الثقافة اللبنانية 2021: «معركة البقاء» رغم الجراح والخراب

إصدارات جديدة وعودة مؤسسات فنية... وأمل في معرض الكتاب

TT

الثقافة اللبنانية 2021: «معركة البقاء» رغم الجراح والخراب

نقطتان رئيسيتان حكمتا الحياة الثقافية اللبنانية طيلة عام 2021؛ الأولى تتجسد في تفاني كتاب وفنانين للتغلب على واقع استثنائي مرير، حيث بلغ الانهيار ذروته، ولم تعد الكتابة أو المسرح من الأولويات التي يجد الإنسان متسعاً للتمتع بها، ومع ذلك استمر البعض وأنتج. والنقطة الثانية هي بناء جسور ثقافية مع الخارج لإيجاد متنفسات، بحيث لم يعد الداخل وحده قادراً على إيجاد الأوكسجين الكافي للاستمرار.
ما من معرض فني أقيم أو مسرحية عرضت أو فيلم أنتج، أو كتاب خرج من المطبعة، إلا وكان فعل مقاومة شرسة ضد الموت. ففي غياب الكهرباء، وصعوبة العثور على المحروقات، والغلاء الفاحش، وما يتبع من منغصات، كان على اللبنانيين أن يثبتوا أنهم أحياء، وقادرون على الصمود. ليس بمستغرب أن يكون التعبير عن الألم، أو التحدي، من بين التيمات الأكثر تكراراً. من المباني الأثرية مروراً بغاليريات الفن، وليس انتهاء بالمسارح، الكثير منها تعرض للدمار في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) عام 2020، حيث امتدت الأضرار على مساحة 8 كلم، وطالت نحو 62 ألف وحدة سكنية و20 ألف مؤسسة. هذه السنة استمر الترميم، وعادت الحياة إلى شارع مار مخايل ومنطقة الجميزة، حيث العديد من الغاليريات، مثل «تانيت» التي استأنفت عملها بعد الإصلاحات، وكذلك «صفير – زملر» بصالاتها المحاذية لمرفأ بيروت، و«غاليري صالح بركات» التي تعرضت بدورها لضربة موجعة.

- عودة الفن التشكيلي
تعود مؤسسات فنية للعمل، ومبانٍ تراثية تستعيد حياتها بعد أن ضربها الانفجار. فمن أصل 90 مبنى تراثياً تضرر بشكل كبير، رُمم 20 في المائة، ومن أصل 102 مبنى تضررت بشكل جزئي تم إصلاح أكثر من النصف. من أشهر المباني التي عصر خرابها القلب، مبنى «متحف قصر سرسق»، وقد افتتح جزئياً هذه السنة، بانتظار عودة كاملة العام المقبل. بالقرب منه، «فيلا عودة»، التي لم تنجُ هي الأخرى، لكنها فتحت أبوابها مع مطلع العام، واستقبلت واحداً من أهم معارض السنة، تحت عنوان «الفن الجريح»، شارك فيه 35 فناناً لبنانياً وأجنبياً، من بين الأعمال، ما كان قد نجا من الانفجار بندوب وكسور. بعضها عرض بعد الترميم والبعض الآخر، ترك كما هو. سينوغرافيا جان لوي مانغي كانت كفيلة برسم مشهد جمالي لافت، يجمع بين المعافى من الأعمال الفنية، والمجروح في الصميم، وما أنجز من وحي الحدث الكبير. استعادت المعارض التشكيلية شيئاً من عافيتها، دشنت غاليري «صفير – زملر» عودتها بمعرض للفنان مروان رشماوي الذي كان يستعد للعرض قبل الانفجار، وأصيبت بعض أعماله، كذلك شهدت «غاليري صالح بركات» معارض طوال العام، متجاوزة الأحزان والصعوبات، وربما أن المهمة الأصعب كانت من نصيب «غاليري مرفا» الأقرب لمكان الانفجار، لكن صاحبته جومانا عسلي لملمت جراحها وفتحت أبوابه.
وإذا كانت المهرجانات الصيفية قد غابت للسنة الثانية على التوالي، بسبب وطأة الجائحة، واستحالة التخطيط في ظل التخبط الاقتصادي، فإن لجنة «مهرجانات بعلبك» أبت أن تستلم ونظمت حفلاً وحيداً، حضره عدد محدود من المدعوين بعنوان «شمس لبنان لا تغيب» عُرض خلاله شريط من 80 دقيقة، تضمن 10 حفلات امتدت كل منها نحو ثماني دقائق، صُورت كلها في معابد من العصر الروماني تتوزع في أرجاء منطقة البقاع، غالبيتها غير معروفة، ما أتاح للمشاهدين اكتشافها، والتعرف على مواهب شابة.

