وثائقي «مشوار بالوادي»... الأمل ابن الأرض

عن معنى الصمود اللبناني

مزرعة عتيقة وسط المدرجات الخضراء في وادي قاديشا 
- الرحالة خلال مشوار وادي قاديشا
لقطة من الجو لوادي قاديشا وقد غطته الثلوج (أ.ف.ب)
مزرعة عتيقة وسط المدرجات الخضراء في وادي قاديشا - الرحالة خلال مشوار وادي قاديشا لقطة من الجو لوادي قاديشا وقد غطته الثلوج (أ.ف.ب)
TT

وثائقي «مشوار بالوادي»... الأمل ابن الأرض

مزرعة عتيقة وسط المدرجات الخضراء في وادي قاديشا 
- الرحالة خلال مشوار وادي قاديشا
لقطة من الجو لوادي قاديشا وقد غطته الثلوج (أ.ف.ب)
مزرعة عتيقة وسط المدرجات الخضراء في وادي قاديشا - الرحالة خلال مشوار وادي قاديشا لقطة من الجو لوادي قاديشا وقد غطته الثلوج (أ.ف.ب)

يومان أمضاهما ثلاثة شبان من لبنان في الطبيعة: مارك بيروتي يشرح عن الغنى النباتي والثروة الحرجية، أنطوني رحيل يزور أماكن الطعام اللبناني ويتذوق أطيبه، وإيلي أحوش بقلب طافح بالرجاء يفسر معاني المكان. ثلاثة في وادي قاديشا، المُدرج من «الأونيسكو» على لائحة التراث العالمي، إلى جانب غابة أرز الرب، يجولون مع كاميرا تلتقط بديع التكوين وسحر السكينة. هنا العظمة على ارتفاع 500 متر عمقاً و1500 متر ارتفاعاً، شاهدٌ على صمود أرض عصية على الهزيمة.
وثائقي من جزأين بعنوان «مشوار بالوادي» (إم تي في)، عن رحلة ثلاثة شبان إلى وادي القديسين في الشمال اللبناني. وهي في الحقيقة رحلة إنسانية نحو الجمال المطلق، حيث لا يزال الأمل ابن الأرض. فصل عريق من تاريخ الموارنة، يتجلى في رهبة المكان وإصرار من سكنوه على التحمل والصمود. هذا ما أعطاه الله للبنان: خير وبركة ونعمة النِعم: الطبيعة. يجول الثلاثة بين الأشجار المُحتضنة أعشاش العصافير وزقزقاتها على وَقع رنين الأجراس. سمفونية رجاء على مد العين.
يشرح إيلي أحوش بشاعريته مميزات الوادي التاريخية. يتألف من خمس مناطق، بينها مار مطانيوس قزحيا ومار ليشا. ناسكون عاشوا في العراء، تقتفي الكاميرا أثرهم، يوم طوعوا الطبيعة ولينوا الصخر. وفي قزحيا، استذكر الثلاثة أول مطبعة في الشرق. كان ذلك عام 1585 حين بدأت أدوات الطباعة تصل إلى المكان، فطُبع الكتاب الأول عام 1610، وهو كتاب المزامير. إرث ثقافي وفكري يحتضنه الوادي، وكتب تعود لمئات السنوات لا تزال شاهدة على حضارة العلم والنور.
تطلب تحضير الوثائقي نحو الشهرين، فالشبان مزودون بالمعلومة وحب الأرض، يقدمون رسائل أمل بالوطن ويجعلوننا نصدق أنه كطائر الفينيق، ينهض من ركامه. «تعالوا باكراً، قبل زحمة الويك إند. تعالوا من أجل الطبيعة»، ينصح أنطوني رحيل، مع نداء: «لا ترموا الأوساخ على الأرض. معيب».
