ذكريات: معطف أحمد رامي لشتاء بغداد ومهرجانها الشعري!

TT

ذكريات: معطف أحمد رامي لشتاء بغداد ومهرجانها الشعري!

كثيراً ما أتذكر مؤتمر الأدباء العرب الذي عُقد في بغداد عام 1965. رأيت فيه جمهرة من الأدباء والشعراء العرب؛ خصوصاً من المصريين، وأتصوره عُقد في الربيع؛ لكن مشاهدتي -وبمصادفة- لفيديو يظهر فيه معطف الشاعر أحمد رامي محلقاً في الهواء؛ جعلني أتراجع نحو الشتاء، وتتداعى في ذهني ذكريات أخرى!
يظهر في الفيديو مغني المقام الشهير محمد القبنجي، بقامته الفارعة على مسرح قاعة حديثة في بغداد مزدحمة برجال ونساء، في حفل خاص أقيم تكريماً لوفود المؤتمر، يبدؤه بمقام: «عن وحدة العرب، لا عن غيرها نغمي» وبستة: «أنا المغني في كل نادي، دوماً أنادي تحيا بلادي». يجلس في الصف الأمامي الشاعر أحمد رامي منتشياً؛ «استخفه الطرب» فراح يتمايل ويرقص جالساً، قاذفاً معطفه الأسود إلى الأعلى، ليتلقفه بحركات جعلت رجالاً، وفتيات أنيقات، بجانبه، يتضاحكون ويمازحونه.
الآن وكما رأيت سابقاً، ونسيت؛ أتذكر أن المؤتمر ومهرجانه الشعري عقدا شتاءً، وأن تصوري أنهما عقدا في الربيع ربما لنكهة خاصة لتلك الأيام، أو لإيهام يرافق عادة الذكريات القديمة، لتكون مزيجاً من قوة الشباب المتلاشية، وأحلام أيام توارت سريعاً أو هباءً!
لم تخبُ ذكرى تلك الواقعة من خيالي حتى اليوم، وكم تطيب الذكرى كلما بعدت! كنت خارجاً من كلية الحقوق في منطقة الوزيرية بعد انتهاء المحاضرات، ربما بعد الظهيرة. أمر في طريقي ببناية وزارة الدفاع في الميدان، وبوابة قاعة الشعب الملحقة بها، والتي كانت تسمى قبل انقلاب يوليو (تموز) 1958 قاعة الملك فيصل الثاني، قاعة حديثة متوسطة الحجم، أنيقة جميلة مرتبة، بمقاعد ذات بطانات قديفة حمراء!
أمام باب القاعة الخارجي، وعلى الرصيف العريض، واجهني تجمع لشعراء مصريين، لم أجد صعوبة في معرفة معظمهم، والذين كنت قد رأيتهم في برامج تلفزيونية ومجلات مصرية أدمنتُ قراءتها، وكنت أقتطع صور بعضهم وألصقها على صفحات كتبي المدرسية في الأدب أو النحو؛ حيث توجد نصوص أو نُبذ عن بعضهم.
عرفتُ في مقدمتهم أحمد رامي الشاعر الذي صنع شطراً من وجدان كثيرين في مختلف البلدان، بقصائده من الزجل والقريض التي شدت بها أم كلثوم، والشاعر صالح جودت الذي غُنيت كثير من قصائده، وعُرف بمديحه للملك فاروق وملوك آخرين، فسُمِّي مادح الملوك، وأشهر ما غنى له عبد الوهاب: «الدنيا ليل». كان صحافياً وروائياً قرأت له في المتوسطة روايته «عودي إلى البيت». والشاعر محمود حسن إسماعيل صاحب ديوان «أغاني الكوخ»، غنى له محمد عبد الوهاب أيضاً: «دعاء الشرق»، و«النهر الخالد». والشاعر صلاح عبد الصبور، عُرف مجدداً في القصيدة الحديثة بمصر، وبديوانه «أحلام الفارس القديم».
كان جمعاً لم أحلم يوماً أن أراه وقريباً مني إلى هذا الحد. بقيت أرقبهم يتحدثون في حلقات، تتعالى ضحكاتهم، ويبدو على ملامحهم البشر والانطلاق. طالعني إعلان ملصق على أحد أعمدة سياج وزارة الدفاع، لإحدى جلسات أو أمسيات المهرجان الشعري لمؤتمر الأدباء العرب، و«الدعوة عامة للجميع».
دخلنا باحة القاعة؛ حيث ينتظر جمهور كبير، بينهم رجال كثر بعباءات وعمائم، وقليل من النساء. كانوا ينتظرون رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف، ليفتحوا الباب الداخلي. سمعت بعضهم يردد اسم الجواهري، وأنه جاء مع أحد الوفود الكبيرة الذي أصر ألا يأتي دون أن يكون معه في بغداد. ذلك زادني فضولاً واهتماماً، كانت قصيدة الجواهري «يا دجلة الخير» قد نشرتها الصحف العراقية قبل أشهر!
ورحت أتصفح الوجوه. لم يطالعني وجهه الذي رأيته لمرات في التلفزيون، ولا أنسى أنني حاولت رسمه في لوحة مدرسية. سرعان ما أدركت أن ما تحدثوا به عن مجيء الجواهري، هو إما تصورات وإما تمنيات، وإما دعوات للتساؤل عن سبب غيابه، كنوع من الإثارة السياسية ضد السلطة.
وقف وراء المنصة الشاعر مصطفى جمال الدين، قامة فارعة ووجه أسمر بملامح بدوية:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر إلا ذوت ووريق عمرك أخضر
