الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

توم لوتز في كتابه الشيق «تاريخ البكاء»

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات
TT
20

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

إذا كان المكتوب يُقرأ في معظم الأحيان من عنوانه، كما تقول العرب، فإن أكثر ما شدّني إلى قراءة كتاب توم لوتز «تاريخ البكاء» هو عنوانه بالذات، خصوصاً وأن المؤلف أضاف إليه عنواناً فرعياً أكثر إثارة للفضول، هو «تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي». ورغم أن موضوع البكاء، بتعبيراته المرئية وغير المرئية، لم يكن بعيداً عن متناول الباحثين في علوم الطب والاجتماع والنفس، فإن ما أكسب الموضوع جاذبيته الخاصة هو تعقب الكاتب الدؤوب لما يظنه القارئ، لشدة بديهيته واتساع رقعته الزمنية، عصياً على التدوين.

وفي تقديمه للكتاب، الصادر عن دار «صفحة 7»، الذي نقله إلى العربية عبد المنعم محجوب، يشير لوتز إلى أن دافعه للكتابة كان سؤال أستاذه رولان بارت في إحدى المحاضرات عمن من تلامذته سيكتب تاريخ الدموع. وبعد أن انبرى العديد من تلامذته للقول بشكل تلقائي «كلنا سيفعل ذلك»، أحس لوتز برغبته العميقة في عدم خذلان أستاذه، وبأن واجبه الأخلاقي أن يتصدى لهذه المهمة، مهما كان حجم الصعاب التي تعترض طريقه. لكن هذا الدافع المباشر كان مقروناً بدافعين آخرين، يتعلق أولهما بتبرم لوتز من التنظير الفلسفي المحض الذي يسميه «تواتر اللامعنى»، وبنزوعه الملح إلى المواءمة التامة بين الفلسفة التطبيقية والعلوم الحديثة.

أما ثانيهما فيرتبط بتكوين المؤلف النفسي والعاطفي. فهو إذ يصنف البشر بين بكائين و«جفافين»، أي الذين جفت مدامعهم، يعلن انحيازه بصورة واضحة إلى الصنف الأول، مستعيناً على مهمته بالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وبعلم وظائف الأعضاء والفيزيولوجيا العصبية والكيمياء والحيوية. لكن كل تلك العلوم لم تكن لتكسب الكتاب أهميته، لولا الخلطة السحرية التي وفرها لوتز لكتابه، جامعاً على طريقة أستاذه بارت، بين المعرفة الموسوعية الجامعة، ودقة التصويب إلى التفاصيل، والأسلوب الشاعري المتوهج.

وإذ يستهل المؤلف كتابه بمجموعة من التساؤلات المتتالية عن أسباب البكاء، وعن الطبيعة الملتبسة للدموع التي اعتدنا على ذرفها في مناسبات متناقضة، كتعبير عن الفرح أو الحزن، الربح أو الخسارة، عن متعة الحب وآلام الفراق، وعن الاحتفال بقريبٍ عائد أو الحداد على عزيزٍ راحل، لا يتوانى عن العودة بعيداً إلى الوراء، ليتقصى جذور الدموع الأم في الميثولوجيا والدين والشعر والسحر والطقوس الجمعية المختلفة.

وقد بدت الدموع في حضارات الشرق القديمة، كما لو أنها الخمرة المسكرة، أو الماء الذي يحتاجه المكلومون لإرواء غليلهم. فالآلهة العذراء «عناة»، ظلت تذرف الدموع إثر وفاة أخيها «بعل» إلى أن «أتخمت نفسها بكاءً وصارت تشرب الدموع كما الخمر»، وفق النصوص التي اكتشفت في أوغاريت في مطالع القرن الفائت. لا بل إن للدموع في الأساطير، بخاصة دموع النساء، أثرها البالغ على عتاة «الصفوف الأولى» من الآلهة، الذين عمدوا بتأثير من بكاء «عناة» إلى إعادة «بعل» إلى الحياة لشهور عدة. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بكاء عشتروت على أدونيس، وإنانا على ديموزي، وإيزيس على أوزيريس.

