على أنقاض «جماعة أنصار الدين» التي أسسها إياد أغ غالي عام 2012 من أجل إقامة «إمارة إسلامية» في مالي، والمفارقة هي أن أغ غالي هو الآخر ينحدر من نفس القبيلة.
تتحالف قبيلة «إيفوغاس» ذات الشوكة مع قبائل عربية تملك نفوذا كبيرا وتنحدر منها قيادات «الحركة العربية الأزوادية»؛ وذلك من أجل مواجهة قبائل «إيمغاد» الطوارقية ذات العداء التاريخي مع «إيفوغاس» والطامحة للمزيد من النفوذ في الإقليم الصحراوي الشاسع. مع مرور الوقت يتصاعد نفوذ قبيلة «إيمغاد» التي شكلت مؤخرا ميليشيات تعرف باسم «غاتيا» وتحالفت مع الجيش المالي، قبل أن تدخل في مواجهات مسلحة عنيفة مع المتمردين خلال الأشهر الماضية، كادت أن تعصف بالمساعي الدولية للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي.
ويشير مراقبون إلى أن قبيلة «إيفوغاس» كانت خلال العقود الماضية الحليف القوي للحكومة المركزية ولعبت أدوارا كبيرة في إخماد عمليات التمرد السابقة، ولكن باماكو بدأت في السنوات الأخيرة تعتمد أكثر على قبيلة «إيمغاد» التي وصل أحد أبرز قادتها العسكريين إلى رتبة جنرال في الجيش المالي؛ ما أثار حفيظة «إيفوغاس» التي استخدمت الحركات المسلحة التابعة لها من أجل تأزيم الوضع لتؤكد لباماكو أن أي مساعي لتحقيق السلام في شمال مالي يجب أن تمر عبرها وليس عبر «إيمغاد»؛ وأن استقرار إقليم أزواد لن يتحقق من دون موافقة رجال «إيفوغاس».
من جهة أخرى يزداد الوضع في شمال مالي تعقيدا في ظل النشاط المتزايد لشبكات التهريب والتنظيمات الإرهابية التي تصب الزيت على النار لتعميق الخلافات بين قبائل الطوارق حتى تسد الطريق أمام التوقيع على أي اتفاق سلام قد يهدد تحالفاتها السرية التي تؤمن لها طرق التهريب عبر الصحراء الشاسعة والبعيدة عن أي رقيب.

المستقبل الغامض

رغم الإعلان رسميا عن موعد التوقيع على الاتفاق الجديد يوم 26 مارس (آذار) الحالي في العاصمة المالية باماكو، فإن عدة أصوات أعلنت معارضتها للاتفاق سواء في صفوف المتمردين أو حتى في جنوب البلاد. ذلك ما عبر عنه القيادي في الحركة الوطنية لتحرير أزواد موسى أغ السعيد، لـ«الشرق الأوسط» حين قال إن «الاتفاق تم فرضه من طرف المجموعة الدولية التي هددت من يرفض توقعيه بالعقوبات». وأضاف أغ السعيد الذي يقيم في فرنسا أن «الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار تطلعات سكان إقليم أزواد، إنه وثيقة تقوم على اللامركزية ولا تتحدث عن أي حكم ذاتي أو فيدرالي؛ واللامركزية لا تلبي مطالب الشعب الأزوادي، الاتفاق الجديد أقل قيمة من الميثاق الوطني الذي وقع في الجزائر عام 1992، ولن يحل المشكلة حتى ولو تم التوقيع عليه».
في المقابل، كان معارضو الاتفاق في العاصمة باماكو يمن دون مخاوفهم من التمييز الإيجابي الذي سيحظى به الشمال على حساب مناطق أخرى من البلاد. وقال المحلل عمر بامبا في اتصال مع «الشرق الأوسط» من باماكو إن «الاتفاق الجديد يمنح امتيازات كبيرة للمناطق الشمالية، رغم أنه تفادي تسمية الشمال بأزواد، فإنه بدا واضحا أن هنالك دولة داخل الدولة، وبالتالي لن نستغرب إذا عاد الانفصاليون للمطالبة بالاستقلال بعد عشر سنوات، ويستخدمون الوسائل التي منحناهم لمحاربتنا.. إنه نفس السيناريو الذي وقع في السودان».

