«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

مقتل المنظّر إبراهيم الربيش ألقى حجرًا في بركة التنظيم المترهّل

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة
TT

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

ليس من قبيل المصادفة أن يُصاب «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بانكسارات عميقة بعد تراجع سطوته في الداخل عقب قيام «أنصار الله» الحوثيين باجتياح مناطق جنوبية كانت تعبث بها «القاعدة»، وبعدما تخلّت الأطراف المنتفعة من بقاء التنظيم لصالح تقويض الدولة اليمنية.
إلا أن هذا الانهيار الوشيك لا يمكن تفسيره بعوامل خارجية فحسب، بل يمكن القول إن مزاحمة «داعش» لـ«القاعدة»، وانتصاراتها على الأرض وسحقها مقاتلي «القاعدة»، يرافقه الآن حملة تحوّلات هائلة لنقل «البيعة» من أيمن الظواهري إلى خليفة «داعش» المزعوم أبو بكر البغدادي.
في السياق ذاته تراجعت الحرب الأهلية بين الفريقين في مناطق التوتر على حدود العراق وسوريا بهزيمة ساحقة لتنظيم داعش. إلا أن الحرب الفكرية بدأت بين الدواعش وبقايا تنظيم القاعدة الذين فقدوا رموزهم الفكرية وانفرادهم بشرعية التنظيم السابقة، والتي ما عادت تغري الشبّان الجدد الطامحين إلى انتصارات - ولو معنوية - بعدما تحوّلت التنظيمات المسلحة من مرحلة «الحور العين» إلى «التمكين في الأرض» وبناء دولة الإسلام. ويمثل مقتل إبراهيم الربيش «المنظّر الشرعي» والقائد الميداني المقدّر عند المتعاطفين مع التنظيمات المسلحة، والقادم من خلفية شرعية أكاديمية حيث ذهب أول مرة في أفغانستان للعمل الإغاثي قبل أن ينتقل إلى فكر «القاعدة» بعد اعتقاله ونقله إلى غوانتانامو، مفصلاً مهمًا.
الربيش، ولد عام 1401هـ (أو 1399) / 1980 م (أو 1978 م)، في مدينة بريدة بالقصيم في المملكة العربية السعودية، وكان ملازمًا لبعض طلاب العلم. ولقد درس الشريعة في الجامعة قبل أن ينتقل إلى أفغانستان في مرحلة موجة «النصرة» الثانية التي جاءت عقب الضربات الأميركية لطالبان عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وهذه الموجة عادة أسست مجموعة من المرتكزات الفكرية والعسكرية والسياسية، كانت مختلفة عن إرث وثقافة «القاعديين» القدامى أبرزها الانفصال التام عن مرجعيات غير جهادية حتى على سبيل الفتوى والاستئناس، وهو ما يفسر ترقّي الربيش في التنظيم بناءً على ثقافته الشرعية.
مرحلة العودة من غوانتانامو مع 16 عائدا يوم 23 من ذي القعدة عام 1427 هـ (2006 م) كانت نقطة تحوّل عند الربيش، إذ خرج بعد إكمال «برنامج المناصحة» وقرّر إكمال الدراسات العليا في الشريعة. إلا أن ذلك الوضع لم يطل كثيرًا، إذ انتقل إلى اليمن في أبريل (نيسان) 2009م وانضم لصفوف ما يسمى بـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في اليمن بقيادة المطلوب ناصر الوحيشي. ثم ظهر في تسجيل صوتي عبر شبكة الإنترنت يتحدث فيه عن جريمة محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية - حينذاك - يوم 27 أغسطس (آب) 2009 م.