وفي «العهد القديم» تبدو الدموع بمثابة التماس للغفران وتطهر من الإثم، حيث يقول الرب لحزقيال «لقد رأيت دموعك وها أنا أشفيك». كما أن داود في المزامير يستخدم دموعه لاستدرار عطف الخالق، مفترضاً أن دموع الصلاة غالباً ما يُستجاب لها، ومردداً بحرقة بالغة «اسمع صلاتي يا رب، واصغِ إلى بكائي، ولا تسكت عن دموعي». ويعدُّ المؤلف أن العبريين الذين أقاموا حائطاً للدموع سموه «حائط المبكى»، لم يتركوا وسيلة من وسائل العويل وشق الثياب والتلطخ بالرماد إلا واستخدموها للتأثير على إلههم «يهوه»، الذي كان يعاقبهم على جحودهم وإيغالهم في العقوق وارتكاب الفواحش، قبل أن يشفق عليهم في نهاية الأمر. وبعد أن حل بهم وباء الجراد، وشرعوا بشق الثياب كالعادة، ينقل نبيهم يوئيل عن «يهوه» قوله لهم «اذهبوا الآن وارجعوا إليَّ بالصوم والصلاة والبكاء والنواح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم».

وفي الأناجيل الأربعة لم تبتعد دلالة الدموع عن دلالاتها في التوراة. لا بل إن دموع مريم المجدلية التي ركعت باكية عند قدمي المسيح، وفق ما رواه لوقا، وأخذت تمسحهما بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب، كانت واحدة من علامات توبتها وتطهرها من الخطايا، الأمر الذي أكدته مخاطبة المسيح لها بالقول «إن إيمانكِ قد خلّصك يا امرأة، اذهبي بسلام». وإذ تبدو الدموع في المسيحية جزءاً لا يتجزأ من طقوس البكاء على المسيح، يتساءل القديس أوغسطين عما إذا كانت الدموع تستمد حلاوتها من الاعتقاد بأنها مرئية من قبل الله، فيما يقر توما الأكويني بأن ذرفها بكثرة هو ما يخفف المعاناة ويتيح الحصول على النعمة.

ولم تكن الدموع بما تحمله من دلالات متداخلة لتغيب عن بال المبدعين في العصور القديمة والحديثة. وقد أثارت العلاقة بين الدموع والجمال اهتمام الكثير من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم فيرجيل الذي أشار في «الإنياذة» إلى الدموع التي تشبه الزخارف، كما يرد في أحد الأمثال القديمة بأن «المرأة ترتدي دموعها مثل المجوهرات». وحيث يعدُّ أوفيد أن الدموع تجرف الحزن بعيداً، وتضفي على المرأة قدراً غير قليل من الجاذبية والجمال، يتحدث يوروبيديس عن الدموع التي ترافق اللذة، فيما يعدها آخرون بمثابة العقوبة الطبيعية للمتعة.

إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من النظر إلى دموع المرأة بعين الريبة والتوجس، وفي طليعتهم وليم شكسبير الذي حذر في غير واحدة من مسرحياته، مما تخفيه الدموع وراءها من مكائد. فهو يقول بلسان عطيل، وقد استبدت به مشاعر الغيرة على ديسدمونا: «أيها الشيطان، إذا سالت دموع امرأة على الأرض، فكل قطرة تذرفها ستثبت أنها تمساح».

وفي إطار ما يسميه المؤلف «علم اجتماع الدموع»، يشير لوتز إلى العديد من ظواهر البكاء الحدادي في العالم. فهو إذ يبدو عند بعض الجماعات نوعاً من قطع الروابط الأخيرة مع الموتى، يتحول عند بعضها الآخر إلى مهنة للارتزاق، كما تفعل قبائل الولف السنغالية، حيث يتم استئجار النساء للندب على الموتى. وإذ تناط بالنساء مهمة البكاء بالأجرة في بعض مناطق الفيليبين، ما يلبث الطرف المستأجِر أن يقدِّم لهن حبوباً باعثة على الضحك، كنوع من التسرية عنهن بعد إنجاز المهمة.

فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي

على أن فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي، سواء تعلق الأمر بالبكاء على الأطلال، أو دموع الصوفيين كرابعة العدوية، أو دموع العشاق العذريين، أو بطقوس النواح الكربلائي، وصولاً إلى الدموع السخية التي ذرفها الأحياء على الموتى، في مسلسل الحروب الدموية التي لا تكف عن التوالد. وإذا لم يكن لباحثٍ أميركي أن يتنبه لهذا الأمر، فقد تكفل الشعراء العرب بهذه المهمة على أكمل وجه، بحيث بدا الشعر العربي في جانبه الأكبر، مدونة للرثاء والفقدان، بدءاً بمعلقة امرئ القيس الاستهلالية «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ»، وليس انتهاء بصرخة محمود درويش ذات مواجهة مماثلة مع الاحتلال:

تعب الرثاءُ من الضحايا

والضحايا جمَّدت أحزانها

أوَّاه مَن يرثي المراثي؟

في غزة اختلف المكانُ مع الزمان،

وكانت الصحراء جالسةً على جلدي،

وأول دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيةً،

هل تذكرون دموع هاجرَ،

أوّل امرأةٍ بكتْ في هجرةٍ لا تنتهي؟


مقالات ذات صلة

المدينة الفاضلة

ثقافة وفنون المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية.

حيدر المحسن
ثقافة وفنون الذاكرة مرتع للكتابة

الذاكرة مرتع للكتابة

فاز كتاب «يغتسل النثر في نهره» بجائزة «أبو القاسم الشابي» في تونس في دورتها الثلاثين 2024، الديوان الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (الأردن).

رشيد أزروال
ثقافة وفنون «الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

يستدعي عنوان رواية «الليلة الكبيرة» للكاتب محمد الفولي حالة من الحنين أو «النوستالجيا» لأوبريت مسرح العرائس الأشهر الذي يحمل الاسم نفسه وتربت عليه الأجيال

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة

رواية «العائد من غفوته» للروائي جاسم عاصي، الصادرة عام 2024، رواية موجعة ومحتشدة بالمعاناة والفواجع الشخصية لبطلها سعيد الناصري، الذي تحول بطلاً تراجيدياً

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «مكتبة الكلمات المفقودة» للكاتبة ستيفاني باتلاند، ترجمة إيناس التركي، والتي تتناول حالة خاصة من الولع بالكتب من خلال شخصية…

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة
TT
20

المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية. ثم يذبحون كلابهم ويرشّون دماءها على العظام، فتتلوّن وتتشبّع بها. من مزيج عظام الجنود الشجعان، مع حرارة قلوب كلاب الحراسة، تنبعث قوى سحريّة تدافع عن المدينة ضدّ الأعداء.

في زماننا لا تجري هذه الطقوس. لكننا نحصل بالمقابل، من خلال امتزاج عرق الأسلاف، مع بخار نباح الكلاب المتشردة، وعطور دمها أيضاً ودموعها، بالإضافة إلى قيئها وبقية فضلاتها، وهي حية وميتة، تتشكّل من هذا الخليط قوى سحريّة تقوم بغرس الحياة الروحيّة في المكان، وتحافظ عليها ما دامت كانت المدينة قائمة.

