«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

ترصد حكايات مؤلمة عن تعرضهم للاغتصاب والتعذيب والاتجار بأعضائهم

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
TT

«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)

في قرية كفر أبو نجم بدلتا مصر، كان شبح الموت يخيم على كل الأنحاء، فالأخبار الواردة من ليبيا مُغلفة برائحة الدم، والجميع يتلمس في ذعر أي نبأ عن الشبان، الذين سافروا سراً قصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ابتلعهم البحر المتوسط أمام ساحل مدينة الزاوية (غرب).
ومع مرور أيام قليلة غلب عليها اليأس والقهر، بدت الأوضاع على الجانب الآخر قاتمة ومريعة، فبعض الذين نجوا من الغرق «يُعذبون بأعواد من حديد، ويكتوون بالنار» في معسكر «بئر الغنم» لتجميع المهاجرين غير النظاميين، الواقع جنوب غربي العاصمة طرابلس.
هذه الفاجعة، التي ستتكشف تفاصيلها فيما بعد، مجرد نموذج مصغر لعشرات الجرائم التي يتعرض لها المهاجرون، الذين يتسربون داخل ليبيا عبر الصحراء المترامية، قادمين إليها من مسارات وعواصم مختلفة. البعض منهم يُقضى غرقاً، أو يصل إلى «الفردوس الأوروبي»، وإما يُغيب داخل سجون، و«كمبوهات» (عنابر ضيقة مسقوفة بألواح الخشب ورقائق الصاج) تابعة لعصابات التهريب، منتظرين مصيراً غامضاً، ربما يكون أسوأ من الموت بين طيات أمواج البحر.
ومسارات التهريب جميعها تتحكم فيها مافيا كبيرة، متشعبة محلياً وإقليمياً، وتصب داخل الحدود الليبية، ومنها إلى مدن غرب البلاد، مُطلة على ساحل البحر الأبيض، مثل صبراتة وزوارة والزاوية والقرة بوللي، إذ إن القادم من مصر والسودان والصومال قد يلتقي مع من جاء عبر تشاد والنيجر، ويلحق بهم القادم من غانا وساحل العاج، وجميعهم يظلون منذ خروجهم من ديارهم في عهدة «السمسار»، الذي يسلك بهم الدروب الوعرة إلى أن يستقروا في ليبيا، بعيداً عن أعين السلطات الأمنية. لكن إذا وقعوا في قبضة العصابات المتاجرة بالبشر، فالأمر قد يختلف كلياً لأنهم سيكونون حينها في حُكم الأموات، إذ إن كل شيء لدى هذه (المافيا) له ثمن... الحياة، وحتى دخول المرحاض، و«شربة الماء»، التي قد تضطر بعض النساء لدفع ثمنها من شرفهن، أو يتجرعن مياهاً ملوثة، لأن هناك يُجرى الاستثمار في «اللحم الحي» للمهاجرين.
وقائع هذا التحقيق جرت بين محافظات بدلتا مصر، ومناطق ليبية عدة، بقصد توثيق عملية تهريب البشر والمتاجرة فيهم، وكيف يقعون «كورقة رابحة» في قبضة ثنائي (المافيا) و(السماسرة)، ليتم المقايضة بهم، قبل أن ينالوا في أغلب الأحيان قسطاً وافراً من العذاب، والتغييب لأشهر عدة في الأقبية المجهولة و«الكمبوهات» السرية.
«الشرق الأوسط» رصدت جانبا من قصص تعذيب دامية تُرتكب داخل معسكرات للهجرة غير النظامية، تبدأ بضرب المهاجرين بالسياط والمواسير الحديدية، وتنتهي بحرق أجسادهم بالنار لإجبار أسرهم على دفع الفدية المطلوبة لإطلاق سراحهم، وقد يتطور الأمر فيخضعون للتخدير وانتزاع أعضائهم البشرية وبيعها حسب الطلب؛ وبعض هذه الجرائم يُرتكب داخل مقار رسمية للاحتجاز بطرابلس، من بينها غوط الشعال، والبعض الآخر يتم في معسكرات تشرف عليها مجموعات مسلحة، أو بمخازن سرية يُكدسون فيها انتظاراً لساعة التنفيذ.