«التنظير الشرعي لثقافة الاغتيال» كان الجسر الذي عبر به الربيش من ضفة «الكوادر المقاتلة» إلى مصاف «القيادات العليا» في التنظيم وبينهما فوارق كثيرة على مستوى القيمة والحماية والتأثير. ومن هنا لم يتردّد المتابعون لتحولات «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في الجزم بأن الربيش هو «المنظّر» الجديد لـ«القاعدة» الجديدة على غرار فارس بن شويل، الذي يحاكيه من حيث الخطوط العريضة للتجربة، وإن كان الربيش أكثر التصاقًا بـ«القاعدة» بسبب المدة الزمنية التي مكثها في الميدان. وكانت الفكرة التي سوقها الربيش لنفسه في عهده الجديد كـ«منظّر» فكري لـ«القاعدة» هو تأسيس «ثقافة اغتيال أعداء الإسلام» بسبب تأثيراتها الدعائية البالغة، وارتدادها بفوائد كثيرة على التنظيم أهمها: خلخلة الأمن، واستهداف شخصيات ذات تأثير رسمي.
وعلى مستوى آخر أسهم الربيش في سابقة في نقد الإسلام السياسي في السعودية، بجناحيه «الإخوان» والسرورية، معتبرًا أن كل من ندّد بأحداث 11 سبتمبر من رموز «الصحوة» إنما هو جزء من «جريمة الحملة الصليبية على بلاد الإسلام». كذلك انتقد طوائف من القوميين والصحافيين ومحللي السياسة وصولاً إلى إيران. وحذر المجاهدين من «الوقوع في فخ الرافضة»، كما يقول في إشارة إلى الجدل الذي ولد في داخل أروقة التنظيم حول الاستفادة من ملاذات إيران الآمنة، التي كانت تقدمها سلطات طهران لـ«القاعديين» آنذاك.
الربيش، في الواقع، لم يختلف كثيرًا عن منظّري «القاعدة» من خلفيات شرعية وأبرزهم: عيسى بن سعد العوشان، الذي قتل على أيدي قوات الأمن السعودية في الرياض يوم 21 يوليو (تموز) 2004 م، وخلفه عبد الله الرشود «فقيه» تنظيم «القاعدة في بلاد العراق والشام» الذي كان يتمتع بصلات جيدة مع أبو مصعب الزرقاوي، إضافة إلى فارس بن شويل الزهراني، المكنَّى «أبو جندل الأزدي» المعتقل منذ أغسطس 2004.
«القاعدة» في اليمن الآن تعيش أزمة وجودية دفع بالكثير من خلاياها إلى الانتقال لمربع «داعش»، وهذا مع أن «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» كان أكثر نسخ «القاعدة» كفرًا بـ«داعش» وتشكيكًا في خليفتها المزعوم. وحتى عندما بدأ الخلاف بين البغدادي وأبو محمد الجولاني لم يصدر أي تعليق من «القاعدة» في اليمن، كما لم يصدر الوحيشي، «أمير» التنظيم، أمرًا للمقاتلين اليمنيين في سوريا بالانضمام إلى إحدى الجماعتين. لكن انهيار البناء الشرعي والتنظيمي لـ«القاعدة»، ورحيل أغلب الرموز المؤثرة، وتراجع سلطة الظواهري على التنظيم - التي كانت شكلية ودعائية لا أكثر - عوامل أسهمت في تخفيف حدة نقد «داعش»، وصولاً إلى انشقاقات بدأت منذ اندلاع الأوضاع في اليمن مع بداية 2014. عند هذه النقطة صدرت تسجيلات كثيرة لـ«قاعديين» محليين لنصرة دولة «داعش» كان من أبرزها تسجيل صوتي لمأمون حاتم، أحد قيادات «القاعدة» في بمحافظة أبين تحت عنوان «النصرة اليمانية للدولة الإسلامية». تضمنت دفاعا عن «دولة البغدادي» والهجوم على دول المنطقة، وبالأخص المملكة العربية السعودية. والملاحظ أن الهجوم على السعودية استحوذ على الجزء الأكبر من التسجيل في إشارة إلى إمكانية تمدّد «داعش» في الداخل اليمني عقب انهيار الأوضاع. وهذه الإمكانية وإن كانت مستبعدة تبقى واردة، خاصة إذا ما قرأنا خصوصية التجربة «القاعدية» في اليمن، واعتمادها على العناصر المحلية وبعض العناصر الخليجية، واستبعادها أي خلايا وافدة من الخارج حفاظًا على الطابع المحلي والقبلي الذي مكّن «القاعدة» من الاستمرار.