- شجاعة مهرجانات السينما
ليست المهرجانات وحدها التي غابت، بل معارض الكتب، أهمها «معرض الكتاب الفرنسي»، و«معرض الكتاب العربي والدولي». هو عميد المعارض العربية لا يزال يئن، بسبب التكاليف الباهظة التي قد تترتب على ناشرين، يناضلون لتجاوز المحنة. والأمل في أن يتمكن «النادي الثقافي العربي»، وهو الجهة المنظمة، من عقد دورة جديدة في مارس (آذار) المقبل، والسعي جارٍ لتبصر النور.
الجائحة تزن ثقيلاً على المسارح التي عرضت العديد من المسرحيات مثل مسرحي «المدينة» و«مونو»، ولم يتوقف «المسرح الوطني اللبناني» بإدارة قاسم إسطنبولي، في صيدا، عن تقديم العروض. لكن الأشجع على الإطلاق هذه السنة هم منظمو المهرجانات السينمائية. فقد شهدت بيروت «مهرجان السينما الأوروبية»، الذي بقي افتراضياً، وأطلقت بمبادرة شجاعة، النسخة الأولى من «مهرجان بيروت للشرائط المصورة»، و«مهرجان بيروت للأفلام الوثائقية»، و«أسبوع الفيلم الألماني»، و«مهرجان مسكون لأفلام الرعب والخيال العلمي»، وعاد «مهرجان الفيلم العربي القصير» ليحتفي بنسخته الخامسة عشرة، وكذلك «مهرجان طرابلس للأفلام».

- الأفلام اللبنانية تخترق
كما تمكنت الأفلام اللبنانية رغم ركود حركة الصالات المحلية، بسبب الأوضاع الضاغطة للبلاد، من أن تخترق وتبرز عربياً وعالمياً، بعضها حصد جوائز في مهرجانات، أو تصدر مواقع متقدمة، مثل فيلم «دفاتر مايا» للمخرجين جوانا حاجي توما وخليل جريج الذي نال جائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم عربي، في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي». وهو حكاية فتاة تعيش في كندا، تتلقى ليلة الميلاد، دفاتر وأشرطة، وصوراً قديمة كانت قد أرسلتها إلى صديقتها المقربة في بيروت. وارتأت عائلة هذه الصديقة التي توفيت أن تعيد إليها الأغراض التي ما إن تصل إليها حتى تفتح لها نافذة على بيروت الثمانينات التي كانت غارقة في الحرب. برز أيضاً فيلم «ع أمل تجي» للمخرج اللبناني جورج برباري، ويحكي عن مرحلة الانتقال من الشباب إلى الرجولة مع حيثيات وتفاصيل الجوانب العاطفية، وفيلم «قلتلك خلص» لإيلي خليفة يطرح كيفية تحكم المنتجين والممولين بكتاب السيناريو والمخرجين. وفيلم لارا سابا «ع مفرق طريق» حصد جائزة «مهرجان مالمو» في السويد، من كتابة جوزفين حبشي، يتناول قصة رومانسية كوميدية تدور في لبنان. وحظي فيلم المخرج إيلي داغر «البحر أمامكم» بعرضه في «مهرجان كان السينمائي 74» ضمن تظاهرة أسبوعي المخرجين، متنافساً لنيل الكاميرا الذهبية.
ورشحت وزارة الثقافة فيلم «كوستابرافا» لتمثيل لبنان في مسابقة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي. الفيلم شارك في مهرجانات عالمية منها «سينيميد» و«البندقية» و«تورونتو»، إخراج منية عقل، وتؤدي الممثلة والمخرجة نادين لبكي دور البطولة فيه إلى جانب صالح بكري.