مرت بك الدنيا وصبحك مشمس ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
وقست عليك الحادثات فراعها أن احتمالك من أذاها أكبر
... والحور بين يديه ترتجل الهوى غزلاً به حتى الستائر تسكر
ضجت القاعة بين تصفيق وإطلاق: «أحسنت، أحسنت»، وبدا الشعراء والأدباء المصريون في مقاعدهم يميل بعضهم على بعض هامساً.
تلاه الشاعر أحمد الوائلي؛ كانت قصيدته بعنوان «رسالة الشعر»، وكان صوته ناعماً وصارخاً:
لغدٍ سخي الفتح ما نتجمع ومدى كريم العيش ما نتوقع
يا مهرجان الشعر حسب جراحنا أن الهوى مما تعتق يكرع
هذي رحاب القدس منذ ترنحت صرعى إلى زعقاتنا تتسمع
تصحو على نوء فتتلع جيدها فتراه من خدع السحاب فتهطع
صوته يعلو ويخفت، وفجأة مد يده على طولها، وبقوة باتجاه الشرفة التي تقابله؛ حيث يجلس رئيس الجمهورية؛ مطلقاً غضبه:
لا تطربن لطبلها؛ فطبولها كانت لغيرك قبل ذلك تقرع!
سُمعت من الشرفة جلبة وهياج. رفع كثير ممن في القاعة رؤوسهم متلفتين. كان عبد السلام ينهض غاضباً ويغادر القاعة. ساد المكان وجوم وترقب، ولكن لم يحدث شيء؛ فواصل الوائلي:
ومشت تصنفنا يد مسمومة؛ متسنن هذا وذا متشيع
يا قاصدي قتل الأخوة غيلة لموا الشباك فطيرنا لا يخدع
بغداد يا زهو الربيع على الربى بالعطر تعبق والسنا تتلفع
يا ألف ليلة لا تزال طيوفها سَمراً على شطآن دجلة يُمتع
كانت إشارة الوائلي لرئيس الجمهورية، وامتعاض الرئيس، ومغادرته، حدثاً إن لم يكن سياسياً مباشراً؛ فهو حدث ثقافي بمدلولات فكرية وسياسية، ما زالت جذورها ناشبة حتى الآن. لا أتذكر أن أحداً توقف عند الواقعة؛ لا في حينها ولا بعد حين! وأتصور اليوم لو أن إشارة الوائلي كانت لصدام؛ ماذا كان سيفعل به وبعائلته وأصدقائه؟ أو حتى لو أنها إلى عبد السلام عارف ذاته قبل سنوات من ذلك، أي وهو في أيام نشوته بعد تنفيذه انقلاب 14 يوليو 1958، عندما كان صارماً وأكثر عنفاً وتهوراً؟ لكن الأحداث القاسية التي مر بها بعد سنوات، منحته شيئاً من سعة الصدر، وإن لم تصل به إلى حد الإصغاء للشاعر حتى يكمل قصيدته، ويلتقيه لحوار هادئ أو ودي معه.
لا يتعامل الحكام في العراق عموماً بسمو ورقي مع المثقفين المبدعين، وكذلك الحال في بلدان عربية أخرى كثيرة! تبلغ سورة الغضب بالجواهري أن يرسل قذيفته الشعرية العنيفة إلى نوري السعيد وبحضوره كما قيل، مخاطباً الدكتور هاشم الوتري:
نُبِّئتُ أنك لست تبرح سائلاً عني تناشد ذاهباً أو آيبا
وتقول كيف يظل نجم ساطع ملء العيون عن المحافل غائبا
أنا ذا أمامك ماثلاً متجبراً أطأ الطغاة بشسع نعلي عازبا
يقولها وهو يشير إلى نوري السعيد، فلا تمر الإهانة العلنية دون عقاب؛ لكن العقاب في ذلك العهد خفيف نسبياً.
قبل هياج عبد السلام عارف، غضب زميله الزعيم عبد الكريم قاسم على الجواهري، فتسبب في تشريده بقية عمره الطويل؛ لأنه انتقده بعشر معشار ما امتدحه! لم أسمع أن أحداً من رجال السلطة تعرض آنذاك للوائلي بأذى، وكان هذا يعد آنذاك بحبوحة للشاعر. مات عبد السلام عارف بعد ذلك بأشهر قليلة بتحطم طائرته، وجاء أخوه من بعده. كان عهدهما -على علاته وجموده- عهد هدوء والتقاط أنفاس، ظهرت فيه حركة الستينيين الأدبية، وتفتحت فيه مواهب في الشعر والقصة ومختلف الفنون، حتى مجيء البعثيين في 17 يوليو 1968، فانقلب كل شيء رأساً على عقب.
أقيم الحفل الذي طيَّر فيه أحمد رامي معطفه؛ لكي يرى الشعراء والأدباء العرب روح بغداد الحقيقية تتجلى غناءً وموسيقى وحضوراً كبيراً من الرجال والنساء، محبة للشعر والشعراء.
لم يحضر رئيس الجمهورية؛ ليس لأنه لم يزل غاضباً على الوائلي؛ بل ربما لأنه يرى أن الغناء والموسيقى لا يليقان بمقامه، والوائلي ومن معه لم يحضروا أيضاً؛ لأنهم يرون أن الغناء والموسيقى من المحرمات أو لا يليقان بزيهم! قد يفوت الأمر على الرئيس فلا يدرك أنه يحكم بلاداً هي مهد الموسيقى والغناء، ولكن كيف يفوت على الشاعر، فلا يرى أن في القصيدة التي ينظمها قدراً كبيراً من الموسيقى والغناء أيضاً، فيحلل هذه ويحرم تلك؟
ظل معطف أحمد رامي من وقائع الحفل التي لا تنسى، فكأنه يلقيه على كتفي بغداد، بما فيه من أغانٍ لأم كلثوم وغيرها، في لمسة دفء وحب!



إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).


كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
TT

كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة

كشفت أعمال المسح والتنقيب المتواصلة منذ بضعة عقود في دولة الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها مستوطنة مليحة التي تمتد في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وتبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة. بدأ استكشاف هذه المستوطنة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتواصل في العقود التالية، حين عمدت بعثة أثرية فرنسية إلى إجراء سلسلة من الحفريات، ساهمت في إلقاء الضوء على تاريخ هذه المنطقة التي شكّلت في الماضي مركزاً تجارياً وسيطاً، كما تشهد مجموعات اللقى المتنوّعة التي خرجت من بين أطلالها، ومنها كؤوس فخارية برتقالية اللون، قيل إنّها مستوردة من إيران.

أجرت البعثة الأثرية الفرنسية في مطلع عام 2010 حملة تنقيب في مليحة مدى أربعة أسابيع، وكان الهدف الأساسي لهذه الحملة العمل على توثيق الدور النهائي للاستيطان في هذا الموقع الاستثنائي خلال القرون الميلادية الأولى. حسب تقرير خاص بهذا الموسم من التنقيب نُشر في العدد 13 من «حولية آثار الشارقة»، خرجت من بين أطلال مليحة مجموعة من الحلى الذهبية بدت غير مألوفة في طبقات الاستيطان الخاصة بهذا الموقع، ومجموعة من المسكوكات منها قطعة محلية، وختم مصنوع من عجينة زجاجية، صيغ على شكل أسد مضطجع، مع نقش بالخط الآرامي، إضافة إلى العديد من اللقى الخشبية والعاجية التي تعود إلى قطع مهشّمة. في هذا السياق، خرجت الحملة بمجموعة كبيرة من اللقى الفخارية، منها قطع محلية الصنع، وقطع مصدرها وادي السند، و«كأس إيرانية ذات طينة برتقالية مصبوغة، وُجدت مبعثرة مع كُسر تعود لكأس أخرى».

