عالم متحرك ينتقل إلى هندسة مختلفة

عالم متحرك ينتقل إلى هندسة مختلفة
TT

عالم متحرك ينتقل إلى هندسة مختلفة

عالم متحرك ينتقل إلى هندسة مختلفة


تعترض الناظر في تحولات النظام العالمي عقبات ليست بالهيِّنة. فعليه أن يترفع عن انحيازاته الواعية أو المضمرة، وأن يتجاوز اهتمامه التلقائي بأمكنة تعني له دون غيرها، وأن يحتسب أن عاماً من الزمن ما هو غير برهة عابرة من مسار ذاك النظام، ناهيك بذلك التشوش الكوني الذي أضافته الجائحة على بصيرة الناس جميعاً. لكن على المرء السعي، وهذا ما نحن إليه.
نحن وسط نظام متحرك ينتقل تدريجاً إلى هندسة مختلفة. ويعني هذا الانتقال، أولاً، الدول الكبرى المتحكمة بمفاصل النظام الأساسية، بدءاً من دولة لا يشك أحد أنها عظمى، ولو أنها تبدو خائفة من وصول منافسين آخرين إلى مرتبتها. ومن ثانية، كانت دولة عظمى حتى انهيار جدار برلين، يوم تقلصت رقعتها وتراجع نفوذها، وراح من يتعامل معها كقوة إقليمية في محيطها المباشر، لكنها ما لبثت أن سعت مجدداً للفوز بمرتبة عالمية، ومن أوكرانيا إلى سوريا فأفريقيا، بدت كأنها استعادت، ولو جزئياً، تلك المكانة.
ومن ثالثة، تمكنت من القيام بقفزة اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ، أخرجت مئات الملايين من مواطنيها من خانة الفقر، فأصبحت قوة عظمى بمعيار الاقتصاد، وراحت تسعى إلى ترجمة هذا الترقي المادي إلى لغة النفوذ الاستراتيجي، بل سارت خطوات كبيرة على تلك الطريق، حتى اعترفت بها الدولة العظمى خصماً أولاً لها في النظام، بل هي أعلنت على الملأ قرارها بتطويق هذا المزاحم الطموح قبل أن يستكمل تحوله إلى منافس خطر.
يعني هذا التحول، أن تفُّرد الولايات المتحدة بمجمل النظام بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم يدم طويلاً، إن لم يكن في حقيقة الأمر سراباً واندثر بفعل النهوض العسكري الروسي وشبه المعجزة الاقتصادية الصينية. ويشي التحول بأننا في خضمّ عملية واسعة لإعادة توزيع القوة بين الدول الكبرى، وإنْ كانت الولايات المتحدة لا تزال تتميز عن غيرها باستجماعها معظم عناصر القوة: من ماكينة عسكرية لا شبيه لإمكانياتها، إلى عملة ما زالت الأكثر شيوعاً في العالم، إلى قفزات تكنولوجية لا تتوقف وتيرتها لحظة. ولكنّ دولاً أخرى صارت عازمة هي الأخرى على استكمال عناصر القوة كما باتت تُحدَّد اليوم، والتكنولوجيا السيبرانية كما الذكاء الصناعي هما من أهم مكوناتها.
لكنّ إعادة توزُّع القوة لا تنحصر البتة بالثلاثي السابق. فلدى أوروبا من الإمكانيات ما يؤمّن لها موقعاً لا يستهان به في النظام الدولي قيد التكون، إذ تمكنت مؤسساتها المشتركة من تجاوز وقيعة «بريكست»، بينما يعبٌر الأوروبيون عن تمسك متزايد بما يجمعهم، بدءاً باليورو و«شينغن» و«إيراسموس» وغيرها من المنجزات، ولو أن قدرات القارة الهرمة في المجال العسكري لا تقارن بإمكانياتها المالية والصناعية والتكنولوجية. ولا يبدو لي أن هذا التفاوت الكبير في مكونات نفوذها مقبل على تصحيح قريب.

