أغان سورية متصوفة في بيروت تعود لطقوس الطفولة وتؤكد عشقها للبلد الجريح

الموسيقي السوري بشار زرقان يقدم على خشبة مسرح بابل ألبومه الجديد «لا أحد»

الموسيقي السوري بشار زرقان
الموسيقي السوري بشار زرقان
TT

أغان سورية متصوفة في بيروت تعود لطقوس الطفولة وتؤكد عشقها للبلد الجريح

الموسيقي السوري بشار زرقان
الموسيقي السوري بشار زرقان

تمايل المغني والمؤلف الموسيقي السوري بشار زرقان على خشبة مسرح بيروتي خلال عطلة الأسبوع مقدما لجمهوره تلك الصوفية الحديثة التي تميزه وفي الوقت عينه مقدما روحه لسوريا الجريحة التي تسير على حد قوله «في طريق الآلام».
ولأكثر من ساعة وبدعوة من «ناد لكل الناس» غنى زرقان على مسرح بابل القائم في شارع الحمراء في العاصمة بيروت من قديمه وتحديدا من ألبوم «حالي أنت» وقدم جديده مجسدا بألبوم «لا أحد» الذي كان من المفترض أن يوقعه منذ 4 سنوات والذي يلقي كما يقول ألف تحية للشاعر الصوفي الحسين بن منصور الحلاج.
وكان زرقان غاب عن الساحة الفنية طوال 4 أعوام أراد من خلالها كما قال لـ«رويترز» أن يشحن طاقته فيخزن في مخيلته مشاهد وذكريات أصر على أن يعيشها في سوريا وفي وقت كان الآلاف يغادرون البلد كان إصراري على العودة إلى سوريا التي تعيش صراعاتها الدموية اليومية.
وكان الفنان السوري عاش سنوات طويلة في فرنسا وأيضا في لبنان. أطلق على الحفل عنوان «حلاج الأمل» ورافقته اللبنانية ميرنا قسيس في الغناء المنفرد كما رافقه على الخشبة عشرات من الموسيقيين والمغنيين الذين قدموا من سوريا التي أشار زرقان إليها وإلى صمودها ومعاناتها في أكثر من مرة خلال الحفل الذي تجاوب معه الجمهور كثيرا.
وكان أداء زرقان مسرحي الطلة وتجسدت مسرحته للأغاني من خلال حركات اليدين وأيضا من خلال تعابير وجهه التي رافقت الأعمال ودعمتها في كثير من الأحيان.
وعلى اعتباره من عشاق الكلمة كان يشدد خلال الغناء على كل كلمة وكأنه على حد قول الأستاذ الجامعي مصطفى حلوة «يدلل الكلمات فلا يسمح لصوته القوي بأن يتغلب عليها أو أن يلغي حضورها».
وعن الصوفية غير التقليدية التي تسيج أعماله وتزخرفها في بعض لحظات قال زرقان لـ«رويترز» إنه وهو صغير تأثر خلال نشأته في حي الشيخة مريم - وهو حي شعبي دمشقي - بالطقوس الدينية التي كانت تقام بشكل مستمر «وأذكر منها على سبيل المثال الولادة والنذر».
وتملأ ذاكرته صور النساء والرجال الذين كانوا يحضرون هذه الطقوس معا ولم ينفصلوا لدى مشاركتهم فيها. وأعترف بأن هذه الطقوس زودتني رهبة ورغبة في آن واحد.
وكل هذه الطقوس التي كان الشاهد عليها في صغره قادته كما قال «إلى حد ما إلى المفردة الشعرية وقيمة اللغة. آنذاك كانت تقام في الحي الشعبي الذي ترعرعت فيه بعض طقوس لم أفهمها».
