قضايا المناخ تعزز وجودها داخل غرف الأخبار

التدريب وعدم تفاعل الجمهور أهم التحديات

صحف تتناول قضايا المناخ
صحف تتناول قضايا المناخ
TT

قضايا المناخ تعزز وجودها داخل غرف الأخبار

صحف تتناول قضايا المناخ
صحف تتناول قضايا المناخ

«احذروا... هذه المدن مُعرَّضة للغرق»، «ارتفاع درجة الحرارة يهدد الأرض»... عناوين انتشرت أخيراً في وسائل الإعلام، بالتزامن مع تغطية الفيضانات وحرائق الغابات، وموجات ارتفاع درجات الحرارة في العالم، جاءت نتيجة طبيعية للتغيرات المناخية الناتجة عن ارتفاع نسبة الانبعاثات الكربونية، والتي لطالما حذر منها العلماء.
وفي ظل هذه التطورات، يؤكد خبراء الإعلام أن «قضايا المناخ، وارتفاع درجة حرارة الأرض، لم تعد موضوعات رفاهية؛ بل باتت قضايا مهمة عرفت طريقها إلى غرف الأخبار».
الخبراء أشاروا أيضاً إلى «إطلاق كثير من المبادرات الدولية لتأهيل وتدريب الصحافيين والإعلاميين، والاهتمام بتغطية قضايا المناخ».
وفي الوقت الذي تتوجه فيه أنظار العالم إلى المنطقة العربية، بالتزامن مع استضافة مصر والإمارات مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ (COP27)، و(COP28) خلال العام الجاري والعام المقبل. يتوقع خبراء الإعلام أن «تحظى (قضايا المناخ) بمساحات أكبر من التغطية الإعلامية في الصحافة العربية»، مطالبين بأن «تهتم التغطيات والمتابعات بالتوعية بمخاطر التغيرات المناخية، والتركيز على المبادرات المتعلقة بكيفية التأقلم مع هذه التغيرات، وإيجاد بدائل للممارسات الضارة بالبيئة، فيما يعرف بـ(صحافة الحلول)».
الدكتورة أروى الكعلي، أستاذة الإعلام بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس، أكدت في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «قضايا المناخ لطالما طُرحت على أنها نوع من أنواع الرفاهية الصحافية، فهي ليست من الموضوعات التي يفضلها رؤساء التحرير، أو التي تحظى بأولوية بالنسبة إليهم. وينسحب ذلك على وسائل الإعلام في العالم بشكل عام».
وتضيف الكعلي أن «الإعلام يهتم بالقصص التي يرى نتائجها بسرعة، ولأن الاعتقاد السائد كان يردد أن آثار التغيرات المناخية بعيدة، فلم تكن قصص المناخ جاذبة للإعلام».
لكن أشرف أمين، الصحافي المصري المتخصص في العلوم وقضايا المناخ، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا النوع من القضايا كان يحظى بالاهتمام في فترات سابقة في مصر، مع وجود جيل من الصحافيين المهتمين بقضايا المناخ؛ لكن هذا الاهتمام تراجع على المستوى المحلي، رغم الاهتمام العالمي بهذه القضايا». ويتابع: «للأسف ملفات العلوم والمناخ هي أول ما يتم التضحية به، عند محاولة وسائل الإعلام تقليل النفقات».
في حين علقت الصحافية الأردنية، المتخصصة في مجال التغير المناخي، صفاء الجيوسي، لـ«الشرق الأوسط»، قائلة إن «الصحافة البيئية مهمة؛ لكنها قليلة جداً في الوطن العربي»؛ موضحة أنها بوصفها صحافية متخصصة في قضايا المناخ، «تتلقى عديداً من الاتصالات عند كل مؤتمر أو كارثة أو خبر مناخي؛ لكن دون وجود هذه الأحداث لا يوجد اهتمام حقيقي بقضايا المناخ، مما يعني أن الاهتمام بها موسمي».
وتتفق معها الصحافية المصرية المتخصصة في العلوم وقضايا المناخ، علياء أبو شهبة. وتقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «التغطيات تغلب عليها النمطية، كما أنها موسمية، مرتبطة بأحداث معينة، كما حدث أخيراً مع تغطية مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، المعروف بـ(COP26) في غلاسكو».
من جهة ثانية، عالمياً يبدو أن هناك اهتماماً بقضايا المناخ، من خلال مجموعة من المبادرات الدولية لتدريب الصحافيين وتأهيلهم على تغطية قضايا المناخ، ومن بينها شبكة «أكسفورد لصحافيي المناخ» التابعة لمعهد «رويترز» للصحافة، و«مشروع تغطية المناخ الآن» التابع لـ«كولومبيا جورناليزم ريفيو».
