رحيل الساخر ريمون جبارة «صانع الأحلام» ورفيق المهمشين

يوارى الثرى عن 80 عامًا غدًا بعد 5 عقود من معانقة المسرح

ريمون جبارة
ريمون جبارة
TT

رحيل الساخر ريمون جبارة «صانع الأحلام» ورفيق المهمشين

ريمون جبارة
ريمون جبارة

يوارى المخرج والكاتب والممثل المسرحي اللبناني ريمون جبارة الثرى غدًا، طاويًا معه جزءًا من تاريخ المسرح اللبناني الحديث في نهضته الثانية بكل عنفوانها وحيويتها النابضة بالتغيير والتمرد.
ثمانون عامًا، لم تكن سهلة على الرجل الذي رفض أن تكون الخشبة غير امتداد صادق لمعاناته، بكل ما حملته له من ظلم وفقر وإجحاف، استحق منه سخرية سوداء، وعبثية مريرة. من منزله البائس الذي عاش تحت سقفه المعدني الذي بالكاد يحمي رؤوس ساكنيه من الزمهرير والقيظ في «قرنة شهوان»، إلى مستشفى بحنس التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة، رحلة شاقة وجبارة ومثيرة في وقت واحد. هو ابن الحركة المسرحية اللبنانية في عزها، منذ ستينات القرن الماضي، وأحد صناعها والمشاركين فيها، والنشطين ثقافيًا، والمؤثرين أكاديميًا من خلال تعليمه في «معهد الفنون» في «الجامعة اللبنانية»، وجامعة «سيدة اللويزة».
ابن موظف حكومي بسيط وكادح، لكنه تعلم في مدرسة الحكمة، وعشق المسرح منذ كان صغيرًا، حيث لعب أول أدواره في قرنة شهوان التي ولد فيها، في منطقة المتن عام 1935، تحت إشراف مختار القرية. لكن المسرح، كما يقول، بقي مثل «الحب المحرم» الذي يمارسه في «الخفاء». أصيب بالملاريا صغيرًا ولم يشف منها إلا في الخامسة عشرة من عمره. بعد ثلاث سنوات قرر الهجرة إلى البرازيل للعمل عند أحد أقاربه في سان بولو، لكنه لم يصمد هناك أكثر من شهرين، وعاد، كما يقول، منكسرًا كما لم يعرف من قبل معنى الانكسار، ليعيد النظر بكل ما كان حوله، وليبدأ رحلة مع الكتابة التي لم تكن يومًا جزءًا من حساباته.
كانت بدايته الحقيقة مع المسرح حين عاد منير أبو دبس إلى لبنان من فرنسا، راغبًا في تأسيس فرقة مسرحية، فاجتمع حوله ريمون جبارة، وأنطوان ولطيفة ملتقى ورضى خوري وأنطوان كرباج وميشال نبعة. ومع تأسيس «معهد التمثيل الحديث» التابع للجنة «مهرجانات بعلبك» فتحت الأبواب أمام هؤلاء الرواد، وبينهم جبارة، ليس فقط في لبنان؛ وإنما خارجه أيضًا.
ريمون جبارة، بدأ ممثلاً في أعمال طموحة، فقد لعب دور «إجيست» في مسرحية «الذباب» لسارتر، ودور «كريون» في مسرحية «أنتيغون»، و«ديب» في مسرحية «لعبة الختيار»، و«سعدون» في «الزنزلخت» من كتابة عصام محفوظ وإخراج برج فازليان.
تجربة الفرق المسرحية استهوته، فأسس فرقة «المسرح الحر» مع برج فازليان ومادونا غازي وآخرين، قبل أن يقرر الانتقال إلى الكتابة والإخراج معا عام 1970 متسلحًا بتجاربه التي قطفها مع كبار المسرحيين في ذلك الوقت. وكانت بواكير مسرحياته «لتمت دسدمونة»، التي نهلت من المسرح الإغريقي وشكلت أحد الأعمال الطليعية وقتها. ورغم أن المسرحية لم تجد صدى شعبيًا يذكر، فإنها استقبلت بحفاوة كبيرة من المثقفين، وأسالت حبرًا كثيرًا، ووصفت بأنها «مختلفة» و«لا تشبه غيرها من الأعمال».