حمل هذا التقرير صورة لهذه الكأس «المستوردة من إيران»، وهي كأس تمّ ترميمها لاحقاً بشكل دقيق، وتتميّز بحلّة زخرفية مطلية باللون الأسود، تجمع بين التقاسيم الهندسية المجرّدة وصورة حيوانية محوّرة تمثّل كما يبدو وعلاً يقف ثابتاً على قوائمه الأربع، في وضعية جانبية تخلو من أي حركة. يزين قمّة هذه الكأس شريطان زخرفيان تختلف المفردات التشكيلية الخاصة بكلّ منهما. يتبنّى الشريط الأعلى زينة قوامها سلسلة من الدوائر اللولبية تحلّ بين خطين أفقيين، ويتبنّى الشريط الموازي شبكة من الخطوط الملتوية تحلّ بين خطّين مشابهين. يقابل هذين الشريطين شريط ثالث يُزّين قاعدة هذه الكأس، وقوامه كذلك سلسلة من الدوائر اللولبية، تُماثل في تكوينها تلك التي تُكلّل هذه القطعة الفخارية. يظهر وسط هذه الشرائط الزخرفية وعل يقف بثبات تحت قوس عريضة، تزيّنه شبكة من الخطوط العمودية المرصوصة كأسنان المشط.

صُوّر هذا الوعل بشكل تحويري في وضعية جانبية، مجرّداً من أي تفاصيل مادية توحي بالثقل. الرأس صغير، ويعلوه قرنان ضخمان مقوّسان يبلغان طرف الظهر. العنق طويلة، وهي كذلك مقوّسة، وتشكّل امتداداً للصدر النحيل. القوائم الأربع ظاهرة، وهي مجرّدة من المفاصل، وتبدو أشبه بأربعة خطوط متوازية. قمّة الظهر مدبّبة، وتوازي في استدارتها قوس العنق. يتكرّر هذا التأليف على كأس مشابهة، حيث يعود الوعل ويحلّ وسط مساحة مجرّدة غاب عنها القوس المزخرف بخطوط عمودية. يظهر الحيوان هنا مع قرنين طويلين متوازيين حدّدا بشكل مغاير، ويبدو وجهه أكبر حجماً، وعنقه أعرض. الحلّة الزخرفية واحدة، وتتمثّل في ثلاثة شرائط صيغت بشكل مماثل.

نقع على كأس ثالثة تتبع هذا الطراز الخاص، وفيها يتحوّل الوعل إلى عقرب، كما يوحي ذيله اللولبي الكبير الملتف من خلف رأسه. تزيّن قمة هذه الكأس سلسلتان متوازيتان من الدوائر اللولبية، وتزيّن قاعدته سلسلة ثالثة مماثلة في التكوين. يقف العقرب بثبات على شريط مكوّن من ثلاثة خطوط أفقية متوازية، وسط قوس عريض زُيّن بشبكة من الخطوط المتقاطعة على شكل مكعبات صغيرة متراصة.

تتشابه كؤوس مليحة الثلاث من حيث التكوين، ويبلغ طول كل منها نحو 16 سنتيمتراً، وقطرها نحو 15 سنتيمتراً. تتبع هذه القطع الفخارية طرازاً فنياً راسخاً في القدم، تحوّل إلى طراز جامع عابر لحدود أقاليم الشرق القديم. تعود أقدم شواهد هذا الطراز المعروفة إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، ومصدرها مدينة شوشان العريقة التي تُعرف اليوم باسم سوسة، وتتبع في زمننا محافظة خورستان، حيث تقبع في أسفل جبال زاغروس، بين نهر دجلة ونهر كرخة ونهر دز. بقي هذا التقليد الفني حياً على مدى عصور من الزمان، وبلغ نواحي متباعدة من أقاليم الشرق القديم، ودخل نواحي عديدة من الجزيرة العربية.

تعود كؤوس مليحة كما يبدو إلى القرن الميلادي الأوّل، وتمثّل من هذا المنظار آخر تجليات هذا الطراز الفني العريق. يأخذ هذا الطراز هنا شكلاً متقشّفاً متواضعاً يخلو من الرهافة، غير أنه يحافظ على الجاذبية التي تميّز بها أسلوبه في أشكالها المتعدّدة العابرة للأزمان.