إبراهيم نصر الله في ثلاثة مجلدات شعرية

قدم لها إحسان عباس وصلاح فضل وعلي جعفر العلّاق

إبراهيم نصر الله في ثلاثة مجلدات شعرية
TT

إبراهيم نصر الله في ثلاثة مجلدات شعرية

إبراهيم نصر الله في ثلاثة مجلدات شعرية

عن الدار العربية للعلوم - ناشرون، صدرت في بيروت الأعمال الشعرية للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله في ثلاثة مجلدات تضم مجموعاته الصادرة بين عام 1980 التي افتتحها بديوانه «الخيول على مشارف المدينة»، وحتى عام 2017 الذي أصدر فيه ديوان «الحب شرير».
شهدت تجربة نصر الله خلال هذه الفترة الزمنية الواسعة تحولات كثيرة في خياراتها الجمالية والفكرية المتنوعة، بدءاً من القصيدة بطولها العادي، إلى القصيدة القصيرة جداً التي كرس لها أربعة أعمال شعرية، مروراً بالقصيدة السيرية ذات النفس الملحمي، وصولاً إلى العمل الأوبرالي، ويلاحظ هنا إفادة هذه التجربة من تقنيات السرد الروائي، والسينما، والفوتوغراف، واللوحة التشكيلية، والفلسفة... وغير ذلك من المشاغل الفنية والفكرية والوجودية.
يكتب الدكتور إحسان عباس في تقديمه للمجلد الأول: «أتجاوز حدود الطموح الطبيعي لو ادعيت أنني أستطيع كتابة دراسة نقدية دقيقة عن ديوان إبراهيم نصر الله؛ أرضاها ويرضى بها القراء، فقد قطع إبراهيم مراحل عديدة ورسم لتطور شعره خطاً فيه امتداد وفيه انعطافات، وعملٌ مثل هذا يتطلب دقة في تسمية المراحل وتحديد مميزات كل مرحلة. وهناك شيء ضائع أبحث عنه فلا أجده (الآن)، وهو الزمن الكافي للإحاطة بهذا الديوان الكبير.
مع إبراهيم نصر الله اتخذت القصيدة القصيرة بُعداً جديداً حين أفردت في ديوان كامل، دون أن يكون ذلك سأماً من القصيدة الطويلة التي أجادها في (نعمان يسترد لونه) وفي (الفتى النهر... والجنرال) وغيرها من دواوينه، ثم إن انتقاله بين الشعر والرواية يدل على أن طول الشكل لا يقف في طريق إبداعه».
أما الناقد الدكتور صلاح فضل فكتب مقدمة المجلد الثاني، ومنها: «تمثل تجربة إبراهيم نصر الله مفاجأة مذهلة وبديعة مستمرة بالنسبة لي، إن أول ما لفت نظري جذرياً حين عكفت على قراءة أعماله الكاملة أنه قادر منذ البداية على خلق حقائق شعرية جديدة، على صنع متخيل لا يتراءى نظيره إطلاقاً في قصيدة سابقة عليه. إننا نرى لوناً من الانهمار الجمالي في الكون، عبر منظومة فنية متكاملة، هي وسيلة الشاعر لتشعيل هذا العالم، عندئذ يتخلص خطاب الشعر من حصريته وقصريته، وأحاديته ليكون مدنياً وليس مُجنداً، ليكون واسع النبالة متنوع الشعرية، ليكون شديد الندرة والحيوية والجمال.
إبراهيم نصر الله شاعر يرد لنا كثيراً من الثقة في أن شعراءنا اليوم لا يسلكون دروباً إبداعية مسدودة، تضيق من فضاء الشعر، وتحد من مقروئيته، ولكنه قادر بامتلاكه لطاقة تجريبية هائلة، على أن يخلق أشكالاً فنية جديدة، وليس هذا مجالاً كي نتطرق إلى منجزاته السردية الروائية، ولا لإبداعاته التشكيلية، لأنها مجرد مظاهر تجليات لهذه الطاقة».
كلمة غلاف المجلد الثالث كتبها الشاعر الدكتور علي جعفر العلاق ويقول فيها: «ونحن نقترب من تجربة إبراهيم نصر الله الشعرية، علينا أن نضع في اعتبارنا أنه روائي أيضاً... هذا التشابك بين السرد والشعر يظل حاضراً بكثافة أكبر ربما في قصائد إبراهيم نصر الله لتجاور هاتين الملَكتين في الذات الواحدة، أعني الشعر والسرد. يمكن القول إن أي قصيدة يتم أخذها عشوائياً لا بد أن تشتمل على قدر ما من العناصر السردية؛ فمعظم قصائد نصر الله مخترقة بالسرد. ليس هناك، إلا نادراً ربما، قصيدة تقف مثالاً صافياً باعتبارها حدثاً لفظياً محضاً، أو خطاباً لسانياً تاماً. إن عدداً ضخماً من قصائد إبراهيم نصر الله يتوزعها السرد والشعر بطريقة جذابة، بحيث تبدو كل واحدة من هذه القصائد خطاباً شعرياً كثيفاً من جهة، لكنه، من جهة أخرى، مشبع بالسرد إلى حد كبير دون أن يفقد طبيعته الشعرية المهيمنة».



الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات
TT

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

إذا كان المكتوب يُقرأ في معظم الأحيان من عنوانه، كما تقول العرب، فإن أكثر ما شدّني إلى قراءة كتاب توم لوتز «تاريخ البكاء» هو عنوانه بالذات، خصوصاً وأن المؤلف أضاف إليه عنواناً فرعياً أكثر إثارة للفضول، هو «تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي». ورغم أن موضوع البكاء، بتعبيراته المرئية وغير المرئية، لم يكن بعيداً عن متناول الباحثين في علوم الطب والاجتماع والنفس، فإن ما أكسب الموضوع جاذبيته الخاصة هو تعقب الكاتب الدؤوب لما يظنه القارئ، لشدة بديهيته واتساع رقعته الزمنية، عصياً على التدوين.

وفي تقديمه للكتاب، الصادر عن دار «صفحة 7»، الذي نقله إلى العربية عبد المنعم محجوب، يشير لوتز إلى أن دافعه للكتابة كان سؤال أستاذه رولان بارت في إحدى المحاضرات عمن من تلامذته سيكتب تاريخ الدموع. وبعد أن انبرى العديد من تلامذته للقول بشكل تلقائي «كلنا سيفعل ذلك»، أحس لوتز برغبته العميقة في عدم خذلان أستاذه، وبأن واجبه الأخلاقي أن يتصدى لهذه المهمة، مهما كان حجم الصعاب التي تعترض طريقه. لكن هذا الدافع المباشر كان مقروناً بدافعين آخرين، يتعلق أولهما بتبرم لوتز من التنظير الفلسفي المحض الذي يسميه «تواتر اللامعنى»، وبنزوعه الملح إلى المواءمة التامة بين الفلسفة التطبيقية والعلوم الحديثة.

أما ثانيهما فيرتبط بتكوين المؤلف النفسي والعاطفي. فهو إذ يصنف البشر بين بكائين و«جفافين»، أي الذين جفت مدامعهم، يعلن انحيازه بصورة واضحة إلى الصنف الأول، مستعيناً على مهمته بالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وبعلم وظائف الأعضاء والفيزيولوجيا العصبية والكيمياء والحيوية. لكن كل تلك العلوم لم تكن لتكسب الكتاب أهميته، لولا الخلطة السحرية التي وفرها لوتز لكتابه، جامعاً على طريقة أستاذه بارت، بين المعرفة الموسوعية الجامعة، ودقة التصويب إلى التفاصيل، والأسلوب الشاعري المتوهج.

وإذ يستهل المؤلف كتابه بمجموعة من التساؤلات المتتالية عن أسباب البكاء، وعن الطبيعة الملتبسة للدموع التي اعتدنا على ذرفها في مناسبات متناقضة، كتعبير عن الفرح أو الحزن، الربح أو الخسارة، عن متعة الحب وآلام الفراق، وعن الاحتفال بقريبٍ عائد أو الحداد على عزيزٍ راحل، لا يتوانى عن العودة بعيداً إلى الوراء، ليتقصى جذور الدموع الأم في الميثولوجيا والدين والشعر والسحر والطقوس الجمعية المختلفة.

وقد بدت الدموع في حضارات الشرق القديمة، كما لو أنها الخمرة المسكرة، أو الماء الذي يحتاجه المكلومون لإرواء غليلهم. فالآلهة العذراء «عناة»، ظلت تذرف الدموع إثر وفاة أخيها «بعل» إلى أن «أتخمت نفسها بكاءً وصارت تشرب الدموع كما الخمر»، وفق النصوص التي اكتشفت في أوغاريت في مطالع القرن الفائت. لا بل إن للدموع في الأساطير، بخاصة دموع النساء، أثرها البالغ على عتاة «الصفوف الأولى» من الآلهة، الذين عمدوا بتأثير من بكاء «عناة» إلى إعادة «بعل» إلى الحياة لشهور عدة. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بكاء عشتروت على أدونيس، وإنانا على ديموزي، وإيزيس على أوزيريس.

