تملك كارمن لبس جرأة تندر في زمن الأقنعة. تواجهها جيسيكا عازار مع ماضيها وحاضرها والغد القادم، فلا تخشى المواجهة. تستعد للضحك بقدر استعدادها الشجاع للبكاء، فهذه المرأة محض مشاعر متخبطة، منذ بداية الاندفاع نحو الحياة إلى اليوم. عصية على ترويض انجرافاتها، كلها تيارات وزوابع. تبكي ذكرى والدها الراحل، فتمردها قادها إلى ارتكاب الأخطاء حين أصرت على الزواج في سن الرابعة عشرة رداً على رفضه خطوتها المتهورة. أقلنا تيارات وزوابع؟ الحقيقة أن النجمة اللبنانية مسار طويل مع الأعاصير.
وجه حديد، لا يُظهر دائماً كل شيء. ثمة تناقضات تُحلي الأنثى حين تجتمع في ملامحها بتجانس خاص. اللين والهدوء، تقابلهما الصرامة والقسوة. ضيفة عازار في «40» (إم تي في) تعرضت للتنمر منذ تفتحها. شابة طويلة ونحيفة، فيجهز الوصف: «ستيكة بيليار» (عصا البيلياردو) للسخرية من رشاقتها. وإذ تتحلى بفم عريض، يحضر التشبيه الفوري «مغارة جعيتا». هذه البدايات، فما البال من الآتي الأعظم؟ قرروا أن مقعدها هو الأخير في الصف، فيحضر اتهام آخر، «الراسبة»! كارمن قُبيل المراهقة، بجسم أكبر من سنها، بعيون تفترسها لجمالها، وألسنة بلا رحمة.
دخل الرجل حياتها ولا تزال وردة تحاكي العطر. «لِمَ وافقتِ على الزواج بسن الرابعة عشرة من دون حب؟». أخريات قد يخترعن الظروف ويعدلن الوقائع. كارمن لبس ترمي الحقيقة كما هي على الطاولة: «نكاية بأبي. أردتُ الوقوف في وجهه فأثبت له أنني قوية. أردتُ سلطتي أن تنتصر».
لفحها إعجابٌ تجاه الزوج سرعان ما تبخر، فوجدت كارمن المتزوجة نفسها مطلقة، مع طفل بين يديها وهي في الخامسة عشرة. طفلة مع طفل، وأنثى مع دميتها! وُلد صغيرها في جدة بالسعودية، فالأم هربت من حروب لبنان وويلاته. وحين وقع الطلاق عادت إلى بيروت، وجهة التحديات.
أربعون سؤالاً، عن الفن والدراما والحياة. يخيفها الوقت حين تتجاوز الدقيقتين، مدة كل إجابة؛ ولأنها امرأة المفارقات، تخشاه ولا تخشى الوقت المستتر خلف سطور عمرها. تجيب محاورتها عن أعوامها، «من مواليد فبراير (شباط) 1963 والعمر رقم. في داخلي ابنة عشرين»، مع رسالة لكل امرأة خائفة: «لا تدعي عدد السنوات يصنع قدركِ».
يسعدها امتلاك مفاتيح الشخصيات والقبض على تفاصيلها. وحدها عزة النفس ما قد يدفعها إلى اعتزال التمثيل، إن لمحت تعرضها للغبن، أو شعرت برتابة الأدوار وخفوت الفرص. يعذبها الدور المحدود، فمساحته الضيقة تكبلها، على عكس الأدوار المركبة، الماهرة في السباحة بمحيطها. ويعذبها لبنان، فتعلن استحالة الأمل: «البلد مش رح يضبط. نحن لا نحب بعضنا البعض. أبكي من الوجع». بكت ثلاث مرات في الحلقة، وهي تفسح المجال لخروج كارمن العاطفية من معطفها. مرة حزناً على الوطن، ومرة حرقة على الأب، وثالثة تأثراً برسالة ابنها. الأخير لا يستهويه الحضور التلفزيوني، واستجابة للإلحاح، يختار الحل الوسط، رسالة صوتية. بنضج الأبناء أمام عطاء الآباء، شكرها لأنها لم تضعه في قالب كجميع الناس. تتساقط دمعتها، وهو يكمل كلامه معلناً تقديره تعبها، وقد ربته في سن صغيرة من دون مساعدة، «ربت نفسها وربتني».
بديع الجانب المتعلق بالأمومة العنيدة. والدة هي الأم والأب لنفسها، وأيضاً الأم والأب لطفلها، ولا خيار سوى تحمل المسؤولية! تعترف بمحاولتها الانتحار، لكن إرادة الحياة أقوى من اليأس العابر. بلغ ابنها العام، فنالت طلاقها بعزيمة المستعد للوقوف في وجه الريح. الهبات صنعتها.
كانت طالبة في سنتها الأولى بمعهد الفنون الجميلة حين دخل زياد الرحباني حياتها. الصداقة تحولت علاقة حب استمرت نحو الـ15 عاماً. من ثم قررت الرحيل وطي الصفحة. منذ نحو السبع سنوات، ولا تواصل مع عبقري من لبنان أهداها أغنيات، من بين أجملها «عندي ثقة فيك». تسألها عازار عن المقطع المفضل في هذه الروعة الفنية. ترد كأنها تنادي الذكريات: «كل الجُمل عم تنتهي فيك وبكفي». واليوم، ماذا تقول له؟ لكارمن لبس جرأة الاعتراف: «أقول له اشتقتلك». العِشرة لا تُهزم تحت أي ظرف. قد تتقاعد أو تتنازل عن حضورها الساطع. لكنها راسخة في القلب.
«أتتزوجين مجدداً؟»، تجيب محاورتها التي تريح جو الحوار بدوام الضحكة الأنيقة: «ولِمَ لا؟». تصبح الخيارات صعبة مع الوقت، ويبقى الحب الشرط الأهم للدخول في مغامرة. «هل أنتِ مغرمة؟»، ترد بالنفي فالفؤاد لم يخفق منذ مدة، ولعله تعلم من مشاعره ففضل الانتظار على مزيد من التعثر.
حياة من دموع وضحكات و«أكشن»، فتشعر بأنها بلغت المائة عام، «وما عم تخلص الأحداث». خلاصة جيل الحرب والإخفاق العاطفي، مع خيبات الوطن والإحساس بالذنب تجاه العائلة. تتأثر لمرور صورة والدها على الشاشة الضخمة، ويؤلمها التنصل بذريعة الانغماس في العمل، يوم كان يدعوها أيام الآحاد لتناول الغداء. تتفهم صرامته مع الوقت، فهي نتيجة خوفه عليها ومحاولته حمايتها من الشر الخارجي. مسيرة ملهمة لفنانة لم تخفِ تعرضها للتحرش ونجاتها المتكررة من وحوشه. تضحك للتجارب بعد الانتصار عليها. الضحكة سلاح المرأة.