في المقابل، فإن عودة الدول العظمى للتركيز على التنافس فيما بينها، فتح الباب أمام قوى وسيطة تمكنت من حيازة هذا أو ذاك من عناصر القوة، فأرغمت القريب والبعيد على أخذها بالحسبان. وهذه حال إيران التي تمكنت من تعظيم قدراتها الصاروخية ومن بناء تحالفات آيديولوجية متينة مع قوى تدين لها بالولاء، كما هو حال تركيا التي تمكنت من بناء خط استراتيجي، متعرج إنما مستقل، خلال العقدين الماضيين، دون أن تضطر للخروج من تحت المظلة الوقائية الأطلسية. وهذا طبعاً، حال الهند المستعدة للاستفادة المتنوعة من مقارعة واشنطن للنفوذ الصيني، أو اليابان التي تخرج تدريجاً من القيود التي تحكمت بها في العقود المنصرمة، وأيضا، إندونيسيا الطامحة لدور أكبر في الساحة الإسلامية.
لا تعمل روسيا ولا الصين أو الهند أو اليابان على نشر آيديولوجيا بعينها بقدر حرصها على مد نفوذها. أما الغرب، فهو ما زال مقتنعاً إلى حدٍّ كبير بأن حضارته هي الوحيدة الجديرة بأن تعد عالمية في مضمونها وقيمها ومؤسساتها. لذلك، استتبع تفوق الغرب إجمالاً سعياً حثيثاً لتصدير نموذجه لما هي الدولة والحكم الرشيد والمشاركة السياسية إلى مختلف أنحاء العالم. وأدى هذا الجهد التبشيري إلى اعتراضات واسعة من شرائح اجتماعية ترفض، لا نفوذ الغرب وحسب، بل نموذجه السياسي والاجتماعي أيضاً. أما في الغرب نفسه، فقد شكل هذا الأمر معضلة عميقة داخل النخب الحاكمة، بين الداعين لتغليب المصالح الوطنية على أي اعتبار آخر وبين الساعين لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويقيني، أن السنوات المقبلة ستشهد خفوتاً لدعاة حقوق الإنسان وتنامياً للواقعية القائلة بأن الغرب بات عاجزاً عن تصدير مفاهيمه، هذا إن كان هو نفسه مقتنعاً بها. من هنا نجد نوعاً من التأقلم مع الانقلابات التي حصلت مؤخراً في دول مثل ميانمار أو مالي أو غينيا، ونوعاً من الاستكانة لتراجع المد الديمقراطي على مستوى العالم، كما رأينا في خواء قمة الديمقراطيات التي عقدها بايدن منذ أسابيع (التي بالمناسبة لم تدع دولة عربية واحدة لحضورها).
في المقابل، فإن الهم الديمغرافي هو الذي بات طاغياً في مختلف دول الغرب، وترى ذلك في فوز دونالد ترمب ببرنامج شوفيني غير مسبوق، أو في مبادرته لبناء جدار يفصل بلاده عن المكسيك، أو في نمو تيارات اليمين الشوفيني في مختلف الدول الأوروبية، لا سيما في شرقها وأيضاً في شمالها الاسكندنافي. وسيزداد الهلع من موجات النازحين من أفريقيا ومن آسيا في مختلف دول أوروبا الغربية، كما من أميركا الوسطى والجنوبية في الولايات المتحدة. وكان مقال لآن ماري سلاوتر في «ذي إيكونوميست» قد استوقفني، جوهره أن العنصر الأكثر تأثيراً على السياسة الخارجية الأميركية في السنوات والعقود المقبلة سيكون التركيبة السكانية للولايات المتحدة، حيث سيفرض تصاعد غير البيض توجهات مختلفة جوهرياً عن التي اعتدنا عليها. ندخل في زمن سيشعر فيه الرجل الأبيض لا بانحسار نفوذه السياسي وحسب، بل بالانكماش المتفاقم لحصته من سكان العالم، وبالشهوة المتزايدة لدى المليارات من مساكين العالم للهجرة إلى أصقاعه، ولو ركبوا لتحقيق حلمهم أصعب المخاطر عبر البحار والصحاري.
لن تتوقف النزاعات طبعاً في عالم تتحكم به فروقات هائلة في الثروة، وهويات دينية ومذهبية وقومية متناحرة، وأحلام بالترقي لم تتحقق، فأورثت أصحابها مشاعر بالظلم والتفرقة. لكن نزاعات الدول ستبقى نادرة الحصول، بل إن ترساناتها ستكون فعالة بمجرد وجودها كمصدر للردع ودونما حاجة لاستعمالها. لن تقْدم الدول القادرة على حروب، بل على عمليات متكررة ضد خصومها، هي أقرب لحملات الشرطة منها للحروب، ولن توظف الآلاف المؤلفة من الضباط والعسكر، بل ستعتمد على الطيران المسيّر من بُعد، وعلى الصواريخ الذكية، وعلى شركات الأمن الخاصة (وهو اسم المرتزقة بعد اليوم). في المقابل، ستعتمد دول أخرى على جماعات مسلحة تواليها وتحارب بالنيابة عنها، دون أن تورّطها بحروب لا طائل منها. فسترانا نودّع المعارك (المحددة في ثلاث: الزمان، والمكان، وهوية المتقاتلين) كما نظّر لها كلاوزفيتش، لندخل عصر العمليات المتكررة التي لا تنتهي بانتصار بيّن ولا بهزيمة نكراء، بل بتعديلات جزئية متراكمة على ميزان القوى بين الخصوم.
