وفاة علي الهويريني... فنان البدايات وفيلسوف الشعراء

الفنان والمخرج السعودي علي الهويريني
الفنان والمخرج السعودي علي الهويريني
TT

وفاة علي الهويريني... فنان البدايات وفيلسوف الشعراء

الفنان والمخرج السعودي علي الهويريني
الفنان والمخرج السعودي علي الهويريني

بعد معاناة مع المرض، تُوفي اليوم (الخميس) الشاعر والفنان والمخرج السعودي، علي عبد الله الهويريني، تاركاً خلفه تراثاً أدبياً يمزج بين المعرفة والعرفان، في قصائد حملت لغة وجدانية تميل للتصوف أحياناً وللفلسفة تارة أخرى.
وذكرت الصفحة الرسمية للراحل الهويريني في «تويتر»، أنه تم نقله للمستشفى، وإدخاله غرفة العمليات، ثم تمّ الإعلان عن وفاته عن 72 عاماً.
عاش الهويريني حياة متعددة المقامات، فقد بدأ حياته فناناً درس في شبابه الإخراج والموسيقى والتمثيل، وكان أول طالب سعودي يحصل على شهادة الإخراج السينمائي من إحدى الجامعات الأميركية. كما عمل في التعليم والإعلام وفي سلك الأمن العام 17 عاماً.
ولادته كانت في مدينة البدائع بالقصيم السعودية، في 19 مايو (أيار) 1945، وبعد أن تلقى فيها علومه الابتدائية، انتقل للرياض ودرس في المعهد الصناعي، لكن هواية الفن والتمثيل والإخراج ساقته إلى الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث التحق بجامعة «كولومبيا كولج هوليود Columbia College Hollywood» في ولاية لوس أنجلوس الأميركية، وتخرج فيها كأول سعودي يحوز على شهادة الإخراج السينمائي.
بدأ حياته العملية في السبعينات الميلادية في الهندسة الإذاعية والإخراج، كما شارك في التمثيل، وكانت أول مشاركة له كممثل في العام 1974 في مسلسل «أيام لا تنسى» من إخراج سعد الفريح، وبطولة سعد خضر، وعبد الرحمن الخطيب، ومحمد العلي، وعبد الله السدحان، وعبد العزيز الحماد. تلاه مسلسل «فاعل خير» تأليف إبراهيم الحمدان، وبطولة علي المدفع، وإبراهيم الحمدان، وعلي إبراهيم، ونوال بخش. وشارك في مسلسل «نورة» في العام 1977 من بطولة محمد العلي وأسمهان توفيق، وفي عام 1978 شارك في مسرحية «قطار الحظ»، ومسرحية «تحت الكراسي» سنة 1985، ثم شارك في مسلسل «الملقوف» 1987، والدراما التلفزيونية «رجل النصف مليون» 1991، ومسلسل «السراج» 1994، ومسلسل «أحلام ضائعة» 1997، ومسلسل «العود» 2002، ومسرحية «بخور كوالالمبور» 2006.
وشهد العام 2009 آخر مشاركاته الفنية حيث قدّم هذا العام مسلسلين «أبجد هوز»، و«الخادمة» ومسرحية «الزئبق الأحمر».

اكتسب الهويريني مكانة من خلال التعبيرات الشعرية التي كان يطلقها، وتحمل مسحة روحية وفلسفية، واشتهر الهويريني بلغته الشعرية الوجدانية في قصائده، التي تناقلت الأيدي ووسائل التواصل مقاطع منها، تحثّ على الزهد في الدنيا، والتبصر فيها، من بينها قوله...
تَبْكِي البَوَاكِي عَلَى الدُنْيَا وزِينَتِهَا
وأبْيَضَ دمْعِي في عيني مِنْ جَلَدِي
لكن آراءه الفكرية كانت مثار سخط واعتراض. من بينها آراؤه الجريئة بشأن المرأة، والفتوحات الإسلامية ورفضه مبدأ نشر الإسلام عبر الحروب وحمل السيف، وهي الآراء التي أطلقها في برنامج حواري عبر قناة «روتانا خليجية»، رافضاً أن يرفع أحد السيف باسم الدين. وقال كذلك: «أنا أرى أن الإسلام لا يحكمه عربي... والأمم تحكم نفسها». لكن أشد الانتقادات التي طالت آراءه، كانت متعلقة برأيه في قوانين الجاذبية الأرضية؛ حيث قال متهكماً: «هذه جاذبية واحد رآها (وهو) قاعد تحت شجرة وبدأ (يضع) لنا أرقاماً وبدأنا نقرأها، الأرض تدور حول نفسها، قل لي لماذا غلافنا الجوي يرتفع 13 ألف قدم؟ لماذا لا يسقط؟ إذا كانت الأرض تجذبه؟».
ومن أشهر قصائد علي الهويريني قصيدته «يا سدرة الحقف»...
يا سدرة الحقف والأحقاف خاوية
تروي بك الريح ما لم تروه الرمم
قصي على التيه أجداث بها غبرت
فالتيه أم ثكول قلبها شبم
يا أمة الخضر كوني خير شاهدة
فالباسقات ترى ما لا يرى النجم
وكل مخطوطة في الأرض قد نهلت
من المعين كريم ذلك السحم
والناس مرج فهذا ملحه أجج
وذاك عذب فرات سحبه ديم
وفي الوليد رجال لا خلاق لهم
وفي الوليد رجال غضبهم طيم
والنقد إن كان جراحاً فإن له
في مشرط الحق حق تبده الذمم
فصاحب القول إن كانت صحائفه
بيضاً تبين فلا خوف ولا ندم
وصاحب القول إن في قوله عوج
فالمستقيم صراط حده عدم
من يطلب العلم كي يؤمن فإن له
من بعد علم إذا لم يؤمن النقم



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)