- نجدة فرنسا والمغتربين
لبنان في الاختبار الصعب، ليس وحيداً، تضافرت الجهود الثقافية، لدعمه من جهات عدة، «اليونيسكو» تجمع التبرعات لترمم المباني الأثرية، «متحف سرسق» وجد تمويله أيضاً. مغتربون محبون للفن لم يبخلوا بدعم سخي. فرنسا قامت بجهد كبير. معرض «أنوار من لبنان» أقيم في «معهد العالم العربي» دعماً وتضامناً، أرّخ لسبعة عقود من الفن التشكيلي اللبناني بمختلف تياراته وأجياله منذ عام 1950 إلى اليوم. 100 عمل لـ55 فناناً، من ثلاثة أجيال بينهم لبنانيون، وعرب وفرنسيون، رسموا في لبنان ومن وحيه. في «معهد العالم العربي» أيضاً أقيمت أمسية موسيقية، بعنوان «بعلبك يا حبي» بمبادرة من عازف البيانو سيمون غريشي «بهدف جمع التبرعات» لـ«مهرجانات بعلبك الدولية».
حضر لبنان في المعرض الدولي السابع عشر للعمارة - بينالي البندقية، من خلال مشروع يحمل اسم «سقف للصمت» للفنانة المعمارية العالمية هلا ورده. ونظمت على هامش العرض، حملات توعية، بإعادة تأهيل التراث المعماري والثقافي المتضرر في بيروت.
ويشارك لبنان في «البينالي الدولي للفن المعاصر» في البندقية عام 2022، رغم كل الصعاب، بفضل معونة «الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية»، وتحت إشراف وزارة الثقافة حيث أعلن عن اختيار الفنانين الموهوبين، أيمن بعلبكي المقيم في لبنان ومنى ربيز المغتربة، ليمثلا بلديهما، بجناحين في هذه المناسبة.
مؤسسة بوغوصيان، اللبنانية - الأرمينية الأصل في بلجيكا، نظمت بدورها معرضاً، يستمر حتى فبراير (شباط) المقبل بالشراكة مع «مركز بومبيدو»، يعقد حواراً بين مجموع الأعمال الاستثنائية التي بحوزتها وقطع لفنانين لبنانيين من جميع الأجيال، تم إنتاجها في السنوات الأخيرة، لفتح بعض الآفاق المحتملة.

- روايات وترجمات وشعر
كتب عديدة صدرت. الوضع الحرج لم يمنع «دار الآداب» من متابعة إصدار ترجماتها لروايات عالمية: ماريز كزندي «انتظار الطوفان»، وهاروكي موراكامي «يوميات طائر الزنبرك»، ويوكو أوغاوا «شرطة الذاكرة»، وجيمس جويس «صورة الفنان في شبابه»، وإيزابيل الليندي «صورة عتيقة»، وروايات أخرى. كما أصدرت لجوخة الحارثي «حرير الغزالة»، و«ليليات رمادة» لواسيني الأعرج، وغير ذلك. «دار الجديد» مالت، إلى جانب الورقي، لنشر كتبها افتراضياً، بينها ثلاثة كتب للدكتور محمد الرميحي، و«الفظيع وتمثيله» لياسين الحاج صالح و«بعيون النساء» لعزة شرارة بيضون. وأصدرت خالدة سعيد عن «دار الساقي» «فضاءات 2» والشاعر شوقي بزيع «مسارات الحداثة» والمخرج هادي زكاك «سيلما طرابلس»، والأب جاك أماتييس السالسي «خميس مجلة شعر» موثقاً ومحللاً، وأصدرت «مؤسسة الفكر العربي»، كتابين علميين، بالعربية والإنجليزية حول «العرب وتحديات التحول نحو المعرفة والابتكار». وبمناسبة مرور 10 سنوات على وفاته، أصدرت «دار نلسن» ترجمة محمود شريح لدراسة كمال الصليبي «لبنان ومسألة الشرق الأوسط». وشهدنا ولادة الجزء الأول من موسوعة «الفلسفة الفرنسية المعاصرة» بإشراف الدكتور مشير عون، والرواية الأخيرة للأديب الفرنسي غيوم ميسو «الحياة رواية»، عن دار «هاشيت – أنطوان».
وفي الشعر قرأنا لشوقي أبي شقرا بعد 16 عاماً من الغياب «عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى»، ولعبده وازن مختارات من شعره حملت عنوان «هكذا في الحكاية التي لم يَرْوِها أحد»، ولعباس بيضون «الحياة تحت الصفر» وعقل العويط «الرابع من آب 2020».
غيب هذا العام كباراً في الحياة الثقافية اللبنانية: الموسيقي الألمعي إلياس الرحباني، والروائي القدير جبور الدويهي، والسينمائي المناضل برهان علوية، والفنانة الشاملة ايتل عدنان، والناقد ومؤسس متحف «مقام» سيزار نمور. والكاتب الناشط لقمان سليم الذي قتل غدراً تاركاً وراءه مؤسسة «أمم» الثقافية التي تعمل على استمراريتها شقيقته الأديبة والناشرة رشا الأمير.
لم يكن العام بهيجاً، رغم ذلك فإن ما أنجز هو فعل مقاومة واستبسال، ما يجعل العاملين وراء كل كتاب أو فيلم أو مسرحية أو معرض، جزءاً من حركة إعادة ضخ الأمل في عصب بيروت. فرغم كل شيء، ستظل «المختبر الفعلي الثقافي والفني للمنطقة العربية»، بحسب الدراسة المهمة التي صدرت بالتعاون بين «المورد الثقافي» و«المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، وحررتها حنان الحاج علي وناديا فون مالتسان، تحت عنوان «نظرة حول السياسات الثقافية في لبنان».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.