وبالتوازي مع حلول العمليات الشرطية مكان الحروب التقليدية، سينتقل ميدان التخاصم من ميادين القتال إلى عالم المال والاقتصاد، فيزداد اللجوء للعقوبات الفردية والجماعية، وتجميد الودائع والرساميل، وتشجيع الاستثمار، أو بالعكس الحرمان منه. فالتحول في النظام الدولي السياسي يتم وسط شيوع الرأسمالية، وانتصار النيوليبرالية، ما يجعل المصارف المكان الأمثل لمحاربة الإرهاب كما لمعاقبة الخصوم. وسيزداد بالتالي دور وزارات الخزانة في تنفيذ السياسة الخارجية على حساب الدبلوماسية التقليدية.
وفي المقابل، سينتقل التنافس بين الدول القادرة من الطائرات والدبابات إلى الميدان الأكثر تقدماً، أي إلى الفضاء السيبراني. من هنا، نجد الاستثمار الهائل الذي نشهده اليوم في وسائل الهجوم على الحاسوب، للتلاعب بانتخابات الخصم أو لتعطيل مؤسساته ولتفكيك مجتمعاته، كما في وسائل الدفاع عن المنجزات التكنولوجية المحقَّقة ضد الأعداء المحتملين أو ضد جواسيس هم التكنولوجيون، ولن تدع الحكومات القادرة مجال «السوشيال ميديا» للأفراد والجماعات، بل ستهتم باحتلاله وتطويعه للدعاية لنفسها، كما لمراقبة مواطنيها، أو للتجسس على خصومها.
ولن تختار الدول مجال تحركها كما تشاء. فهذه أميركا تقرر التركيز على التحدي الصيني، لكنّ نشاط بوتين في أوكرانيا أو في سوريا، كما نمو نفوذ طهران، يعيدانها إلى منطقتنا. وهذه الصين تنأى بنفسها عن النزاعات خارج محيطها المباشر، لكنها تضطر لاحقاً للدفاع عن مصالحها الاقتصادية المنشورة عبر الكرة الأرضية. وهذه أوروبا تسعى للتحلل من ارتباطاتها الاستعمارية، لكن القلق من الإرهاب ومن الهجرة غير الشرعية يرغمانها على التوغل مجدداً في نزاعات القارة السمراء.
وسيكون من الصعب على كل هذه الدول الاعتماد على الأمم المتحدة للنيابة عنها في هذه القضايا. فالمنظمة لم تتمكن من أن تصبح آلية الأمن الجماعي التي حلم بها المؤسسون، بل راحت تتجنب المهمة الأولى المناطة بها، أي حفظ السلام والأمن، واستبدلت بها مهام مفيدة وضرورية لكنها أقرب منالاً، كالتغيُّر المناخي، ومكافحة الجوائح، وإطعام المعدومين ورعاية اللاجئين، والمساواة بين الجنسين، أو الدفاع عن حقوق الإنسان، وتحولت بالتالي من منظمة سياسية وأمنية ودبلوماسية إلى جمعية إنسانية، وإلى منصة تبشيرية للقضايا التي لا يختلف عليها نظرياً اثنان. وهذا بالتمام ما يريده القادرون من أعضائها لها.
ومن سخريات القدر، أننا بدأنا القرن ونحن مندهشون من عظمة العولمة وهولها، وبتنا اليوم لا نكاد نرى فارقاً حقيقياً بين السياستين الداخلية والخارجية، كأن العولمة قد أدت عملياً إلى توسعة الأولى إلى حدود العالم على حساب الثانية التي فقدت خصوصيتها إلى حد كبير. فالإرهاب لا يعرف حدوداً، ولا الحرب عليه، والمعضلة الديمغرافية لا تعترف بالحدود بل تريد تجاوزها، والسويفت المصرفي عابر للحدود بطبيعته. أما الفضاء السيبراني، فقد قام في جوهره على عالم بلا حدود، لا للمعلومة ولا للرأي. وبات العالم اليوم منقسماً بالفعل بين مجتمعات قادرة على الفعل بأدوات التقنية المتجددة في كل صباح، وبين مجتمعات أخرى ما زالت ضحية نزاعات الأمس وأدواتها من اقتتال وتحارب ومخيمات اللاجئين ومآسي المهجّرين. وسنعيش على كرة تحضننا جميعاً، إنما في أزمنة متباعدة، كأننا غرباء بين أهلينا.