في صحراء أزواد كل شيء يتحرك ويتغير وفق معادلة معقدة يختلط فيها عوامل الأمن والسياسة والتهريب والإرهاب والجريمة المنظمة والأطماع الدولية في الثروات التي تنام في جوف الصحراء. الثابت الوحيد في هذه المعادلة المعقدة هو القبيلة بوصفها المحرك الرئيسي لجميع هذه العوامل.
ذلك ما يتضح أكثر عندما نلقي نظرة خاطفة على الحركات المسلحة التي تنتشر في الإقليم وتتكاثر يومًا بعد يوم:
> الحركة الوطنية لتحرير أزواد: تأسست عام 2011 من طرف قيادات عسكرية من قبائل «إيفوغاس» الطوارقية، وبدأت بقوة عسكرية اعتمدت فيها على سلاح مقاتلي الطوارق المنشقين من «الكتيبة الخضراء» للرئيس الليبي السابق معمر القذافي، تسعى لإقامة دولة ديمقراطية ذات طابع علماني في إقليم أزواد.
> المجلس الأعلى لوحدة أزواد: تأسس عام 2013 من طرف قيادات قبلية من «إيفوغاس» كانت في واجهة جماعة «أنصار الدين» التي سيطرت في عام 2012 على مناطق واسعة من شمال مالي بالتحالف مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
> الحركة العربية الأزوادية: تأسست عام 2012 بعد أن تمكن المتمردون الطوارق من طرد الجيش المالي من شمال البلاد، حيث بدأت القيادات القبلية العربية في التحرك من أجل إيجاد موطئ قدم لها في الإقليم، ولكن الحركة ظلت تعاني من التفكك والانقسام؛ فيما ظلت النواة الأولية متحالفة مع قبائل «إيفوغاس» وتتفق في المشروع الانفصالي مع الحركتين السابقتين.
> الحركة العربية الأزوادية (المنشقة): انشقت عام 2014 عن الحركة الأم بسبب خلافات داخلية، ويتحالف المنشقون مع قبائل «إيمغاد»، ويعلنون رفضهم لتقسيم دولة مالي.
> الائتلاف الشعبي من أجل أزواد: تأسس عام 2014 على يد منسحبين من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ويوصف بأنه مقرب من الحكومة المالية، فيما يحاول أن يظهر على أنه منحاز لسكان إقليم أزواد.
> تنسيقية الحركات والجبهات الوطنية للمقاومة: تأسست على يد قبائل السونغاي الزنجية في تسعينات القرن الماضي كردة فعل على حمل الطوارق والعرب للسلاح، وبدأت كقوة للدفاع الذاتي من أجل تأمين السكان، قبل أن تتحول إلى ميليشيات ارتكبت مجازر بشعة ضد البدو الرحل من الطوارق والعرب خلال تمرد التسعينات.



عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
TT

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» عن مواصلة العمل لتحقيق حلمه. إذ تفتحت عينا «عرّو» في مدينة هرجيسا، عاصمة إقليم «أرض الصومال» وكبرى مدنه، يوم 29 أبريل (نيسان) 1955، على نداءات للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتحقّق ذلك وعمره نحو 5 سنوات... وهو الآن يأمل باعتراف دولي للإقليم - الذي كان يُعرف سابقاً بـ«الصومال البريطاني» - وهو يترأسه بعمر الـ69 كسادس رئيس منذ انفصاله عن الجمهورية الصومالية عام 1991.

عاش عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» حياته بين دهاليز الدبلوماسية وسنوات غربة وتقلبات السياسة، وسجل أرقاماً قياسية، أبرزها أنه كان أطول رؤساء مجلس نواب إقليم «أرض الصومال» (صوماليلاند) عهداً مسجّلاً 12 سنة.

وجاء إعلان انتخابه رئيساً للإقليم في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المودّع، في ظرف تاريخي وتوقيت مصيري يواجهان بلاده وسط توترات حادة، أبرزها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية - التي لا تعترف بانفصاله - وترفض اتفاقاً مبدئياً أقرّه سلفه موسى بيحي عبدي مطلع 2024 مع إثيوبيا اعتبرت أنه يهدّد سيادة البلاد.