وفي «العهد القديم» تبدو الدموع بمثابة التماس للغفران وتطهر من الإثم، حيث يقول الرب لحزقيال «لقد رأيت دموعك وها أنا أشفيك». كما أن داود في المزامير يستخدم دموعه لاستدرار عطف الخالق، مفترضاً أن دموع الصلاة غالباً ما يُستجاب لها، ومردداً بحرقة بالغة «اسمع صلاتي يا رب، واصغِ إلى بكائي، ولا تسكت عن دموعي». ويعدُّ المؤلف أن العبريين الذين أقاموا حائطاً للدموع سموه «حائط المبكى»، لم يتركوا وسيلة من وسائل العويل وشق الثياب والتلطخ بالرماد إلا واستخدموها للتأثير على إلههم «يهوه»، الذي كان يعاقبهم على جحودهم وإيغالهم في العقوق وارتكاب الفواحش، قبل أن يشفق عليهم في نهاية الأمر. وبعد أن حل بهم وباء الجراد، وشرعوا بشق الثياب كالعادة، ينقل نبيهم يوئيل عن «يهوه» قوله لهم «اذهبوا الآن وارجعوا إليَّ بالصوم والصلاة والبكاء والنواح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم».

وفي الأناجيل الأربعة لم تبتعد دلالة الدموع عن دلالاتها في التوراة. لا بل إن دموع مريم المجدلية التي ركعت باكية عند قدمي المسيح، وفق ما رواه لوقا، وأخذت تمسحهما بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب، كانت واحدة من علامات توبتها وتطهرها من الخطايا، الأمر الذي أكدته مخاطبة المسيح لها بالقول «إن إيمانكِ قد خلّصك يا امرأة، اذهبي بسلام». وإذ تبدو الدموع في المسيحية جزءاً لا يتجزأ من طقوس البكاء على المسيح، يتساءل القديس أوغسطين عما إذا كانت الدموع تستمد حلاوتها من الاعتقاد بأنها مرئية من قبل الله، فيما يقر توما الأكويني بأن ذرفها بكثرة هو ما يخفف المعاناة ويتيح الحصول على النعمة.

ولم تكن الدموع بما تحمله من دلالات متداخلة لتغيب عن بال المبدعين في العصور القديمة والحديثة. وقد أثارت العلاقة بين الدموع والجمال اهتمام الكثير من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم فيرجيل الذي أشار في «الإنياذة» إلى الدموع التي تشبه الزخارف، كما يرد في أحد الأمثال القديمة بأن «المرأة ترتدي دموعها مثل المجوهرات». وحيث يعدُّ أوفيد أن الدموع تجرف الحزن بعيداً، وتضفي على المرأة قدراً غير قليل من الجاذبية والجمال، يتحدث يوروبيديس عن الدموع التي ترافق اللذة، فيما يعدها آخرون بمثابة العقوبة الطبيعية للمتعة.

إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من النظر إلى دموع المرأة بعين الريبة والتوجس، وفي طليعتهم وليم شكسبير الذي حذر في غير واحدة من مسرحياته، مما تخفيه الدموع وراءها من مكائد. فهو يقول بلسان عطيل، وقد استبدت به مشاعر الغيرة على ديسدمونا: «أيها الشيطان، إذا سالت دموع امرأة على الأرض، فكل قطرة تذرفها ستثبت أنها تمساح».

وفي إطار ما يسميه المؤلف «علم اجتماع الدموع»، يشير لوتز إلى العديد من ظواهر البكاء الحدادي في العالم. فهو إذ يبدو عند بعض الجماعات نوعاً من قطع الروابط الأخيرة مع الموتى، يتحول عند بعضها الآخر إلى مهنة للارتزاق، كما تفعل قبائل الولف السنغالية، حيث يتم استئجار النساء للندب على الموتى. وإذ تناط بالنساء مهمة البكاء بالأجرة في بعض مناطق الفيليبين، ما يلبث الطرف المستأجِر أن يقدِّم لهن حبوباً باعثة على الضحك، كنوع من التسرية عنهن بعد إنجاز المهمة.

فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي

على أن فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي، سواء تعلق الأمر بالبكاء على الأطلال، أو دموع الصوفيين كرابعة العدوية، أو دموع العشاق العذريين، أو بطقوس النواح الكربلائي، وصولاً إلى الدموع السخية التي ذرفها الأحياء على الموتى، في مسلسل الحروب الدموية التي لا تكف عن التوالد. وإذا لم يكن لباحثٍ أميركي أن يتنبه لهذا الأمر، فقد تكفل الشعراء العرب بهذه المهمة على أكمل وجه، بحيث بدا الشعر العربي في جانبه الأكبر، مدونة للرثاء والفقدان، بدءاً بمعلقة امرئ القيس الاستهلالية «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ»، وليس انتهاء بصرخة محمود درويش ذات مواجهة مماثلة مع الاحتلال:

تعب الرثاءُ من الضحايا

والضحايا جمَّدت أحزانها

أوَّاه مَن يرثي المراثي؟

في غزة اختلف المكانُ مع الزمان،

وكانت الصحراء جالسةً على جلدي،

وأول دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيةً،

هل تذكرون دموع هاجرَ،

أوّل امرأةٍ بكتْ في هجرةٍ لا تنتهي؟