الكلاب في حقيقة أمرها، بالبراءة في العينين، والسكينة في الطبع، وتوّحشها مع الغرباء أيضاً، كأنها أطفالنا الذين سوف يحملون الأعباء عنّا في المستقبل. لقد نشأت فلسفة جديدة وغدت هي الزيّ الشائع؛ الأطفال يشبّون، وربما غادروا إلى خارج البلاد، أو حادوا عن الطريق، وفي أحسن أحوالهم فإنهم يشبهون الكلاب في دروب المدينة، وهي تزرع اللطافة والحُسن. إن أيّ مساحة وتفصيل من شارع أو مبنى، وبسبب الحياة الغزيرة والثرّة في المدينة، بإمكانهما أن يؤديا دور متحف تتجدّد فيه المعروضات الفنيّة كلّ ساعة، مع ألبوم من الصور يمثّل الناس الطيّبين (يا للعبارة الكونيّة التي لا يلمّها وصف: الناس الطيّبون). صحيح أن هؤلاء يموتون، لكنهم يتناسلون، وما ينفكّ أحفادهم يسيرون وفق هذه الطِباع والعادات. تحصل هجرات في كلّ زمن من أماكن أخرى، لكنّ البشر يشبه النبات، يتربّى على الهواء والماء وضوء القمر، فهو ابن المكان أكثر منه سليل أسلافه.

والمدينة العظيمة أيضاً ليست شيئاً من هذا العالم؛ لأنك ترى فيها كلّ أنماط الحياة، وتتحقق فيها كذلك رغبات الجميع؛ الدنيوية والصوفية، بالإضافة إلى ميول أهل الفن وشهواتهم، مهما بلغ تهوّرهم وجنونهم وشذوذهم، وتعطّشهم لابتكار رغبات جديدة. يقوم الأدب الحديث على الخيال؛ لأن جلّه من إبداع أبناء المدينة، يوسّعون به أفق القارئ ومداركه، فإن جاء واقعياً صرفاً، كان بلا روح. عن ألبير كامو: «الكلمات تفرغ من معناها، حين ينام الخيال».

كان هذا النوع من المدن شائعاً في الشرق والغرب، لكنه أخذ ينحسر أو يختفي؛ بسبب تضافر جهود هندسة ما بعد الحداثة، على أن تكون المباني والمنشآت شبيهة بأقفاص الدجاج البيّاض. البشر فيها بجثامين متماثلة، يقومون بالأفعال ذاتها، وتقدّم لهم ثقافة استهلاكية واحدة، ويتبعون وصفات طعام جاهز ومعلّب، وكلّ شيء تقوده آلة إعلانية جبارة، بإمكانها طمس الجمال الحقيقي، وإعلاء شأن الدمامة والقبح. توائم هذه الطريقة من العيش لا أحد غير رجال المال والأعمال، ويصحب هؤلاء حتماً المقامرون، وبنات الهوى، والمتصابون من الرجال بصورة خاصّة. إن علينا انتظار مئات أو ألوف السنين، المدة الكافية لكي تفعل القوى السحريّة – على أن يكون البنّاءون من أهل البلاد، فإن كانوا مستوردين من الخارج، يبطل السحر حتماً.

الناس الطيّبون باستطاعتهم الخلق من أيّ مكان، وإن كان معتقلاً مرهوباً ومنسيّاً، وطناً جميلاً وفردوساً أرضيّاً؛ لأن وداعتهم انطبعت في زواياه، فهو يتّسم بها. هل يمكننا تصوّر مدينة تخلو من الناس الطيبين؟ مطلقاً. لأن هؤلاء يشكلون الدعامة الأساسية لحياة مستقرة ومهيبة. بقية الدعامات والروابط التي تشدّ أجزاء المجتمع، تكون في العادة متناثرة أو عشوائية وغير مهمة. هل أجازف وأقول لا وجود للناس الطيّبين في المدن الحديثة؛ أقفاص الدجاج البيّاض؟

القوى السحريّة التي مرّ ذكرها هي السرّ في أن كلّاً منّا مكبّل ببلده، مثل طائر في قفص. هناك من يفتح لنا نافذة فنرتحل لأسبوع أو أكثر، ثم نعود إليه حتماً، فإذا رحنا نفتّش عن ملاذ في بلاد أخرى «متخبطين مثل حصاة دحرجت من مكانها» – التعبير لجورج سيفيريس - انتقل معنا سجننا الباهر هذا بمحض إرادتنا، وهذا هو تفسير قصيدة «المدينة» الشهيرة لكافافيس: «سأذهب إلى بلاد أخرى، سأذهب إلى ضفة أخرى سأجد مدينة أفضل كلّ جهودي محتومة بالفشل فقلبي متمدّد ومدفون هنا».

يقوم الأدب الحديث على الخيال لأن جلّه من إبداع أبناء المدينة وهم يوسّعون به أفق القارئ ومداركه

القراءة الأولى للقصيدة فيها هجاء للمدينة الأم، لكن المقاربة النقدية تكشف عن مديح هادئ النبرة. الانتقال إلى مدينة أخرى لا يُبطل القوى السحريّة، فهي السبب في دوام نعمة السجن الذي نختفي بين ظلاله، ومفتونون نحن بجدرانه. ثمة بهجة حزينة في هذه الأبيات، التي نحفظها جميعاً عن ظهر قلب، مع نوع من الأسى الناعم:

«لن تجد بلاداً جديدة، أو تجد ضفةً ثانية هذه المدينة ستطاردك. سوف تمشي في الشوارع نفسها. تشيخ في الأحياء نفسها ستُصبغُ رماديّاً في المنازل نفسها».

يبدو الأمر غريباً، لكنه الواقع؛ قوى السحر هذه يكتشفها السائح في المكان، فهي غائبة عن رؤية ابن البلد. ربما بسبب خاصيّة الإخفاء التي يؤدي إليها تكرار وقوع عين الإنسان على الشيء، فكأنما وجوده وعدم وجوده سيّان. لتوضيح القصد، أستعير شيئاً من شعر اليوناني يانيس ريتسوس، لا لكي أثبّت ما توصّل إليه، بل إلى نقضه:

«يدٌ شاحبة

تخلع المسمار

تهوي المرآة

يهوي الجدار.

يصلُ السائحون

وتُلتقط الصُّور الفوتوغرافية».

يحاول ريتسوس هنا، وعبر فذلكة شعرية، إقناعنا أن السائح غريب ومنقطع عن المكان، فهو يتنقل معصوب العين، مثل آلة حديدية في البلاد التي يزورها، بينما يُثبت الواقع العكس. السحر الخاصّ بالمدينة يكون في العادة ذائباً في دماء أهلها، ولا يستطيع أحد رؤية ما يجري في عروقه، كما هو معلوم. غير أن خاصيّة الإخفاء التي تقوم بها عين الإنسان، بسبب مداومة النظر وتكراره اللاشعوري، تكون معطّلة لدى الزائرين للبلدة، فهم الوحيدون القادرون على اكتشاف السحر، وبهذا تكون القصيدة بنسقها الصحيح: «يدٌ شاحبة تثبّت المسمار فتقوم المرآة ويقوم الجدار. يصلُ السائحون وتُلتقط الصُّور الفوتوغرافية».

الناس الطيّبون والحيوانات الطيّبة الأثر هم سرّ الحياة العجيبة في المدينة، ويمكننا إضافة أهل الفنّ إلى هذا الثنائي، ليكون الكلام أكثر رسوخاً. العالم الحقيقي موجود في كل مكان، وغياب القوى السحرية هو السرّ في عزوف الفنانين عن السكن في مدن الدجاج، أو حتى مجرّد التفكير بزيارتها سائحين. ثم هناك الفرق الأهمّ بين مدينة كافافيس الفاضلة، وبين تلك التي لا تحتفظ بشيء من الماضي؛ في الأولى يشعر أفقر الناس وأدناهم منزلة بأنه شخص له شأن، وفي مدن الدجاج يكون أحسنهم وأكثرهم ثراءً غريباً، لا يستطيع المشي في شوارعها وتنفّس هوائها؛ لأن مجتمع ما بعد الحداثة اختار أن يكون الإنسان كائناً منهوشاً ومتوارياً عن الأنظار، مثل دجاجة تأكل وتأكل وتقاسي من العزلة القاتلة، في انتظار الموت.