3500 مغارة سكنها الرهبان في الوادي العظيم، بين النباتات والأشجار. ولما كانت الجبال عنيدة، جلل الناسكون المتحدرات، أي حولوها إلى جلول. وكل جَل مساحاتٌ من الخيرات. كان السير صعباً على الإنسان والدواب، ومع ذلك، شقوا الطرقات وسهلوا العيش. أكثر من 600 حبيس روضوا الصخور وبنوا فيها غرفاً صغيرة تردع العواصف ولهيب الصيف، بعضهم بقي على تواصل مع السكان، يستشيرونهم في شؤونهم، وبعضهم اختاروا التفرغ للتنسك، يشعلون البخور عند المغيب، ولكثرتهم في الوادي، يمتد الدخان على شكل غيمة تغمر السماء.
مشوار بمثابة استراحة من الحياة والإقبال عليها في آن. شيء بمنزلة عناق الروح ومدها بالأحلام. والشد على اليدين في الشدة واحتضان القلب في لحظات النزف. استراحة المشوار، جلسات الأكل. الكاميرا على أنطوني رحيل المتذوق الماهر، يجول بين أماكن الطعام خلال مشاويره للتشجيع على السياحة الداخلية. هاتفه في يده، يصور لذائذ المطبخ اللبناني، وإيلي أحوش يشرح: «دخل البرغل في وجبات النساك المؤلفة عادة من مكونَيْن. لم يكن اللحم متاحاً سوى في المناسبات. كانوا ينتقون لحم الماعز، وقد استفادوا أيضاً من حليبه وجبنه. في البداية، عرفوا (كبة الحيلة)، والاسم دليل على فوائدها في شد الحيل. أسموها أيضاً (كبة الراهب) لتقشفها وخلوها من اللحم. لاحقاً، عرفوا الكبة النيئة، ودقوها في الجرن. حتى التبولة لم تكن بهذا الشكل. دخل الجرجير في المكونات بدلاً من البقدوس، وغابت البندورة. تضمن المزيج أيضاً الزيت. البرغل كان حاضراً في كل السفرة اللبنانية».
ممتع المشوار، لبساطته ومعانيه. «أحلى بلد في العالم»، يرسم أنطوني رحيل ابتسامة عريضة وهو يتحدث عن لبنان المتجلي في وادي قاديشا، ويضيف مارك بيروتي بأن التضحيات لا يمكن أن تذهب أدراج الريح. يقف الثلاثة، وقد غابت الشمس وبرد الطقس، يخبرون الناس العبرة من الزيارة، ويرددون على سبيل الإفراط في الحب، بأن لبنان أرض الصمود، وما مر بالأجداد كان أمر من مرارة أيامنا، وصمدوا.
يرافق شربل طوق من بشري، الرحالة الثلاثة في محطات وادي قاديشا، دليلاً ومرشداً. المحطة الآن في حدشيت ومشوار آخر في دير مار يوحنا. كلما تقدم المرء خطوة، سمع صوت الماء وطربته زقزقة العصافير. «حفروا بالصخر، إيه حفروا بالصخر»، يرددون أثناء المسير في الطرقات المزدانة بالمعاصر والطواحين، المشتبكة بشِباك الحب، المؤدية كلها إلى قاديشا. وحيث أصناف الأشجار، سرو وشربين وحور وجوز وصفصاف وسنديان وبلوط، وألوان الطبيعة في الخريف، زمن تصوير الوثائقي بقلب كبير.
وبعدها، في قنوبين، حيث القرية تحتوي 14 منزلاً وكنيسة ونهرين، والطرق قاسية لا تصلها أقدام. قبل المحطة النهائية في الديمان، وقفة مع الأكل اللبناني في منزل الـ«تيتا منتورة». سيدة في الخامسة والتسعين، لا تزال بصحة جيدة، تؤهل وتُسهل من «أهلاً وسهلاً» بالضيوف مع قهوة الترحيب فسفرة الدجاج بالأرز. يستغرب الزوار وجود الصنوبر في الطبخة، فسعره جنوني. خيرات الأرض والطبيعة، فأكثِر يا إنسان من الحمد والشكر. «ليت الحياة على هذا الشكل»، يتحسر الرحالة نيابة عن جميع اللبنانيين.


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».