المولد والنشأة

وُلد عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» وفق مصادر «الشرق الأوسط»، في عائلة مكوّنة من 7 فتيات و3 أولاد، وهو حالياً متزوج ولديه 5 أبناء.

بدأ تعليمه الابتدائي في مدينة بربرة، ثاني كبرى مدن الإقليم وميناؤه الرئيس. وتابع تعليمه الثانوي في هرجيسا، منتقلاً إلى المدرسة الثانوية عام 1977. وبعد ذلك، انتقل إلى العاصمة الصومالية الفيدرالية مقديشو، حيث التحق بكلية سيدام ومنها حصل على درجة البكالوريوس في المحاسبة، وتضم شهاداته أيضاً درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودبلوماً في حل النزاعات.

بين عامي 1978 و1981، عمل «عرّو» في منظمة معنية بالتنمية الاجتماعية في مقديشو. وبين عامي 1981 و1988 شغل منصباً دبلوماسياً في وزارة الخارجية الصومالية بإدارة التعاون الاقتصادي. ومن مايو (أيار) 1988 إلى عام 1996، قبل أن يعمل مستشاراً للسفارة الصومالية في موسكو ثم نائب السفير والقائم بالأعمال.

العيش في الخارج

بعد انهيار الحكومة الصومالية، انتقل «عرّو» عام 1996 إلى فنلندا، التي كانت عائلته تقيم فيها منذ سنوات عدة وحصل على جنسيتها وظل مقيماً فيها حتى عام 1999.

للعلم، خلال عامي 1997 و1998 كان مساعد المنظمة الدولية للهجرة في فنلندا. بيد أنه عاد إلى إقليم أرض الصومال عام 1999، وبعد أقل من سنتين، أصبح «عرّو» أحد مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» UCID - حزب المعارضة البارز - مع فيصل علي وارابي منافسه في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وحينذاك شغل منصب نائب الأمين العام للحزب.

إقليم أرض الصومال شهد انتخابات لمجلس النواب، المكوّن من 82 نائباً، يوم 29 سبتمبر (أيلول) 2005. وكانت تلك أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب تنظَّم في الإقليم منذ انفصاله عن جمهورية الصومال (الصومال الإيطالي سابقاً) عام 1991. ولقد انتخب «عرو» نائباً عن منطقة ساحل بربرة، وانتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان (مجلس النواب)، وإبّان فترة ولايته سُنّت معظم قوانين الإقليم وتشريعاته.

لكن، بعد نحو 6 سنوات، وإثر خلاف تفجّر مع وارابي، أسّس «عرّو» الذي يتكلم اللغات الإنجليزية والعربية والروسية، «الحزب الوطني» - أو حزب «وداني» (الوطني) - المعارض الذي يميل إلى اليسار المعتدل ويحمل رؤية تقدمية في قضايا الأقليات والحريات كما يدعم المزيد من اللامركزية.

يوم 2 أغسطس (آب) 2017، استقال «عرّو» من رئاسة البرلمان بعدما شغل المنصب لمدة 12 سنة، وهي أطول فترة لرئيس برلمان بتاريخ الإقليم، معلناً أنه يتهيأ لدور أكثر أهمية كرئيس لأرض الصومال. غير أن آماله تحطمت على صخرة موسى بيحي عبدي، مرشح «حزب السلام والوحدة والتنمية» في المرة الأولى.

لكنه حقق مراده بعدما أعاد الكرَّة وترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت يوم 13 نوفمبر 2024، وحصل فيها على 63.92 في المائة من الأصوات متغلباً على عبدي الذي حل ثانياً بـ34.81 في المائة، لجنة الانتخابات الوطنية الرسمية بالإقليم.

الرئيس السادسانتخابات عام 2024 هي الانتخابات المباشرة الرابعة منذ عام 2003، ومع فوز «عرّو» غدا الرئيس الرابع حسب الانتخابات الرئاسية المباشرة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، وكذلك أصبح الرئيس السادس في المجمل منذ انفصال الإقليم 18 مايو 1991. ويذكر أنه عقب إعلان انفصال إقليم أرض الصومال، انتخب السفير عبد الرحمن أحمد علي، رئيس الحركة الوطنية بالبلاد حينها، ليكون أول رئيس للإقليم عبر انتخابات غير مباشرة. وفي 1993 انتخب السياسي محمد إبراهيم عقال رئيساً، وفي عام 1997 وجدّد له لفترة ثانية.