أبرز ردود الفعل الدولية على هجوم نيو أورليانز

شرطة نيو أورليانز في مكان الحادث (أ.ب)
شرطة نيو أورليانز في مكان الحادث (أ.ب)
TT

أبرز ردود الفعل الدولية على هجوم نيو أورليانز

شرطة نيو أورليانز في مكان الحادث (أ.ب)
شرطة نيو أورليانز في مكان الحادث (أ.ب)

أثار هجوم نيو أورليانز، فجر أمس الأربعاء، الذي استهدف محتفلين برأس السنة، وأسفر عن مقتل 15 شخصاً على الأقل وإصابة العشرات، إدانات دولية.

فيما يأتي أبرزها:

فرنسا

أبدى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تعاطفه «مع الشعب الأميركي الذي نشاطره الألم»، مؤكداً عبر منصة «إكس» أن المدينة التي «ضربها الإرهاب غالية على قلوب الفرنسيين».

وأسس مستعمرون فرنسيون نيو أورليانز، وقد وقع الهجوم في الحي الفرنسي الشهير بالمدينة.

كذلك، قدّم كريستيان إستروسي، رئيس بلدية مدينة نيس الجنوبية التي تعرضت لهجوم دهس عام 2016 أدى إلى مقتل 86 شخصاً، تعازيه.

وقال إن «المأساة التي وقعت في نيو أورليانز، المدينة الشقيقة لنيس، تذكرنا بشكل مؤلم بالمأساة التي شهدناها... أفكارنا مع العائلات والأرواح التي راحت ضحية عملية الدهس في احتفالات منتصف العام الجديد».

المملكة المتحدة

قال رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، عبر «إكس» إن «الهجوم العنيف الصادم في نيو أورليانز مروع».

وأضاف: «تعاطفي مع الضحايا وعائلاتهم وأجهزة الطوارئ وشعب الولايات المتحدة في هذا الوقت المأسوي».

الصين

قالت الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، خلال مؤتمر صحافي: «صدمنا بهذا الهجوم العنيف»، مضيفة أن «الصين تعارض كل أعمال العنف والإرهاب التي تستهدف المدنيين».

وتابعت: «نحن حزانى على الضحايا، ونعرب عن تعاطفنا مع أسرهم ومع المصابين».

أوكرانيا

قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عبر «إكس» إنه «روّع بالهجوم الذي وقع في نيو أورليانز بالولايات المتحدة الذي أودى بحياة أبرياء وأدى إلى إصابة العديد من الأشخاص».

وأضاف: «نحن على ثقة بأن المسؤولين عن هذا العمل الفظيع سيحاسبون. إن العنف والإرهاب وأي تهديدات لحياة الناس ليس لها مكان في عالمنا، ويجب عدم التسامح معها. نقدم تعازينا الصادقة لأسر الضحايا... أوكرانيا تقف بجانب الشعب الأميركي وتدين العنف».

الاتحاد الأوروبي

عدّت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، عبر منصة «إكس» أن «لا عذر لعنف مماثل»، مبدية «حزنها الكبير».

وأضافت: «نحن نتضامن بشكل كامل مع الضحايا وعائلاتهم خلال هذه اللحظة المأسوية».

الأمم المتحدة

دان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الهجوم «بشدة» و«قدم تعازيه لأسر الذين فقدوا أرواحهم»، «كما تمنى الشفاء العاجل للجرحى» بحسب بيان صادر عن الناطق باسمه.

ألمانيا

قال المستشار الألماني، أولاف شولتس، عبر «إكس»: «إنها أخبار فظيعة من نيو أورليانز».

وأضاف: «أشخاص يحتفلون تؤخذ حياتهم أو يصابون بسبب كراهية لا معنى لها. نحن نحزن مع عائلات الضحايا وأصدقائهم، ونتمنى الشفاء العاجل لجميع المصابين».

إسرائيل

وكتب وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، عبر «إكس»: «أشعر بحزن كبير إزاء الهجوم الإرهابي في نيو أورليانز».

وأضاف: «أقدم خالص التعازي لأسر الضحايا. أتمنى الشفاء العاجل للمواطنين الإسرائيليين المصابين وجميع الجرحى... لا مكان للإرهاب في عالمنا».

تركيا

قالت وزارة الخارجية التركية في بيان: «نحن نشعر بحزن عميق جراء الهجوم الذي وقع في نيو أورليانز في الولايات المتحدة».

وأضافت: «نتقدم بتعازينا لأسر وأصدقاء الذين فقدوا أرواحهم... نأمل في أن يتم الكشف عن دوافع الهجوم في أقرب وقت ممكن، وأن تتم محاسبة المسؤولين عنه».