المدينة القديمة في العاصمة الليبية طرابلس تقاوم تبعات الحرب

بعد تراجع المبيعات وانحسار الحماية الرسمية لمعالمها التاريخية

مقهى كازا في وسط المدينة القديمة (أ.ف.ب)  -  صناعة النحاس في المدينة القديمة (أ.ف.ب)
مقهى كازا في وسط المدينة القديمة (أ.ف.ب) - صناعة النحاس في المدينة القديمة (أ.ف.ب)
TT

المدينة القديمة في العاصمة الليبية طرابلس تقاوم تبعات الحرب

مقهى كازا في وسط المدينة القديمة (أ.ف.ب)  -  صناعة النحاس في المدينة القديمة (أ.ف.ب)
مقهى كازا في وسط المدينة القديمة (أ.ف.ب) - صناعة النحاس في المدينة القديمة (أ.ف.ب)

يحني عبد الوهاب ظهره وهو يجلس على كرسي خشبي عتيق، مثبتا نظره على مطرقة يدق بها قطعة من النحاس في المدينة القديمة للعاصمة الليبية، التي تحاول تخطي تبعات الحرب مع تراجع المبيعات وانحسار الحماية الرسمية لمعالمها التاريخية.
يواصل عبد الوهاب السعودي عمله لساعتين، ويرفع قاعدة هلال برونزية يدقق في تفاصيلها للحظات ويضعها جانبا، ثم يأخذ قطعة جديدة من النحاس، يبدأ معها ساعتين جديدتين من العمل.
ويقول عبد الوهاب لوكالة الصحافة الفرنسية: «ليس هناك من مبيعات حاليا. نحن نصنع ونخزن فقط». وعلى مقربة من عبد الوهاب جلس مختار رمضان أمام محل صديق له ينتظر الزبائن، وقال: «نعاني من مشكلات كثيرة، فالمادة الخام مفقودة بعدما أصبحت طرق وصولها إلينا صعبة، والحركة من ناحية المبيعات تراجعت بعدما انعدمت السياحة، واليد العاملة الأجنبية وبينها المصرية غادرت». وأضاف: «لا أبيع سوى 15 في المائة مما كنت أبيعه قبل 2011. لكن لا يمكن أن أغلق المحل الذي ورثته عن أجدادي في مهنة تمارسها عائلتي منذ 150 عاما. نحن باقون هنا لحماية هذه الصناعة وراضون بنصيبنا».
وشهدت طرابلس الصيف الماضي معارك عنيفة بين جماعات مسلحة انتهت بسيطرة قوات «فجر ليبيا» التي تضم خليطا متحالفا من هذه الجماعات بينها مجموعات إسلامية على العاصمة في أغسطس (آب).
وانقسمت ليبيا مع انتهاء المعارك بين سلطتين، حكومة يعترف بها المجتمع الدولي وتتخذ من شرق البلاد مقرا بها، وحكومة مناوئة لها تبسط سيطرتها السياسية على العاصمة بمساندة «فجر ليبيا».
وترخي الحرب المستمرة بين القوات الموالية للسلطتين بظلالها على اقتصاد البلاد، وتطال تبعاتها المدينة القديمة في شمال طرابلس التي تزخر بالأسواق وعددها 22 سوقا، بينها سوق النحاس وسوق الحرير وسوق الكتب وسوق الصاغة.
وتمتد المدينة على مساحة نحو 48 هكتارا، وقد تأسست في القرن السادس قبل الميلاد على أيدي الفينيقيين.
ويقول مستشار جهاز إدارة المدن التاريخية حسام باش إمام: «المدينة القديمة قلب الحياة في ليبيا، والليبيون مرتبطون عاطفيا بها بشكل كبير». ويضيف: «لقد تعرضت هذه المدينة على مر الزمان لهجمات ومرت بصعاب كثيرة، لكنها لم تندثر، وبقيت في مكانها».
وإلى جانب أسواقها، تضم المدينة القديمة كنزا من المواقع التاريخية والأثرية، وبينها مسجد الناقة الذي يصنفه مؤرخون على أنه أحد أقدم مساجد شمال أفريقيا، إذ بني في القرن العاشر ميلادي، وكنيسة يسوع الملك التي تعود لعام 1829.
وعند بداية المدينة من جهة البحر، يقع قوس ماركوس أوريليوس الروماني على مقربة من أول منزل سكنته بعثة دبلوماسية فرنسية في ليبيا منذ بدء العلاقات بين البلدين في 1630، بينما يتوسط برج الساعة الذي بدأ بناؤه على أيدي العثمانيين عام 1866 ساحة تبعد أمتارا قليلة.
وتحيط بالمدينة من جهتها الشمالية الشرقية قلعة طرابلس المسماة بالسراي الحمراء، وتحوي متحفا أغلق بسبب الأوضاع الأمنية، وتطل على ساحة الشهداء التي كانت تعرف في عهد النظام السابق باسم «الساحة الخضراء».
ويرى باش إمام، وهو باحث في قضايا التراث العمراني، أن أكبر مشكلات هذه المدينة لا تتمثل بتراجع المبيعات فيها بفعل الوضع الأمني، بل «بعدم قدرة الدولة على التحكم بالفوضى فيها». ويوضح: «هناك تشويهات تطال مبانيها التاريخية، وبينها تغيير ألوان الطلاء من الأبيض إلى ألوان أخرى، وتغيير أشكالها (...) وحتى هدم بعض الأضرحة التي تعود إلى مئات السنين على أيدي متشددين». وتابع أن «الدولة لا سيطرة حقيقية لها حاليا، وهذه هي مشكلتنا الرئيسية».
وتشتهر المدينة القديمة خصوصا بزنقاتها المتفرعة من شوارعها وبينها «الزنقة الضيقة» التي تشمل ممرا صغيرا بين مجموعتين من المنازل تربط بينهما قنطرتان صغيرتان، و«زنقة بن محمود» التي تمتد بطول نحو 10 أمتار وهي عبارة عن مدخل يؤدي إلى منزلين طليت جدرانهما بالأزرق والأبيض.
وفي المدينة القديمة أيضا دار بيشي، وهو كنيس يهودي عبارة عن معبد ضخم مغلق منذ أن غادر آخر اليهود طرابلس عام 1967، ولا تزال نجمة داود تعلو جانبه الأيمن من الخارج قرب كلمات نقشت باللغة العبرية.
ويقع هذا الكنيس في ما كان يعرف بالحي اليهودي، وقد أغلقت مداخله، وسدت نوافذه، ما عدا نافذة واحدة تطل على ما يحتويه المعبد حاليا: أعمدة، وقطع من الخشب، وملابس بالية، وقناني بلاستيكية فارغة.
وفي سوق الحرير، يحرك جمال مصطفى محمود قطعة خشبية صغيرة علق فيها خيط أبيض طويل فوق مجموعة من الخيوط الحريرية، وهو يجلس خلف آلة خشبية ضخمة يصنع من خلالها فساتين حفلات الزفاف ومناسبات أخرى.
ويقول محمود، 60 عاما: «نحن مرتبطون روحيا بهذه الصناعة. أبي عاش هنا، وجدّي كان هنا، وأسرتي أيضا، بغض النظر عن الماديات وما تعنيه المادة».
ويضيف متجنبا الحديث عن الأوضاع الاقتصادية المتغيرة: «المدينة القديمة هي الأكسيجين الذي نتنفسه، هي التاريخ بحد ذاته. خرّجت مشايخ وعلماء وأطباء، ومر عليها كثير، وستتغلب على الصعاب بطيبة ناسها وأهلها».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».