وبعد وفاة عقال عام 2002 أثناء رحلة علاج في جنوب أفريقيا، انتًخب نائبه طاهر ريالي كاهن؛ رئيساً للبلاد لتكملة الفترة الانتقالية. ثم في عام 2003، أجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في الإقليم، أسفرت عن فوز حزب «اتحاد الأمة» بقيادة الرئيس طاهر ريالي كاهن على السياسي أحمد محمد سيلانيو.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أُجريت ثاني انتخابات رئاسية مباشرة، وتمكن سيلانيو من الفوز بالرئاسة لفترة خمس سنوات. وانتهت الانتخابات الثالثة التي أجريت في 13 نوفمبر 2017، بفوز موسى بيحي عبدي، الذي حصل على 55 في المائة من الأصوات.

وكان من المقرر أن تُجرى انتخابات الرئاسة الرابعة في الإقليم عام 2022، لكن لجنة الانتخابات الوطنية أجّلتها إلى 2023 ثم إلى نوفمبر 2024 بعد تمديد نيابي لولاية الرئيس عبدي الذي يتولى الرئاسة منذ 2017. وأرجعت اللجنة التأجيلات إلى «قيود زمنية وتقنية ومالية»، وسط انتقادات من المعارضة، قبل أن يفوز «عرّو».

التزامات وتحديات

جاء انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال، لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا مطلع 2024، تسمح للأخيرة بمنفذ بحري على سواحل البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، مقابل الاعتراف بالإقليم بصفته دولةً مستقلة، الأمر الذي عدّته الحكومة الصومالية «اعتداءً على سيادتها وأراضيها».

إذ بجانب تحدّي الميناء، يشكّل الملف الداخلي تحدّياً ثانياً - بالذات - في أبعاده الأمنية والاقتصادية والعشائرية. كذلك تعدّ العلاقات الخارجية، وبخاصة مع إثيوبيا، تحدياً ثالثاً. ويضاف إلى ما سبق تحديان آخران، الرابع يتصل بملف المفاوضات المعلّقة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، والخامس بملف «حركة الشباب» الإرهابية المتطرفة.

هذه التحديات الخمسة، تقابلها التزامات أكّدها الرئيس المنتخب أثناء حملاته الانتخابية، منها التزامه بإعادة فتح وتنفيذ الحوار بين الإقليم والحكومة الفيدرالية الصومالية، وفق ما ذكرته إذاعة «صوت أميركا» باللغة الصومالية عقب مقابلة معه. وخلال حملاته الانتخابية أيضاً، قال «عرّو» إن حزبه سيراجع «مذكرة التفاهم» مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. في حين نقلت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) عن محمود آدم، الناطق باسم حزب «عرّو»، أن «الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء العملية، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأردف: «بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة».

لكن سبق هذه التعهدات والتحديات برنامج سياسي لحزب «وداني» تضمن خطوطاً عريضة متعلقة بالسياسة الخارجية لانتخاب الرئيس «عرّو» في عام 2024، أبرزها أن تكون الإجراءات القانونية والدبلوماسية لأرض الصومال مبنية على المصالح الوطنية ولا تتورط في نزاعات سياسية واقتصادية مع دول أخرى.

وتتضمن النقاط نقطتي:

- العمل على انضمام أرض الصومال إلى المنظمات الدولية الرئيسة، كالاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والكومنولث، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وغيرها.

- وإجراء مراجعة سنوية للسياسة الخارجية، لتعكس التطورات العالمية وتضمن التوافق مع المصالح الوطنية.

خبراء حاورتهم «الشرق الأوسط»، قالوا إنه من الصعب التكهن حالياً بتداعيات فوز مرشح المعارضة على مسار مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، لكنهم اعتبروا أن الرئيس المنتخب سيسلك استراتيجية أخرى لنيل الاعتراف الدولي، تقوم على تهدئة الخطاب السياسي تجاه مقديشو، وإرسال رسائل تطمينية لها؛ بغية حثّها على الاعتراف بـ«أرض الصومال» دولةً مستقلة، مقابل الوصول لصيغة قانونية جديدة معترف بها دولياً تحكم العلاقة بين المنطقتين، كصيغة الاتحاد الفيدرالي مثلاً.