صورة نشرها النائب العام الليبي لمهاجرين تعرضوا للتعذيب (الشرق الأوسط)

مأتم أبناء العم

كانت حرارة شهر يوليو (تموز) في مصر قد تجاوزت الأربعين درجة مئوية بقليل، وابنا العم حسن صلاح عطية (30 عاما)، وحسين حاتم عطية (19 عاماً)، يقطعان قرابة (750 كيلومتراً)، في أولى خطوات تحقيق حلمهما بالسفر إلى «الجنة الأوروبية الموعودة»، من قرية أبو نجم بمحافظة الشرقية، إلى مدينة السلوم، القريبة من الحدود الغربية مع ليبيا، ولا يحملان معهما سوى قليل من الزاد والملابس وبعض النقود.
هناك على جانبي طريق صحراوي، التقيا مع مصريين آخرين، حيث سلك بهم «سمسار الرحلة» المأجور طرقاً ودروباً لمدة خمسة أيام، تنقلوا خلالها من حافلة إلى أخرى، ومن مخزن لآخر، حتى انتهت مهمته معهم عند دخولهم الحدود الليبية. ومن هذه النقطة بدأت رحلة «شاقة محفوفة بالمخاطر والأهوال»، روتها لنا نورا سليم، ابنة عم حسن وحسين.
أخبرتنا نورا، ابنة الثلاثين ربيعا، أن ابني عميها أرادا تحسين نمط عيش أسرتيهما، كباقي أبناء كفر أبو نجم وقرى مجاورة أخرى في الشرقية عبر السفر إلى إيطاليا: «وصل إيطاليا مصريون كثيرون وهم يعملون الآن، وأصبحت أوضاع أسرهم جيدة». وأضافت بنبرة حزينة: «عائلتي تعيش حالياً أياماً قاسية؛ وتندم على ما حدث. فبعد تلقي أول اتصال هاتفي من حسن وحسين نهاية أغسطس (آب) الماضي، علمنا من مصريين في غرب ليبيا أن القارب الذي كان يقلهما مع آخرين انقلب في البحر، وغرقوا جميعهم، فأقمنا لهما مأتماً وتلقينا العزاء».
ومع حالة الحزن التي سادت قرية كفر أبو نجم لموت حسين وابن عمه حسن، الذي ترك وراءه طفلاً رضيعاً، بقي لدى أسرتيهما أمل في أن يكونا لا يزالان على قيد الحياة.
ووفقاً لبيانات وزارة الداخلية بحكومة «الوحدة الوطنية» الليبية، يوجد في جميع أنحاء البلاد أكثر من 575 ألف مهاجر غير نظامي، بينهم 6200 يحتجزون في مراكز للإيواء، يديرها جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية التابع للوزارة.

عصابة «الحاج حكيم»

