مصر تسعى لتسجيل قرية حسن فتحي في قائمة تراث «يونيسكو»

في الذكرى الـ70 لإنشائها

القرية تعاني من زحف المباني الخرسانية (الشرق الأوسط)
القرية تعاني من زحف المباني الخرسانية (الشرق الأوسط)
TT

مصر تسعى لتسجيل قرية حسن فتحي في قائمة تراث «يونيسكو»

القرية تعاني من زحف المباني الخرسانية (الشرق الأوسط)
القرية تعاني من زحف المباني الخرسانية (الشرق الأوسط)

بعد مرور 70 عاماً على إنشائها، بدأت قرية حسن فتحي تستعيد جزءاً من رونقها الذي كاد يضيع بفعل عوامل الزمن، حيث هُدم ودُمِّر كثير من مبانيها وملامحها، لتختلط «عمارة الفقراء التراثية» ومبانيها الطينية بمباني من الإسمنت المسلح. وتسعى مصر حالياً لإيجاد حلول للتعامل معها، وإضفاء الطابع التراثي عليها، في إطار مشروع متكامل لتطوير وترميم القرية، الذي افتُتحت المرحلة الأولى منه أخيراً، وتعكف وزارة الثقافة المصرية على إعداد الملف الخاص بتسجيل قرية حسن فتحي التراثية، ضمن قائمة التراث المادي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو).
«إعادة إحياء قرية حسن فتحي، مؤسس مدرسة عمارة الفقراء في مصر والعالم، تعد حدثاً عالمياً يعكس مظاهر قوة مصر الناعمة، وتعبّر عن أحد محاور استراتيجية عمل وزارة الثقافة في الحفاظ على التراث، من خلال التعاون مع اليونيسكو لترميم وتطوير ذلك النموذج المعماري الفريد لتعود القرية مصدراً للإشعاع الفني والإبداعي»، حسب تصريحات الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة المصرية، في كلمتها في أثناء افتتاح القرية، والتي أعلنت خلالها تكليف المهندس محمد أبو سعدة، رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، «بإعداد ملف عن قرية حسن فتحي للتسجيل على قائمة التراث المادي باليونيسكو».
وشملت المرحلة الأولى من مشروع ترميم قرية حسن فتحي التي أُنشئت سنة 1945، الخان والمسجد والمسرح وقصر الثقافة، وفق أبو سعدة، الذي أوضح في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أنّ «القرية كان بها الكثير من المشكلات بسبب مرور الزمن وهو ما استدعى التدخل لترميمها بوصفها مسجَّلة على قائمة التراث المعماري في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري».
وحسب أبو سعدة فإن منظمة اليونيسكو تَعُدّ القرية من العمارة التقليدية التي تعد جزءاً من العمارة الحديثة، ومن هنا جاءت المطالبة بتسجيل القرية على قائمة التراث المادي باليونيسكو، مشيراً إلى أنّ «الجهاز سيبدأ بالتعاون مع اليونيسكو الإعداد لملف توثيق وتسجيل القرية، خصوصاً أن اليونيسكو كانت شريكاً أساسياً في مشروع تطوير وترميم القرية».
المهندس المعماري حسن فتحي بدأ تصميم وإنشاء القرية في المنطقة التي تُعرف باسم القرنة الجديدة عام 1945، لاستيعاب 7 آلاف من سكان قرية القرنة القديمة التي تعلو مبانيها مقابر أثرية في منطقة البر الغربي بالأقصر، لإنقاذ هذه المقابر من التعديات والسرقات.
وحققت قرية حسن فتحي شهرة عالمية بعد كتاب «عمارة الفقراء» الذي ألّفه فتحي وكتب فيه عن هذا النموذج من العمارة البيئية بمواد بسيطة، حيث ذكر في كتابه أن «القرنة بالنسبة له تجربة ومثال معاً«، معرباً عن أمله أن تكون نموذجاً لإعادة بناء الريف المصري.
ويعد افتتاح المرحلة الأولى حلماً طال انتظاره للمهتمين بالتراث، حسب الدكتور فكري حسن، مدير برنامج التراث في الجامعة الفرنسية وأستاذ الآثار في جامعة لندن، الذي أكد في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أنّ «مشروع الترميم الذي كان مقرراً له أن يُنفَّذ في 2010 لم يبدأ فعلياً إلا في عام 2019»، مؤكداً أنّ «الأهم من الترميم إعادة استخدام المباني وتحويل الخان لمركز للصناعات الحرفية مع ربطها بالتصميمات الحديثة لتحقيق استفادة الأهالي وتوفير دخل لهم».
ويعود الاهتمام بالقرية إلى عام 2009 عندما بدأت اليونيسكو مشروعاً بالتعاون مع وزارة الثقافة لتطويرها، وأجرت دراسة على القرية عام 2010 رصدت فيه 59 مبنى من عمارة حسن فتحي لا تزال موجودة بالقرية من أصل 70 مبنى، 61% منها من المستحيل استعادة تصميمها الأصلي، بينما 15% أي 9 مبانٍ ما زالت محتفظة بتصميمها الأساسي»، وبدأت اليونيسكو مع وزارة الثقافة مشروعاً لترميم وتطوير القرية عام 2010 توقف بسبب الثورة في عام 2011 قبل أن يعلن من جديد عن مشروع لتطويرها عام 2015.
وينتظر أهالي القرية ترميم باقي المباني، وأشار فكري إلى أنّه «لا توجد خطة واضحة عن مستقبل باقي مباني القرية ومن بينها مبنيان مسكونان، وسبعة مبانٍ متهدمة ومنزل حسن فتحي نفسه، والسوق، إضافةً إلى الطرق ومعالجة الصرف الصحي بالقرية»، لافتاً إلى أنّ «هناك 4 مبانٍ رُممت من المجتمع المدني»، مشدداً على ضرورة «تحويل المنطقة إلى مركز معماري عالمي».
لكن أبو سعدة أكد أنّ «المرحلة الثانية ستشمل معالجة المحيط العمراني للقرية، وترميم 17 منزلاً من بينها منزل حسن فتحي نفسه، إضافة إلى إيجاد حلول للمباني الحديثة التي بُنيت بجوار مباني حسن فتحي للحفاظ على روح القرية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)