وهنا يقول وولفانغ بلاو، المؤسس المشارك لشبكة «أكسفورد لصحافيي المناخ» في بريطانيا، إن «قضايا التغير المناخي تعتبر الآن أكبر وأطول قصة صحافية سيعمل عليها الجيل الحالي من الصحافيين، ومن وجهة نظر اقتصادية هي أيضاً أكبر قصة اقتصادية سوف يسجلها التاريخ. والإنسانية الآن تواجه سؤالاً مفاده: كيف ستتعامل وتتأقلم مع التغيرات المناخية وتأثيراتها؟ حيث يجب خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 45 في المائة بحلول عام 2030، إذا كنا نريد الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية».
وبالفعل تؤكد الكعلي أن «درجة اهتمام الإعلام بقضايا البيئة تغيرت مع بدء المعاناة من تبعات التغيرات المناخية، فلم يعد الأمر يتعلق بصور نراها في أفلام الخيال العلمي؛ بل أصبحنا نرى ما تمثله هذه التغيرات على حياتنا اليومية، من ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، وحرائق الغابات، وذوبان الجليد، والفصول التي لم نعد نفهمها، إضافة إلى التبعات على الأمن الغذائي والاقتصاد وغيرها، لذلك نجد أن التقارير والتغطيات في وسائل الإعلام الغربية تكثفت، وتزداد في الدول العربية». وتشير إلى أنه «في تونس عرفنا في الصيف الماضي درجات حرارة قياسية، فأصبحنا نتحدث عن حجر مناخي بدلاً من الحجر الصحي؛ لأن الحرارة تدفع إلى البقاء في المنزل، ومن الطبيعي أن نجد أن وسائل الإعلام تهتم بالموضوع؛ لكن هذا الاهتمام لا يتزامن مع وضع استراتيجيات للتعامل مع هذا الملف؛ خصوصاً من مقاربة قائمة على صحافة الحلول».
عودة إلى أبو شهبة التي تؤكد أن «الدول العربية تتحمل بعض تبعات مشكلة تغير المناخ، رغم أنها ليست من صنعها، وبمرور الوقت تزداد آثار المشكلة وعواقبها في صور عدة، وهو ما يتطلب التوعية، إما بإظهار تأثير التغير المناخي على النواحي كافة؛ لأن له أثراً صحياً واقتصادياً، وليس بيئياً فقط، وإما عبر التوعية بتوقف سلوك أو نهج صناعي معين».
وتظهر قضايا المناخ الآن بشكل أكبر في التغطيات الصحافية بوسائل الإعلام العالمية، معظمها كان مدفوعاً بتغطية قمة الأطراف في غلاسكو، نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والأهم هو الحوادث المناخية التي شهدها العالم، من موجة الحرارة في مقاطعة كولومبيا البريطانية في كندا التي قتلت 569 في الصيف الماضي، والفيضانات في ألمانيا، والحرائق في اليونان وتركيا وإيطاليا، وهذه هي التأثيرات الظاهرة على السطح للتغيرات المناخية، بحسب تقرير نشره موقع رابطة ناشري الأخبار العالمية «وان إيفرا»، الشهر الماضي.
ووفق وولفانغ بلاو، فإن «عام 2030 يبعد عنا أقل من 3000 يوم، وبعده سيكون علينا خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر، بحلول عام 2050، وهذا يتعلق بـ(كيف نزرع ونأكل وندفئ منازلنا وننتقل من مكان لآخر وننتج الملابس والأدوات)، فيجب أن نجد طريقة لعمل ذلك دون تدمير الكوكب». ويستطرد بقوله: «إن كثيراً من المؤسسات الإعلامية الآن تنوي توسيع تغطيتها لهذه القضايا؛ لكنها تواجه تحديات تتعلق بالتدريب، وعدم الاقتناع بصحافة الحلول، إضافة إلى التحديات المتعلقة بمكانة هذا النوع من القصص وأهميتها لدى الجمهور».
عودة إلى الجيوسي التي ترى أن «الإعلام والصحافة بشكل عام، والصحافة الاستقصائية بشكل خاص، هي جزء من الشركاء في حلول التغير المناخي، وأحد الشركاء الذين ساهموا في إنجاح اتفاقية باريس 2015، والإعلام العربي يمكنه فعل الكثير بالتوعية بحلول وآثار المناخ، والضغط على أصحاب القرار، والعمل مع الشركاء المحليين والإقليميين».