المصير الغامض لابني العم حسن وحسين، ينطبق على آلاف المهاجرين غير النظاميين من جنسيات عربية وأفريقية عديدة، ممن يقعون في قبضة الميليشيات وعصابات المتاجرة بالبشر، فيتعرضون للتعذيب النفسي والبدني، والاعتداء الجنسي والسخرة بقصد ابتزاز أسرهم.
من بين هذه «العصابات الإجرامية»، هناك عصابة يتزعمها شخص يعرف بـ«الحاج حكيم»، تورط في خطف مجموعة من المهاجرين المصريين، وإنزال صنوف العذاب بهم، وصور «جريمته» بالفيديو لحمل ذويهم على دفع ما يطلبه من أموال. وقد أظهرت تحقيقات النيابة العامة الليبية لاحقاً أن «الحاج حكيم» يمتهن الاتجار بالبشر عبر دول مختلفة، وأنه تولى في الآونة الأخيرة تنسيق عمليات الهجرة غير المشروعة، عبر إدارة منظمة تمارس نشاطها تحت سيطرته في الداخل، ولها ارتباط مع شبكات أخرى تعمل لصالحه بدول الجوار.
ومن بين الحوادث، التي تُوصف بكونها «الأكثر دموية»، حادثة تصفية 21 مهاجراً غير نظامي من بنغلاديش في بلدة مزدة (جنوب غربي العاصمة)، على يد مواطن ليبي، كان يُكدسهم داخل مخزن تمهيداً لبيعهم، وقرر أن يُخمد غضبهم فأمطرهم بوابل من الرصاص.
وتشير بيانات صادرة عن هيئات معنية بالملف، منها «المنظمة الدولية للهجرة»، و«المفوضية السامية لحقوق الإنسان» إلى تعرض آلاف المهاجرين لعمليات تعذيب واسعة. وسبق لمديرية أمن طبرق (شرق) العثور على ثلاثة مصريين بمنطقة باب الزيتون، بدت عليهم آثار تعذيب شديد، وفارق أحدهم الحياة بعد نقلهم إلى مركز طبرق الطبي. وقالت المعلومات الأمنية، حينها، إنهم كانوا محتجزين في أحد المخازن المخصصة لتهريب الهجرة غير المشروعة، وحرموا الطعام، وتعرضوا للضرب من طرف عناصر هذه العصابة.
وتمكنت الشرطة وعناصر «الجيش الوطني» الليبي من تحرير 900 مصري، الأسبوع الماضي، وقالت الأجهزة الأمنية بشرق ليبيا وقتها إن عصابات التهريب احتجزتهم في مزرعة بمنطقة «بئر الأشهب» (74 كيلومتراً شرق طبرق)، بقصد مساومة ذويهم على دفع الأموال.

محمد صحبة والده بعد وصوله إلى مصر (الشرق الأوسط)

تعذيب في (بئر الغنم)

التعذيب لدى الميليشيات وعصابات الهجرة لم يستثن أحداً من المهاجرين، غير أن ما يحدث في مركز «بئر الغنم» من «جرائم»، نقلتها شهادات الفارين والمعتقلين في حديثهم إلى «الشرق الأوسط»، كشف عن أعمال «تعذيب وحشية ممنهجة»، وهو ما دفع حسين أبو العز، الذي يعمل معلماً للغة الإنجليزية في أحد المدارس المصرية، إلى اتهام صلاح القديري، مدير المركز، بالإشراف على تعذيب نجله محمد، بمساعدة شخصين ليبيين، يعرف الأول بـ«الهربا السفاح»، والآخر يدعى محمد الفلاح.
«الشرق الأوسط» واجهت عبر اتصالات هاتفية الأشخاص الثلاثة، الذين اتهمهم والد الضحية بتعذيب ابنه؛ غير أنهم نفوا الأمر، وأكدوا أنهم «يعاملون المحتجزين بشكل جيد».
ومحمد، الذي يدرس في كلية التجارة بجامعة المنصورة، كان من بين عشرات المهاجرين المُنتمين لقرية تلبانة بمحافظة الدقهلية (شمال مصر)، الذين تسللوا إلى ليبيا بقصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ألقي عليهم القبض، فنُقلوا بين سجون ومراكز عدة، من بينها غوط الشعال في طرابلس، إلى أن انتهى بهم المطاف في «بئر الغنم»، الذي يضم أكثر من ألف مهاجر.
وهرب من غوط الشعال أربعة آلاف مهاجر من جنسيات مختلفة إلى شوارع العاصمة، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانوا يحشرون في زنازين ضيقة وفي ظروف غير صحية، لكن قوات الأمن قالت إنها استعادت نحو ألفين منهم، والباقون إما ينامون في الشوارع، أو تتلقفهم عصابات التهريب.
وروى الشاب المصري، الذي سافر إلى ليبيا مطلع أغسطس الماضي، بحثاً عن مستقبل أفضل، أنه «تعرض للتعذيب بقسوة طيلة ثلاثة أشهر، قبل أن يتمكن والده من دفع 50 ألف جنيه (قرابة 3800 دولار) لأحد «السماسرة»، قصد تسهيل هروبه من المركز، بالإضافة إلى تسديد سبعة آلاف جنيه أخرى مقابل توصيله إلى قرب السلوم.
وترصد منظمة «العفو الدولية» تعرض المهاجرين في بعض مراكز الإيواء بعموم ليبيا لانتهاكات جسيمة، فضلاً عن تعرض المهاجرات المحتجزات في معسكرات الاعتقال للعنف الجنسي المروع على يد حراسه، مقابل الحصول على الطعام والمياه النظيفة، وهو ما يدفع المنظمة الدولية للهجرة لرفض إعادة أي مهاجر من البحر إلى ليبيا.
ونقلت «العفو الدولية» في تقرير لها، أصدرته في يوليو الماضي، عن عدة نساء سيدات أن «حراس معسكرات للمهاجرين يغتصبون النساء، ويجبروهن على ممارسة الجنس مقابل إطلاق سراحهن، أو حصولهن على الماء النظيف».
وروى محمد لـ«الشرق الأوسط» ما شاهده من «وحشية ترتكب مع المحتجزين» في مركز «بئر الغنم» قائلا: «كان الحراس يعذبوننا يومياً بشكل مهين، وهم يدخنون الحشيش، ويتناولون البوخة (هو مشروب مُسكر محلي الصنع)، وكنا نُضرب بأعواد الحديد، ويشرف على تعذيبنا القديري ومعه (الهِربا) والفلاح؛ ومن يشعر منا بألم أو يمرض ليس أمامه إلا انتظار الموت، لأنه لا وجود لأطباء أو علاج».
وبخصوص تكدس المعتقلين في أربعة عنابر ضيقة مع ارتفاع درجة حرارة الصيف، قال محمد: «عنبرنا كان يضم 450 شخصاً، وكان الجو حاراً جداً، مع قلة المياه والمراحيض، وكانوا يمنعوننا من الاستحمام مما سهل انتشار الأمراض الجلدية المُعدية».
وفي ظل حصص التعذيب اليومية، تحدث محمد أيضا عن حرمان المهاجرين من الطعام قائلا: «كان الأكل شحيحاً جداً لا يكاد يكفينا، والجوع يلازمنا دائماً. كنا نحصل على وجبتين فقط في اليوم لا تكفيان لسد جوعنا، وكان كل أربعة أشخاص يتناولون طبق مكرونة صغيرا، وكان يحلو للسجانين إسماعنا من وقت إلى آخر أقذع العبارات، ويخيفوننا بأننا لن نخرج من المعسكر إلا أمواتاً خصوصا المصريين».
ويشكل القادمون من بعض محافظات صعيد مصر ودلتاها العدد الأكبر من بين المهاجرين، الذين يتوافدون على ليبيا عبر الصحراء سراً، بحثاً عن «فرصة عمل»، أو أملاً في الفرار إلى «الفردوس الموعود».

