«الدرعية»... منارة إشعاع ثقافي من قلب الجزيرة العربية

كانت الأساس الذي انطلقت منه السعودية لتصبح اليوم مؤثرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً

قصر سلوى بالدرعية
قصر سلوى بالدرعية
TT

«الدرعية»... منارة إشعاع ثقافي من قلب الجزيرة العربية

قصر سلوى بالدرعية
قصر سلوى بالدرعية

أثمرت الثقافة العربية الحديثة عن أماكن فريدة لها أثر في المجال التاريخي والثقافي والتراثي والسياسي، وكان لها دور فاعل في إثراء ودعم الحضارة العربية والإسلامية والعالمية، وتعد مدينة «الدرعية» التاريخية واحدة منها، إن لم تكن أهمها. ارتبطت بالماضي العريق، وبالتراث، وبالثقافة، لتصبح اليوم «عاصمة الثقافة العربية لعام 2030» حسب إعلان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو».
وتقع الدرعية على ضفاف وادي حنيفة على شبه خط متعرّج يقسمها إلى نصفين. بدأت قصتها في منتصف القرن التاسع الهجري، حيث قَدِم مانع المريدي من شرقي الجزيرة العربية إلى العارض في نجد بدعوة من ابن عمه «ابن درع» صاحب «حجر والجزعة» والذي منحه موضعي «المليبيد» و«غصيبة» فاستقر فيهما مانع وأسرته، وأصبحتا بعد ذلك مناطق عامرة بالسكان والزراعة، وفيهما نشأت بلدة قوية سميت الدرعية نسبةً إلى الدروع، وأخذت مكانها في قلب الجزيرة العربية حتى أصبحت إمارة معروفة. ومانع هو الجد الثالث عشر للملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل.
وتتميز الدرعية بمقوماتها الطبيعية، وازدهارها الزراعي والاجتماعي، وقد أسهم وقوعها على ضفتي واد كبير غني بالمياه السطحية والجوفية، وجريان مياه الأمطار، في جعل أراضيها عالية الخصوبة، لزراعة أشجار النخيل والخضار والحبوب، وانتشار مَواطن الاستقرار منذ القدم.

«مكانة تاريخية»
كانت الدرعية على موعد مع التاريخ لتصبح عاصمة ذات نفوذ مؤثّر في القرار الإقليمي والعالمي، حينما بدأ الإمام محمد بن سعود رحلة تأسيس الدولة السعودية في القرن الثامن عشر الميلادي، ليجعل من قلب الجزيرة العربية منارة إشعاع ثقافي، امتد أثرها إلى اليوم.
كانت الدرعية المركز الثقافي الأول في نجد، وزخرت بالكثير من العناصر المعمارية الفريدة والمميزة سواء المدنية أو العسكرية كالتحصينات الحربية والقلاع والأبراج والأسوار وكذلك المساجد والقصور والأسواق التجارية وغير ذلك، وفيها حي طريف الذي يحوي عدداً من القصور الملكية، ويعد من أهم المعالم التاريخية التي دخلت في قائمة التراث العالمي التابعة لليونيسكو رسمياً، وحي سمحان الذي يضم عدداً من المباني التراثية الجاذبة وهو أكبر أحياء الدرعية، وكان مكتظاً بالبيوت والسكان، وقصد الدرعية الناس من أنحاء الجزيرة العربية طلباً للعلم والتجارة، وأصبحت محطة التقاء بين المسافرين من الحجاز إلى العراق والبحرين وغيرها من دول الجوار.

«قصر العوجا»
اختار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بعناية بناء قصر العوجا في أحضان الدرعية ليكون رمزاً وطنياً. ويقع على مرتفع جبلي بوادي حنيفة محاذياً لحي طريف الذي يحوي قصوراً للأسرة الحاكمة منذ الدولة السعودية الأولى، ويستقبل به قادة الدول الشقيقة والصديقة وقادة العالم، وهو مبنيٌّ على الطراز السعودي القديم ويحوي الكثير من المقتنيات التاريخية النادرة والثمينة والصوّر الفريدة.

«قيمة ثقافية»
تاريخ كبير تمتلكه الدرعية، ومقومات حضارية وثقافية، جعلت من هذا المكان المتربع وسط نجد في قلب الجزيرة العربية، رمزاً للعروبة، وموئلاً للقيم الأصيلة، وذا دلالات ثقافية مؤثرة، ولا يعد اختياره اليوم «عاصمة الثقافة العربية 2030» إلا تثميناً لهذا التاريخ ولدلالاته، فمنذ البدء كانت الدرعية الأساس الذي انطلقت منه السعودية لتصبح اليوم دولة مؤثرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً على محيطها والعالم أجمع.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».