هكذا بدأ ريمون جبارة يشق طريقه إلى الكتابة والإخراج؛ حيث استطاع أن يضع على الخشبة ما يقارب 15 مسرحية، وهو المؤمن أن الأدب لا يصلح لوضعه على المسرح، بل هو شيء آخر. لذلك كتب ما يليق بنبض المسرح، وما يخاطب روح المتفرج، مبتعدًا في أعماله كليًا عن المباشرة والتعليمية والنصح المقيت. هازئا، ساخرا، سوداويا، ما بين فقر الطفولة والمرض، ومن ثم معاناة الحرب والخراب، وحساسيته الشديدة للطبقية الاجتماعية، بدا جبارة قادرًا على ابتكار عالم قاس، جارح، يأخذ المتفرج إلى حافة الاستفزاز الموجع، بأسلوب نقدي ينتزع الابتسامة انتزاعًا.
بقدر ما يحب ريمون جبارة الشكوى والتململ، والتعبير عن الحيرة، والحالات الكابوسية، لا بد من الاعتراف بأنه كان محظوظًا فنيًا منذ مسرحيته الأولى؛ حيث عرضت على «مسرح بعلبك»، المكان الذي يتمنى الوصول إليه كثيرون ولا يحققون مرادهم. في بعلبك أيضا عرض «تحت رعاية زكور» كما كانت له صولات وجولات على «مسرح كازينو لبنان» حيث عرض «قندلفت يصعد إلى السماء» و«ذكر النحل» و«شربل». كان محظوظًا أيضا حيث تمكن من السفر والعرض في بلدان كثيرة، ومثل لبنان في مهرجانات مختلفة منها «مهرجان شيراز» في إيران في سبعينات القرن الماضي، ونال جوائز كثيرة تقديرًا لإبداعاته.
عشق لعبة المسرح داخل المسرح، واللعب على التناقضات، وتوليف الإيقاعات، والاعتماد على الصراع جوهرا لأعماله. لم يؤمن يومًا أن مخاطبة المشاعر الفياضة هي وحدها التي تشكل العمل الجيد، بل إدخال المتفرج في خضم معركة إنسانية تتصارع فيها الإرادات والنزعات، وتتولد الانفعالات الممزوجة بالأمل والخيبة واللامبالاة أحيانا. شكسبيري على طريقته اللبنانية، رغم أنه بقي طوال حياته عاتبًا على هذا اللبنان، متشكيًا أنه ولد في هذا المكان بالذات الذي لم يتمكن من هجره أو التخلي عنه. ومع ذلك مات ريمون جبارة راضيًا، قانعًا، عالمًا بأنه بلغ ما أراد، وأن المسرح اللبناني سيبقى يتذكر «صانع الأحلام» التي نالت جوائز في مهرجانات عربية وحظيت بتقدير النقاد، و«من قطف زهرة الخريف» و«جرائد وأناشيد»، وأن حبه للتفاصيل، وقدرته على اكتناه الأغوار بعمق ومرارة شديدين، تركت أثرًا لا يمحى في متفرجيه وطلابه.
عين مديرًا عامًا ورئيسًا لمجلس إدارة «تلفزيون لبنان» بين عامي 1987 و1990، غرق في العمل الإداري وأصيب بعارض صحي.
منذ التسعينات، أعاد تقديم مسرحيات، مثل «من قطف زهرة الخريف» و«زردشت صار كلبًا»، و«شربل» مع ممثلين جدد، مما أرجعه إلى الخشبة وأتاح الفرصة للجيل الشاب للتعرف على أحد رواد المسرح الحاذقين. كما قدم «بيكنيك عَ خطوط التماس» عام 1997. أما آخر ما شاهده محبوه على المسرح فهي «مقتل إن وأخواتها» عام 2012.
لم يهجر ريمون جبارة المسرح ولا الحياة الثقافية، حتى بعد أن أصابه شلل نصفي في تسعينات القرن الماضي، بقي يجوب المسارح على كرسيه المتحرك، وسيجارته في فمه، ليتابع كل مستجد، مصرًا على الاستمرار، عزيمته شدته لاستعادة أعمال وكتابة أخرى.. حبه للكتابة بقي يقظًا، وظلت روحه الساخرة في مقالاته التي واظب على نشرها في «ملحق النهار» وفي برنامجه «ألو ستي» عبر إذاعة صوت لبنان.
رحل رفيق المهمشين، صديق الضعفاء، المتمرد على كل أنواع السلطة، والمحارب للقمع، وبقيت لنا منه بريختيته، وخشبته المتقشفة الممتلئة بمناخاتها الجريئة والشاعرية في آن.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».