يختلف البشر في أفكارهم وثقافاتهم، لكن يجمعهم فضول الأسئلة وقلق المصير... هذه الفكرة التي يرتكز عليها العمل الفني «تَسع وتَسعون»، بفتح أول الكلمتين؛ كما يوضح الفنان السعودي عمر عبد الجواد، مشيراً إلى أنه يقصد السعي والاتساع في الحياة، في عمل مليء بالأسئلة، يُعرض حالياً في النسخة الأولى من «بينالي الدرعية» بالسعودية؛ إذ ينظر المتلقي حوله، عبر 33 صفيحة أكريليك مقصوصة بالليزر على هيكل فولاذي مع حجر البازلت الذي أخذه عبد الجواد من جبال مكة المكرمة، في عمل يحمل قداسة الخامة والفكرة، قائلاً: «أهدف إلى إنشاء (طريق للدار) يُوحد المسارات المُجزأة للعودة إلى الوحدة، من خلال الإقرار بضعفنا، ومحدودية فترة وجودنا على الأرض».
يحكي عبد الجواد لـ«الشرق الأوسط» قصة هذا العمل التي بدأت مطلع عام 2020، قائلاً: «كنت للتو قد انتهيت من المشاركة في معرض فني بجدة، وبعدها بنحو 3 أشهر جاء الحظر الكلي للتجول جراء وباء (كورونا)»، مشيراً إلى أنه خلال هذه الفترة كان يحاول النظر إلى الحياة بطريقة مختلفة، ويحاول الإجابة عن السؤال: «لماذا يحدث هذا كله؟»، مضيفاً: «عبر هذا العمل كنت أعطي نفسي أملاً نحو المستقبل، ومن هنا جاءت كلمة (السعة)؛ من السعي».
وأثناء ذلك، لجأ عبد الجواد إلى تزجية وقته بالزراعة المنزلية، لتكون نقطة ارتكازه على الأرض، كما يقول، مضيفاً: «كنت آكل التمر واحتفظ بالنواة، وصرت أنقعها وأزرعها، وبدأت أفكر كثيراً في الزمن، ولا أعرف كيف وصل بي الأمر إلى زراعة 99 حبة من نواة تمر، ووقفت على هذا الرقم»، وتزامن ذلك مع شرارة بدء معرض «بينالي الدرعية»، ليقرر ترجمة فكرته عبر عمل فني يُعرض لجميع الناس في منصة عالمية. ويردف: «أردت أن أقدم نظرتي للحياة، فالعمل يمكن وصفه بأنه تجسيد لفترة زمنية بين مجهولَين». وبسؤاله عن المقصود بالمجهولَين، يوضح أن وجود الإنسان ربما يظنه جاء في ظرف مجهول، وهناك مجهول آخر يكمن في الاتجاه الذي يسعى إليه في حياته. ويضيف: «في هذا العمل تناولت فكرة أن الحياة لها (وُجهة)، وغاية، وفي حال كانت بلا غاية، أو غاية منتهية، فسيسأل الإنسان نفسه: (ثم ماذا؟)».
ويبدو تأثر الفنان بثقافته الإسلامية طاغياً في شرحه العمل الذي يحاكي رحلة الحياة ومرحلة ما بعد الموت، ويردف: «أعمالي في مجملها تحمل نوعاً من التجسير بين الثقافات، فأنا لا أعدّ نفسي فناناً وفق ما يتضمنه الفن الإسلامي، احتراماً لهذا الفن الذي له مدرسته وحرفته، ولكن في معظم أعمالي هناك هندسة، وآخذ كثيراً من مبادئ الفن الإسلامي، ثم أوجهها نحو الفن الإنساني إجمالاً؛ لأنني أحاول ربط البشر بعضهم ببعض في الأمور التي يتفقون عليها».
والفنان عبد الجواد؛ الذي عادة ما يتلاعب بالمساحة والضوء باستخدام الهندسة والرياضيات، يأمل أن يلهم عمله «الإنسانية للمضي قُدماً نحو وجهة عالمية للحق والنور والوحدة». ويضيف: «أطمح في نهاية المطاف إلى تأكيد إنسانيتنا المشتركة ووحدتنا»، مبيناً أن «الأقواس المدببة» إشارة إلى سهم الزمن؛ «مما يعطي الإحساس بالتحديق عبر نفق سببي رجعي متعدد الألوان، بأسقف على شكل قباب، مثبتة بأعمدة خفيفة من الصلب، على شكل ساعة رملية».
ويؤطر عمل «تَسَعْ وتَسْعُونْ» مساراً واضحاً للقاءات المشاهدين على الجانبين المتقابلين من العمل التركيبي الذي يأتي بأبعاد 487.5 سم x 54 سم x 225 سم. كما يعد الهيكل بمنزلة صورة مجازية لرحلة الحياة، التي يصفها عبد الجواد بأنها «فترة انتقالية بين مجهول وآخر»، واصفاً «تَسَعْ وتَسْعُونْ» بأنه «نداء مفعم بالأمل للعمل في هذا العهد الجديد، والإيمان بالسعي نحو الخير، رغم التحديات المتعددة».
علاوة على ذلك؛ يمكن ترجمة اسم العمل إلى الرقم «99»، الذي يرمز إلى اللانهائية والامتداد، وغالباً ما تحمل أعمال عبد الجواد مثل هذه الإشارات الرقمية. وعلى حد تعبيره؛ فإن هذا العمل يوجه المشاهدين إلى الإقرار «بأننا جميعاً نسعى للوصول إلى النعيم نفسه؛ فمصيرنا واحد، رغم تنوع خلفياتنا ووجهات نظرنا».
ولأن هذا العمل يقدَّم في بينالي عالمي، فإن عبد الجواد يدرك ضرورة أن يُخاطب جمهوراً من مختلف الفئات، ويحاكي من خلاله فضول البشر من منظور إنساني وليس دينياً فقط، مضيفاً: «مشاركتي في (بينالي الدرعية) فرصة من ذهب، وانطلاقة كبيرة لنا نحن السعوديين في هذه المنصة العالمية وبهذا الحجم الكبير... وهذا كله ضاعف من حجم المسؤولية لدي».
الفنان عمر عبد الجواد؛ الذي وُلد عام 1989 في مدينة جدة، مهندس معماري وفنان متعدد التخصصات، وبفضل تدربه على الهندسة المعمارية؛ أتقن عناصر التكوين والمادة والنسب، ومن خلال استوديو «مُكَعَبْ»، يُشكل فنه تجسيداً لسعيه نحو المعرفة والفهم، وتربط أعمال عبد الجواد التخصصات بعضها ببعض، مثل: العلوم والدين والفلسفة.
«تَسع وتَسعون»... يجمع شتات المصير في «بينالي الدرعية»
الفنان السعودي عمر عبد الجواد لـ «الشرق الأوسط»: عمل يجسد فترة بين مجهولَين

يرمز العمل إلى رحلة الحياة
«تَسع وتَسعون»... يجمع شتات المصير في «بينالي الدرعية»

يرمز العمل إلى رحلة الحياة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة