الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

توم لوتز في كتابه الشيق «تاريخ البكاء»

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات
TT

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

إذا كان المكتوب يُقرأ في معظم الأحيان من عنوانه، كما تقول العرب، فإن أكثر ما شدّني إلى قراءة كتاب توم لوتز «تاريخ البكاء» هو عنوانه بالذات، خصوصاً وأن المؤلف أضاف إليه عنواناً فرعياً أكثر إثارة للفضول، هو «تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي». ورغم أن موضوع البكاء، بتعبيراته المرئية وغير المرئية، لم يكن بعيداً عن متناول الباحثين في علوم الطب والاجتماع والنفس، فإن ما أكسب الموضوع جاذبيته الخاصة هو تعقب الكاتب الدؤوب لما يظنه القارئ، لشدة بديهيته واتساع رقعته الزمنية، عصياً على التدوين.

وفي تقديمه للكتاب، الصادر عن دار «صفحة 7»، الذي نقله إلى العربية عبد المنعم محجوب، يشير لوتز إلى أن دافعه للكتابة كان سؤال أستاذه رولان بارت في إحدى المحاضرات عمن من تلامذته سيكتب تاريخ الدموع. وبعد أن انبرى العديد من تلامذته للقول بشكل تلقائي «كلنا سيفعل ذلك»، أحس لوتز برغبته العميقة في عدم خذلان أستاذه، وبأن واجبه الأخلاقي أن يتصدى لهذه المهمة، مهما كان حجم الصعاب التي تعترض طريقه. لكن هذا الدافع المباشر كان مقروناً بدافعين آخرين، يتعلق أولهما بتبرم لوتز من التنظير الفلسفي المحض الذي يسميه «تواتر اللامعنى»، وبنزوعه الملح إلى المواءمة التامة بين الفلسفة التطبيقية والعلوم الحديثة.

أما ثانيهما فيرتبط بتكوين المؤلف النفسي والعاطفي. فهو إذ يصنف البشر بين بكائين و«جفافين»، أي الذين جفت مدامعهم، يعلن انحيازه بصورة واضحة إلى الصنف الأول، مستعيناً على مهمته بالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وبعلم وظائف الأعضاء والفيزيولوجيا العصبية والكيمياء والحيوية. لكن كل تلك العلوم لم تكن لتكسب الكتاب أهميته، لولا الخلطة السحرية التي وفرها لوتز لكتابه، جامعاً على طريقة أستاذه بارت، بين المعرفة الموسوعية الجامعة، ودقة التصويب إلى التفاصيل، والأسلوب الشاعري المتوهج.

وإذ يستهل المؤلف كتابه بمجموعة من التساؤلات المتتالية عن أسباب البكاء، وعن الطبيعة الملتبسة للدموع التي اعتدنا على ذرفها في مناسبات متناقضة، كتعبير عن الفرح أو الحزن، الربح أو الخسارة، عن متعة الحب وآلام الفراق، وعن الاحتفال بقريبٍ عائد أو الحداد على عزيزٍ راحل، لا يتوانى عن العودة بعيداً إلى الوراء، ليتقصى جذور الدموع الأم في الميثولوجيا والدين والشعر والسحر والطقوس الجمعية المختلفة.

وقد بدت الدموع في حضارات الشرق القديمة، كما لو أنها الخمرة المسكرة، أو الماء الذي يحتاجه المكلومون لإرواء غليلهم. فالآلهة العذراء «عناة»، ظلت تذرف الدموع إثر وفاة أخيها «بعل» إلى أن «أتخمت نفسها بكاءً وصارت تشرب الدموع كما الخمر»، وفق النصوص التي اكتشفت في أوغاريت في مطالع القرن الفائت. لا بل إن للدموع في الأساطير، بخاصة دموع النساء، أثرها البالغ على عتاة «الصفوف الأولى» من الآلهة، الذين عمدوا بتأثير من بكاء «عناة» إلى إعادة «بعل» إلى الحياة لشهور عدة. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بكاء عشتروت على أدونيس، وإنانا على ديموزي، وإيزيس على أوزيريس.

وفي «العهد القديم» تبدو الدموع بمثابة التماس للغفران وتطهر من الإثم، حيث يقول الرب لحزقيال «لقد رأيت دموعك وها أنا أشفيك». كما أن داود في المزامير يستخدم دموعه لاستدرار عطف الخالق، مفترضاً أن دموع الصلاة غالباً ما يُستجاب لها، ومردداً بحرقة بالغة «اسمع صلاتي يا رب، واصغِ إلى بكائي، ولا تسكت عن دموعي». ويعدُّ المؤلف أن العبريين الذين أقاموا حائطاً للدموع سموه «حائط المبكى»، لم يتركوا وسيلة من وسائل العويل وشق الثياب والتلطخ بالرماد إلا واستخدموها للتأثير على إلههم «يهوه»، الذي كان يعاقبهم على جحودهم وإيغالهم في العقوق وارتكاب الفواحش، قبل أن يشفق عليهم في نهاية الأمر. وبعد أن حل بهم وباء الجراد، وشرعوا بشق الثياب كالعادة، ينقل نبيهم يوئيل عن «يهوه» قوله لهم «اذهبوا الآن وارجعوا إليَّ بالصوم والصلاة والبكاء والنواح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم».

وفي الأناجيل الأربعة لم تبتعد دلالة الدموع عن دلالاتها في التوراة. لا بل إن دموع مريم المجدلية التي ركعت باكية عند قدمي المسيح، وفق ما رواه لوقا، وأخذت تمسحهما بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب، كانت واحدة من علامات توبتها وتطهرها من الخطايا، الأمر الذي أكدته مخاطبة المسيح لها بالقول «إن إيمانكِ قد خلّصك يا امرأة، اذهبي بسلام». وإذ تبدو الدموع في المسيحية جزءاً لا يتجزأ من طقوس البكاء على المسيح، يتساءل القديس أوغسطين عما إذا كانت الدموع تستمد حلاوتها من الاعتقاد بأنها مرئية من قبل الله، فيما يقر توما الأكويني بأن ذرفها بكثرة هو ما يخفف المعاناة ويتيح الحصول على النعمة.

ولم تكن الدموع بما تحمله من دلالات متداخلة لتغيب عن بال المبدعين في العصور القديمة والحديثة. وقد أثارت العلاقة بين الدموع والجمال اهتمام الكثير من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم فيرجيل الذي أشار في «الإنياذة» إلى الدموع التي تشبه الزخارف، كما يرد في أحد الأمثال القديمة بأن «المرأة ترتدي دموعها مثل المجوهرات». وحيث يعدُّ أوفيد أن الدموع تجرف الحزن بعيداً، وتضفي على المرأة قدراً غير قليل من الجاذبية والجمال، يتحدث يوروبيديس عن الدموع التي ترافق اللذة، فيما يعدها آخرون بمثابة العقوبة الطبيعية للمتعة.

إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من النظر إلى دموع المرأة بعين الريبة والتوجس، وفي طليعتهم وليم شكسبير الذي حذر في غير واحدة من مسرحياته، مما تخفيه الدموع وراءها من مكائد. فهو يقول بلسان عطيل، وقد استبدت به مشاعر الغيرة على ديسدمونا: «أيها الشيطان، إذا سالت دموع امرأة على الأرض، فكل قطرة تذرفها ستثبت أنها تمساح».

وفي إطار ما يسميه المؤلف «علم اجتماع الدموع»، يشير لوتز إلى العديد من ظواهر البكاء الحدادي في العالم. فهو إذ يبدو عند بعض الجماعات نوعاً من قطع الروابط الأخيرة مع الموتى، يتحول عند بعضها الآخر إلى مهنة للارتزاق، كما تفعل قبائل الولف السنغالية، حيث يتم استئجار النساء للندب على الموتى. وإذ تناط بالنساء مهمة البكاء بالأجرة في بعض مناطق الفيليبين، ما يلبث الطرف المستأجِر أن يقدِّم لهن حبوباً باعثة على الضحك، كنوع من التسرية عنهن بعد إنجاز المهمة.

فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي

على أن فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي، سواء تعلق الأمر بالبكاء على الأطلال، أو دموع الصوفيين كرابعة العدوية، أو دموع العشاق العذريين، أو بطقوس النواح الكربلائي، وصولاً إلى الدموع السخية التي ذرفها الأحياء على الموتى، في مسلسل الحروب الدموية التي لا تكف عن التوالد. وإذا لم يكن لباحثٍ أميركي أن يتنبه لهذا الأمر، فقد تكفل الشعراء العرب بهذه المهمة على أكمل وجه، بحيث بدا الشعر العربي في جانبه الأكبر، مدونة للرثاء والفقدان، بدءاً بمعلقة امرئ القيس الاستهلالية «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ»، وليس انتهاء بصرخة محمود درويش ذات مواجهة مماثلة مع الاحتلال:

تعب الرثاءُ من الضحايا

والضحايا جمَّدت أحزانها

أوَّاه مَن يرثي المراثي؟

في غزة اختلف المكانُ مع الزمان،

وكانت الصحراء جالسةً على جلدي،

وأول دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيةً،

هل تذكرون دموع هاجرَ،

أوّل امرأةٍ بكتْ في هجرةٍ لا تنتهي؟


مقالات ذات صلة

مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

ثقافة وفنون مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.

مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

تتعدّد الشواهد الأثرية الخاصة بحضارة دلمون، وتتنوّع، وأبرزها مجموعات الأختام الدائرية التي عُثر عليها خلال مواسم التنقيب المتواصلة في جزيرة فيلكا الكويتية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون إلياس خوري في صورة من عام 2007 (أ.ب)

صاحب «باب الشمس»... رحيل الروائي اللبناني إلياس خوري

نعت الأوساط الثقافية الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري الذي رحل، صباح الأحد، عن 76 عاماً، مخلّفاً عدداً كبيراً من الروايات، خصوصاً حول مأساة فلسطين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)

مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.
مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.
TT

مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.
مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.

تتعدّد الشواهد الأثرية الخاصة بحضارة دلمون، وتتنوّع، وأبرزها مجموعات الأختام الدائرية التي عُثر عليها خلال مواسم التنقيب المتواصلة في جزيرة فيلكا الكويتية وجزيرة البحرين. تكمن قيمة هذه الأختام بشكل أساسي في نقوشها التصويرية التي تختزل عوالم مختلفة، تتمثّل في مجموعة من المشاهد تتكرّر في تآليف تتشابه حيناً وتتماثل حيناً آخر. في هذا الميدان، تحضر صور مجالس الشراب في سلسلة جامعة من المشاهد، تتبنّى مجموعة محدّدة من العناصر التصويرية تؤلف معاً قاموساً تشكيلياً خاصاً بها.

تحضر هذه المجالس في نماذج تأليفية عدة، أبرزها نموذج يجمع بين شخصين متواجهين يمسك كل منهما ما يشبه أنبوباً طويلاً ونحيلاً، يخرج من إناء يحتل وسط التأليف. يظهر هذا النموذج في ختم من فيلكا، يعود إلى مجموعة الأختام الهائلة التي عثرت عليها البعثة الدنماركية في مطلع الستينات، خلال أعمال المسح التي قامت بها في التل الشمالي لما بات يُعرف بالقلعة اليونانية. على وجه هذا الختم، يظهر شخصان في وضعية جانبية، يجلس كل منهما على مقعد صغير بلا ظهر، قابضاً بيد على قصبة ينغرس طرفها الأسفل في جرة مستطيلة تقع وسط المقعدين. في القسم الأعلى من التأليف، يظهر نقش مستطيل بين رأسي الشخصين المتواجهين، ويمثل هذا النقش عنصراً تصويرياً غامضاً يصعب تحديد هويته.

يتكرّر هذا التأليف على ختم آخر خرج من الموقع نفسه أثناء أعمال المسح التي أجرتها بعثة فرنسية في منتصف ثمانينات القرن الماضي. يرتدي الشخصان الجالسان زياً واحداً مشتركاً يتمثّل في مئزر طويل تعلوه شبكة من الخطوط المتوازية تحاكي وبر الصوف، وهذا الزي معروف في القاموس الفني، وهو خاص ببلاد ما بين النهرين. في القسم الأعلى يظهر قوس يرتفع فوق عمود صغير يشكل قاعدة له، وبين طرفي هذا القوس تظهر دائرة شمسية يحيط بها سوار من الشعاعات المتوازية. يحضن هذا القوس الهلالي هذا القرص الشمسي، ويشكّلان معاً عنصراً نجمياً معروفاً يتكرّر في أنحاء متفرّقة من الجزيرة العربية، متجاورة ومتباعدة. إلى جانب هذا العنصر التشكيلي المعهود، يظهر استثنائياً طائر صغير يحلّق فوق قمة طرف الهلال اليمنى.

يحضر هذا التأليف بشكل شبه مطابق على ختم من أشهر أختام البحرين، اكتُشف عام 1987 في مقبرة قرية كرانة الأثرية التي تقع في المحافظة الشمالية، وهو اليوم معروض في قاعة باسم دلمون بمتحف البحرين الوطني. كما في الصورة المنقوشة على ختم فيلكا، يرتدي كل من الشخصين المتواجهين مئزراً يغطي الجزء الأسفل من الجسد، ويتقاسمان معاً الشراب من جرة تخرج منها قصبتان طويلتان. يمسك كلّ من الشخصين أنبوباً من هذين الأنبوبين بيد، ويرتشف الشراب من طرف الأنبوب الأعلى. يشكل عمودا الأنبوبين المنغرسين في الجرة مثلثاً يحتضن شمعداناً ذا أربعة أغصان متوازية، يعلوها هلال. ووسط هذا الهلال، يحلّ القرص الشمسي التقليدي على شكل زهرة دوار الشمس.

يمثّل هذا النموذج الصيغة التقليدية المتكاملة لمشهد مجلس الشراب، ويحضر إلى جانب نماذج أخرى متعددة تظهر على عدد كبير من الأختام، منها على سبيل المثل تلك التي خرجت من مقبرة سار في المحافظة الشمالية، غرب العاصمة المنامة، خلال أعمال المسح التي أجرتها بعثة بريطانية في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. على ختم مميز اكتُشف في عام 1990، يظهر شخص يرتشف هنا الشراب بمفرده، يظهر من خلفه شخص يلعب كما يبدو دور النادل، كما يوحي قياس قامته الأصغر حجماً. يجلس السيّد على المقعد الصغير، مرتدياً زي بلاد الرافدين التقليدي، ومعتمراً قبعة مقوسة عالية تنتمي كذلك إلى هذا الزي، ويمتصّ الشراب بواسطة أنبوب طويل يخرج من الجرة المثبتة أمام قدميه. من خلف ظهره، يقف النادل عارياً في وضعية جانبية، كما سيّده، حاملاً بيده أداة مقوّسة غامضة. تحيط بالشخصين مجموعة من العناصر، تتمثل في عقرب وغزال من جهة، ومذبح صغير يعلوه قوس هلالي يحتضن قرصاً شمسياً.

تكشف أختام أخرى من مقبرة سار عن نماذج أخرى تشكل تنويعات لهذا المجلس الواحد. على ختم من هذه الأختام، يجلس رجل يمتص الشراب في الوضعية التقليدية، ويظهر من أمامه رجل يقف في مواجهته، حاملاً بيده تلك الأداة المقوسة الغامضة. على ختم آخر، يظهر رجل يقف على قدميه، ممسكاً بيده اليمنى أنبوباً يخرج من جرة ثُبّتت من أمام قدميه، قابضاً بيده اليسرى على قائمة ثور ينتصب عمودياً من خلفه. ويظهر في الطرف المقابل عقرب يمتدّ عمودياً بشكل متجانس. في تقصٍّ سريع لهذه التقاسيم المختلفة، يظهر رجل يشرب وقوفاً إلى جانب رجل آخر يقف من ورائه، وتحلّ جرتان منفصلتان بدل الجرة الواحدة، ويظهر مُحتسو هذا الشراب تارة بالزي التقليدي وتارة عراة.

يظهر هذا المشهد على ختم أسطواني من مقبرة سار يحاكي في شكله أختام بلاد ما بين النهرين، ويعيد هذا المشهد إلى الذاكرة المشهد التقليدي الأصلي الذي ظهر في بلاد ما بين النهرين وتكوّن فيها. والشواهد عديدة، منها ختم أسطواني من محفوظات المتحف البريطاني مصدره مقبرة الملكة السومرية شبعاد في مدينة أور، يصوّر مأدبة تحوي مشهد شخصين يحتسيان المشروب من آنية كبيرة، وختم آكدي من محفوظات المتحف العراقي في بغداد، يصوّر كذلك شخصين يمتصان الشراب من جرة كبيرة تعلوها نجمة سداسية.

تُظهر الأبحاث الأثرية أن السومريين ابتكروا «شفاطات» الشرب، وصنعوا هذه الأنابيب للنخبة من مواد معدنية ثمينة، واستخدمت هذه الأنابيب للوصول إلى السوائل المحفوظة في أسفل الوعاء، وسمحت بالتجمّع حول الوعاء والاستمتاع بتناول الشراب معاً. ويرى أهل الاختصاص أن هذا الشراب تمثّل بالجعة، المشروب القومي حينذاك، وكان لهذا المشروب معبودة تُدعى «نينكاسي»، كما كتب صموئيل نوح كريمر في كتابه الخاص بتاريخ السومريين وبثقافتهم، واسم نينكاسي يُترجم حرفياً بـ«السيدة التي تملأ الفم»، واللافت أنها ولدت في المياه العذبة المتلألئة، غير أن الجعة كانت حبها الأول. وحسب ترنيمة خاصة بهذه المعبودة، كان الشعير الجديد يُطحن بمجرفة عظيمة، وكانت الجعة المصفاة تُصب من الحافيات وتندفع منها «مثل دجلة والفرات».