الجيوسي أعربت عن أملها في أن «يزداد الاهتمام بقضايا المناخ في الإعلام العربي مع استضافة قمتي مناخ في المنطقة؛ حيث سيسلط العالم الضوء على التغير المناخي في المنطقة العربية، وهو ما يدفعنا إلى إنتاج مواد صحافية مبتكرة تجذب المشاهدين، وقصص من حلول وآثار من المجتمعات المحلية الأكثر هشاشة وتأثراً».
بدوره، أعرب أمين عن أمله في «ألا يكون الاهتمام العربي بقضايا المناخ الآن مرتبطاً بتنظيم مؤتمرَي المناخ في مصر والإمارات؛ بل أن يكون اهتماماً حقيقياً، ويتم إفساح المجال لاستعراض مبادرات المجتمع المدني لمواجهة التغيرات المناخية، مع استعراض تأثيراتها، فهذه فرصة لتسليط الضوء وإعادة إحياء صحافة المناخ».
وحول مشكلات تغطية قضايا المناخ، يشير أمين إلى أنها تتلخص في «نقص التدريب لإعداد جيل من الصحافيين المتخصصين، إضافة إلى عدم منح هذه القضايا المساحة المطلوبة من الاهتمام».
وهنا تؤكد أبو شهبة «ضرورة أن يتمتع الصحافي بدرجة كبيرة من الوعي والمعرفة بكل ما يتعلق بالتغير المناخي وتبعاته والمستجدات الدائمة، إضافة إلى المعرفة العلمية، والقدرة على اختيار زاوية مختلفة ومميزة لطرح موضوعات المناخ، وربطها بالحياة اليومية للأفراد، وتبسيط المعلومات بقدر الإمكان». وتشير إلى «زيادة الاهتمام عربياً بتأهيل وتدريب الصحافيين على تغطية القضايا البيئية بوجه عام، والمتعلقة بتغير المناخ على وجه الخصوص، كما حدث في مؤتمر (أريج الرابع عشر للصحافة الاستقصائية) الذي عُقد الشهر الماضي»، مطالبة «بتنظيم مسابقات صحافية في هذا التخصص، لتحفيز الصحافيين على تقديم أفكار مبتكرة».
«العثور على صحافي متخصص ومؤهل لتغطية قضايا المناخ (أمر ليس سهلاً)»، وذلك بحسب وولفانغ بلاو الذي يؤكد أن «تأهيل صحافي متخصص في قضايا المناخ أمر مكلف، إضافة إلى أن هذا النوع من الصحافة لا يحظى بالتفاعل المطلوب من الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو تحدٍّ تنبغي مواجهته».
في السياق نفسه، تقول الكعلي إن «التغيرات المناخية موضوع يمكن تناوله من زوايا مختلفة، ويتطلب مستوى أدنى من التخصص، وهذا يبرر ما نراه أخيراً من دورات تدريبية في العالم العربي، تقدم للصحافيين ممن يريدون التخصص في هذا المجال؛ ولكن تدريجياً سيكون هذا الموضوع هو السائد على أجندة الصحافيين»، مشيرة إلى ضرورة «طرح هذه القضايا من زواياها المختلفة اقتصادياً وسياسياً، وتوضيح تبعاتها على حياة المواطنين لاجتذاب تفاعلهم واهتمامهم، والأهم تقديمها مع مقاربة الحلول؛ لأن الأهم من تسليط الضوء على قضايا المناخ ومعرفة تبعاتها، أن نوضح للمواطن ما يمكنه أن يفعله تجاهها؛ لأن هنالك الكثير مما يمكن أن نفعله، ومن شأنه أن يُحدث لو تغييراً بسيطاً، أو على الأقل يؤجل من تبعات التغيرات المناخية أو يحد منها؛ لأننا كبشر تأخرنا كثيراً في التعامل معها».
الكعلي تشدد أيضاً على «ضرورة التعاون الدولي في تغطية قضايا المناخ، باعتبارها ظاهرة كونية تمتد خارج الحدود الجغرافية، وأن يتم العمل أيضاً على التدقيق في المعلومات المرتبطة بالتغيرات المناخية، والتي ينتشر حولها عديد من المعلومات (المضللة والمغلوطة)».
وهنا، يعتبر خبراء الإعلام أن «عام 2022 فرصة للصحافة لإنقاذ كوكب الأرض، عبر الكتابة عن تأثير التغيرات المناخية»، بحسب تقرير نشره موقع «كولومبيا جورناليزم ريفيو» الشهر الماضي.
وقال الصحافي المتخصص في قضايا المناخ، أندرو فريدمان، في مقال نشره الشهر الماضي موقع «نيمان لاب» المتخصص في دراسة الصحافة والإعلام، إن «عام 2022 هو العام الذي سنتحول فيه كلنا إلى صحافيي مناخ؛ حيث نبهت الأحداث المناخية التي وقعت خلال عام 2021 كثيراً من غرف الأخبار إلى الحاجة إلى تغطية قضايا المناخ وتأثيراتها».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».