الهروب بسيارة الشرطة

الملاحظة هنا أن مركز «بئر الغنم» يتبع رسمياً الشرطة الليبية، ومع ذلك كشف محمد لنا عن طريقة تهريبه، التي تمت بواسطة عناصر داخل المعسكر بقوله: «كل القائمين على المعسكر من ميليشيات وعناصر أمنية يبيعون المحتجزين سراً، ويتقاضون المُقابل كلما أتيحت لأحدهم الفرصة، دون معرفة باقي المسؤولين معهم بهذا الإجراء».
وأضاف محمد موضحا: «بعد أن دفع والدي في مصر المبلغ الذي حدده السمسار، أركبوني سيارة من عربات الشرطة المرصوصة داخل المعسكر، بعد رحلة عذاب استمرت ثلاثة أشهر تقريباً، جزء منها كان في مركز احتجاز غوط الشعال؛ ثم سلموني خارج البوابة الرئيسية لسيارة (تاكسي)، نقلتني بدورها إلى مكان بمدينة الزاوية (48 كيلومتراً غرب طرابلس)، ومن هناك ركبت سيارة أُجرة مع آخرين كانت في طريقها إلى مصر».
وبنبرة فرح لم تخل من ألم، أخبر حسين أبو العز، والد محمد، «الشرق الأوسط» بوصول نجله إلى منزله بمحافظة الدقهلية: «أخيراً استعدت ابني بعد ثلاثة أشهر. الحمد لله الذي نجاه من الجحيم. لكنه عاد إلي يائساً ومحطماً من قسوة التعذيب والإهانة، ومصاباً بأمراض جلدية نادرة؛ والمهم الآن سرعة الإفراج عن مسجون آخر من أبناء قرية تلبانة، يدعى نزيه سمارة (...) الوسيط يطلب 70 ألف جنيه»، وقال إن «السمسار»، الذي عمل على تهريب نجله، ينتمي إلى إحدى مدن جنوب مصر، ويقطن طرابلس.
وحصلت «الشرق الأوسط» على مقاطع «فيديو» من والد الضحية محمد، قال إنها من داخل المعسكر، وصورت عقب عملية تهريب بعض الضحايا.