الصراع «القاعدي» – «الداعشي» في اليمن اشتد أواره في بدايات 2014 أيضا بعدما أصدر التنظيم بيانًا مكتوبًا وصوتيًا بعنوان «رسالة مفتوحة لمجاهدي الشام» قرّر فيها إحجام الجماعة عن الدخول على خط الخلاف بين الجماعات المقاتلة في سوريا، واستعداد «القاعدة» في اليمن للدخول كوسيط لكن بشروط كثيرة، أهمها:
> الحفاظ على بيعة «القاعدة» العامة، أي التنظيم الأم، الذي يقوده الظواهري، خلفًا لابن لادن.
> حماية كوادر التنظيم في الصراعات بين «النصرة» و«داعش»، وهو ما فسّر في ذلك الوقت بحرص «قاعدة اليمن» على الاستقلال والحفاظ على شرعية تاريخ «القاعدة» وإرثها، الذي لا يمكن تسليمه لجماعة مشبوهة في تأسيسها وأهدافها.
لم يكن أكثر حظًا هناك من إبراهيم الربيش وهو يؤسس المرحلة الجديدة لـ«قاعدة اليمن» عبر استقلالها عن بقية التنظيمات، حين أصدر فيديو معالج بشكل دعائي وفني عال بعنوان «مسؤولية الكلمة» حث فيه أتباع التنظيم على احترام العلماء وهيبة الشريعة، في إشارة إلى خلو قيادات «داعش» من أي رموز مقدرة علميًا. كما ركّز على أهمية حفظ فضل «القاعدة» وتاريخها أو ما سماه «أفضلية السبق»، في إشارة إلى رفض هجوم «داعش» على منظّرين ورموز «قاعديين» سابقين أبرزهم أيمن الظواهري وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وآخرين من الجيل القديم الذي تحفّظ عن «داعش» في البداية وانفصل عنها لأسباب تتصل بانفراد «داعش» بالمشهد العنفي وليس للاختلاف في الآراء والمفاهيم.
الحفاظ على إرث «القاعدة» الذي قاده الربيش مكّن التنظيم من التقاط الأنفاس والعودة إلى العمل الميداني وتجنيد المزيد من الكوادر من خارج اليمن، وبالتالي، ضرورة تكثيف العمليات الإرهابية، واستهداف مواقع وأشخاص لهم تأثيرهم بهدف إعادة ترويج رمزية عنف «القاعدة» وتأثير ضرباتها ذات الطابع المعولم. وكان من آثار هذه العودة العملية الفاشلة لاقتحام نقطة «الوديعة» الحدودية السعودية والهجوم الإرهابي على مبنى المباحث في بلدة شرورة.
ومن طرائف تحولات «القاعدة» الجديدة، واضطرابها حول «داعش» وبقية الجماعات العنفية، أن أصدر واحدا من أهم منشدي «القاعدة» تسجيلاً إنشاديًا يمتدح فيه «دولة البغدادي» وخليفتها المزعوم وكانت قصيدة «دولتنا منصورة» لأبي هاجر الحضرمي واحدة من الأعمال الإنشادية الذائعة الصيت، قبل أن يتراجع أبو هاجر ويصدر نشيدًا آخر يمتدح فيه جبهة النصرة بعنوان «جبهتنا منصورة». وهو ما يعيد السؤال مجددًا: ما هي «القاعدة» حقًا نشأة وفكرًا وتحولاً ومآلا؟
سؤال كهذا لا يُطرح بغرض سفسطائي بقدر ما يلمح إلى أن ثمة الكثير من التحولات في سياق الإرهاب وعوالمه التحتية وبناه التنظيمية لا يمكن محوها بجرة قلم أو حتى بقنابل طائرات من دون طيار.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.