وقال إن «الذين كانوا يقيمون تلك الطقوس كانوا مجذوبين وكنا نحن الصغار نعمد إلى مضايقتهم فنرمي بثقلنا على الجلابيات التي كانوا يرتدونها. وفي أحد الأيام تنبهت إلى أن هؤلاء الذين كنا نزعجهم كانوا يقيمون شخصيا الطقوس فإذا بي أشعر بخوف لم أعرفه سابقا. أطلوا على الناس بكل بهاء وهتفت في لحظة ما ولكن هؤلاء ليسوا بجذبان كما اعتقدناهم في الحارة ».
وروى زرقان أنه «لاحقا وبعدما نسيت تلك الطقوس الطفولية التي أرعبتني وجذبتني في آن واحد وقعت على نص أعاد إلي طفولتي وذكرياتها بسرعة. أذكر أنني كنت آنذاك أقطن باريس. فكانت تلك الصوفية التي تجعل بشار زرقان أكثر جرأة من غيره وها هو يسير منذ سنوات طويلة عكس التيار».
وعن إصراره أن يعيش الحرب اليومية في سوريا قال إنه «كان من المهم أن أعرف ما يحدث وهذه المرة الأولى التي أغادر فيها دمشق منذ 4 أعوام لأقدم الحفلة. كنت بحاجة لأكون أكثر من حاضر في بلدي. وعودتي إلى الموسيقى أتت في وقت شعرت فيه أن الوقت قد حان لأنني اكتفيت من شحن هذه الطاقة الداخلية. والآن أنا في حالة الإفادة من هذه الطاقة».
وعن افتتانه بالحلاج قال زرقان «أعشق لغة السؤال والرفض والتمرد في قصائده وهذه عناصر أعتبرها الأقرب إلى طفولتي. والأقرب إلى تلك الطقوس التي ترعبني وفي الوقت عينه أجدني منجذبا إليها».
وتخلل برنامج الأمسية قصائد مثل «سقط الحصان» و«لا أحد» للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش و«مالي جفيت» و«أنا من أهوى» للحلاج و«أنت حبيبي» للعراقي عبد القادر الجيلاني و«ته دلالا» و«قلب يحدثني» لابن الفارض أحد أشهر الشعراء المتصوفين في مصر و«يا من أهواه» لألبوسعيدي من مسقط و«حالي أنت» للشاعر المصري أحمد الشهاوي و«شجر اللوز» و«حلاج الوقت» للشاعر الأردني الفلسطيني المعاصر طاهر رياض.
وتجمع العشرات قبل بدء الحفل بأكثر من ساعة على مدخل المسرح الحميم في أحد الزواريب الصغيرة في شارع الحمراء وجلس البعض على السلم الطويل الذي يقود إلى الطبقة السفلية حيث المسرح وتبادلوا الأحاديث. وإحدى الشابات لم تتردد في أن تغني «قلبي يحدثني» لبشار زرقان بصوت عال بعض الشيء وقد رافقها الأصدقاء تصفيقا على باب المسرح. وقالت لـ«رويترز» «بشار يعرف أن يصف حالات العشق ويجعلها أكثر جمالا وإن كانت في الواقع تحاكي لحظة الانفصال».
وقالت الطالبة في الجامعة الأميركية فاتن دبليز في نهاية الحفل إنها «تعشق لغة بشار زرقان الموسيقية وأيضا عشقه للقصائد التي توحي بالعشق ولحظات الافتتان العابرة. تعرفت إليه من خلال ألبوم (حالي أنت) وهذه المرة الأولى التي أشاهده على المسرح. صحيح أنه متمكن من اللغة ومن الصوت ولكنني وجدت في حضوره شيئا من الطفولية المحببة».
وفي نهاية الحفل وقف أنطوان الخوري مطولا أمام مقعده محدقا بالخشبة الخالية ولدى سؤالنا له بم يفكر؟ ضحك قائلا «بشار زرقان ربما كان عاشقا للغة وللأنغام الموسيقية المتصوفة ولكنه هذا المساء كان عاشقا لسوريا في المرتبة الأولى».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)