المافيا والسمسار

هنا، تتكشف الحلقة المفقودة بين عمليات الخطف وتحرير الرهائن، وتكمن في الدور الذي يلعبه «السمسار» بالتوافق مع المتورطين في هذه الجرائم، والذي يؤكد دائماً على أنه «فاعل خير»، رغم أن واقعة الإفراج عن محمد كشفت ما يشبه علاقة (البيزنس) بينه وبين المسؤولين داخل مركز الاحتجاز.
«الشرق الأوسط» تواصلت عن طريق أسرة أحد المخطوفين في ليبيا مع أحد هؤلاء السماسرة، المقيم حالياً في حي الأندلس بطرابلس، الذي رفض الحديث معنا في بداية الأمر، لكنه دافع عن نفسه قائلا: «أنا أقدم خدمة لأهالي المخطوفين بالاطمئنان على أولادهم، والسعي للإفراج عنهم دون مقابل».
ورداً على اتهامه بـ«الاتجار في البشر»، قال السمسار: «لا. أنا أسعى لتخفيض المبالغ المطلوبة للإفراج عنهم، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار».
وحتى الآن، لا تزال أسرة نورا تتعرض للابتزاز من طرف «سماسرة» يطالبون بمبالغ مالية كبيرة، بحجة الإفراج عن ابني عميها، آخرهم انتحل صفة موظف كبير بالحكومة المصرية، لكن قبض عليه لاحقاً.
ومن «بئر الغنم»، وهو اسم لبلدة صغيرة كانت مسرحاً لمعارك «ثورة 17 فبراير» عام 2011 إلى الصحراء حيث الجريمة، التي شهدتها الحدود بين ليبيا والسودان، وذلك عندما أقدمت شبكة لتهريب المهاجرين على نقل 28 مهاجراً من السودان إلى الحدود الليبية، مقابل مبالغ مالية؛ لكنها تخلت عن 14 منهم وسط الصحراء، دون زاد أو وسائل لنقلهم، ما أدى لموت ستة مهاجرين، بينما تاه الباقون في الصحراء.
غير أن القضية أصبحت قيد التحقيق من النيابة العامة الليبية حالياً، بعدما قبضت أجهزة الشرطة على عناصر الشبكة، وتم حبسهم احتياطياً.
وتقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إن قرابة خمسة آلاف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لديها، منهم نحو 45 في المائة رجالاً، و22 في المائة نساءً، و33 في المائة أطفالاً. كما سجلت المنظمة الدولية للهجرة إنقاذ 969 مهاجراً من الغرق في الفترة الممتدة من 19 إلى 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021، وأعادتهم إلى مراكز الإيواء ثانية.

أعضاء بشرية للبيع

تسرب المهاجرين داخل ليبيا عبر الحدود المترامية بدا الآن أنه يصُب في صالح شرائح عديدة، بداية من الميليشيات والعصابات الممتهنة للتهريب، وصولاً لبعض القبائل بجنوب البلاد، التي تواجه اتهامات بالاستفادة من الفوضى، التي ضربت ليبيا طوال عقد مضى، والتربح من تهريب البشر والسلاح والمخدرات والوقود أيضاً.
لكن المثير في الأمر هو أن هذه التجارة فتحت باباً شرهاً آخر للاستثمار الحرام، يتمثل في قتل مهاجرين أفارقة، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة أطباء اختصاصيين، وبيعها بمبالغ طائلة.
مصادر قضائية ليبية أطلعت «الشرق الأوسط» على جانب من التحقيقات الجارية مع وافد صومالي، يدعى حسن قيدي، متهم بـ«قتل عشرات المهاجرين، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة شبكة يقودها تمتهن تهريب المهاجرين والاتجار فيهم وبيع أعضائهم البشرية». بالإضافة إلى اتهامه بـ«اغتصاب عدد من المهاجرات تحت تهديد السلاح، بعد خطفهن وإخفائهن في مخازن سرية لإرغام عائلاتهن على دفع الفدية نظير إطلاق سراحهن».
ولاحقاً تطرق النائب العام، الصديق الصور، إلى هذه الجريمة خلال لقائه مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2021 مع وزيرة العدل، حليمة إبراهيم، وبعض القيادات، وقال إن التحقيقات الجارية بمعرفة النيابة العامة كشفت أن «شبكات الجريمة المنظمة استفادت من غياب سلطات الدولة؛ فارتكبت جرائم الاتجار بالبشر، وقتل مهاجرين والاتجار بأعضائهم البشرية».
الناشط المدني الليبي عبد الحميد الوافي، المهتم بملف المهاجرين والنازحين، أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «جرائم الاتجار في الأعضاء البشرية للمهاجرين نشطت إلى حد كبير بعد عام 2011، وخاصة في مناطق غرب البلاد»، وتحدث عن «وجود عصابات تتخفى في صورة عمال يستدرجون ضحاياهم إلى أماكن سرية، وفي وقت ما، كان يتم ذلك في غابات قصر خيار(شرق العاصمة بنحو 80 كيلومتراً تقريباً)، «وهناك كانت تجرى عمليات جراحية للمخطوفين، وتنتزع أعضاؤهم البشرية، قبل أن يُلقى بهم في البحر». وفق قوله.
ويبرهن الوافي على ذلك بعثور بعض المواطنين، والأجهزة المحلية في وقت سابق على جثث لمهاجرين ممزقة إلى أشلاء، لكن عندما توجهنا بالسؤال إلى وزارة الداخلية الليبية عن هذه الجرائم قال لنا مسؤول أمني رفيع إن «كل ما يتعلق بهذه القضايا من معلومات لدى النائب العام، ومن الأفضل الذهاب إلى النيابة العامة»، لكن الأخيرة قالت إن «القضية رهن التحقيق».
ومن وقت لآخر تعثر الدوريات الأمنية عن جثث متحللة لمهاجرين في الصحراء الليبية. وقد شهدت ليبيا تزايدا ملحوظاً في تدفق أعداد المهاجرين باتجاه الشواطئ الأوروبية، في ظل ما تشهده البلاد من هدوء نسبي راهناً، لكن قوات خفر السواحل المحلية، والسفن الأوروبية العاملة على إنقاذ المهاجرين تعيدهم إلى ليبيا.
ويخلو حديث جُل المسؤولين الليبيين من تحمل أي مسؤولية تجاه ما يقع من جرائم تنكيل بحق المهاجرين، وبهذا الخصوص قال العميد المبروك عبد الحفيظ، مدير جهاز الهجرة غير المشروعة، إن بلاده «باتت ضحية، وتُركت وحيدة في مواجهة هذه القضية، التي عجزت عن معالجتها دول العالم».
كآبة أيام الانتظار تمر على أسر المخطوفين، الذين يستغيثون في ليبيا، ثقيلة، إلا أن الأنباء الواردة من معسكر «بئر الغنم» حملت خبراً ساراً لقرية كفر أبو نجم، اختلطت معه مشاعر الحزن والقهر مع دموع الفرح وحالة الترقب. فقد أبلغت نورا «الشرق الأوسط» أنه بعد ثلاثة أشهر من احتساب قريبيها في عِداد الموتى، أخبر أحد الناجين أسرتها أنهما كانا مسجونين معه في «بئر الغنم»؛ وتمكن هو من الهرب، بعدما اصطحبه أحد قيادات المركز الأمنية إلى منزله لذبح أضحية العيد الماضي، لكنهم حتى الآن لا يعلمون عنهما شيئا، وينتظرون تحرك السلطات المصرية لاستعادتهما.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.

عاجل «إف.بي.آي» يحبط خطة إيرانية لاستئجار قاتل لاغتيال ترمب (أسوشييتد برس)