«المسألة الأوكرانية» معضلة روسيا في علاقاتها بأميركا والغرب

المواجهة العسكرية ليست في حسابات بايدن... وتكرار سياسات أوباما وترمب ليس وارداً

«المسألة الأوكرانية» معضلة روسيا في علاقاتها بأميركا والغرب
TT

«المسألة الأوكرانية» معضلة روسيا في علاقاتها بأميركا والغرب

«المسألة الأوكرانية» معضلة روسيا في علاقاتها بأميركا والغرب

يشير حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يكون بصدد التحضير لمغامرة «شخصية» جديدة. البعض يرى أنها قد لا تكون بعيدة عن محاولته تفادي نتائج انتكاسات سياساته الخارجية في كثير من بؤر التوتر المنخرطة بلاده فيها. وهي انتكاسات تترافق مع «توتر» داخلي، في ظل أوضاع اقتصادية مقلقة، بعدما فشلت إدارته في إخراج البلاد من اعتماد نموها على النفط، وكذلك تأثيرات جائحة «كوفيد - 19». في المقابل، يرى آخرون أنها قد تكون نتيجة «استشعاره» بالخطورة على مستقبل، ليس فقط حكمه الذي دأب على بناء نموذجه السلطوي فيه منذ توليه السلطة عام 2000، بل على مستقبل وحدة روسيا نفسها، في ظل ما تعنيه «القضية الأوكرانية» بالنسبة إليها.
إن الحديث عن مطالبته الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بضمانات أمنية لحدوده الغربية الجنوبية، ومنع تمدد الحلف إلى تلك الحدود، ليس كافياً لتبرير هذا التوتر. فأبواب الحلف، كان بوتين مَن بادر إلى طرقها للانضمام إليه، كما أن الطرف الذي دأب على رفع منسوب التوتر معه، كان سلوكه هو منذ توليه السلطة. والحلف لم يقدم على أي عمل عسكري أو حدث متسارع، كالتدخل مثلاً في سوريا، أو عرض حديثاً فتح أبوابه لانضمام أوكرانيا، أو سعى الاتحاد الأوروبي لشراكة اقتصادية وسياسية على كييف، كما حدث عام 2013. حتى الكلام عن أن إحباط بوتين مردّه قلة التزام أوكرانيا بـ«اتفاقيات مينسك» لعامي 2014 و2015 لمنح منطقة الدونباس، ذات الغالبية الروسية، حق النقض على علاقة أوكرانيا بالغرب، ليس تطوراً جديداً.

بين التهديد بعمل عسكري وتنفيذه فارق كبير، وبما يخص روسيا وأوكرانيا، يعتقد كثيرون أن فلاديمير بوتين يدركه. مع هذا، في تصريحات لنواب أميركيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إثر زيارتهم أخيراً لأوكرانيا، قال هؤلاء إنهم مقتنعون بأن بوتين «كان يفكر جدياً» في غزوها. ومع مطالبتهم إدارة الرئيس جو بايدن بفرض «عقوبات وقائية» على موسكو، وإرسال مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا، قال أحدهم، هو النائب الديمقراطي سيث مولتون: «يجب أن ننهمك بردع بوتين أكثر بدلاً من استفزازه». وأضاف: «إذا أقدم بوتين على غزو أوكرانيا، فعليه أن يعلم أنه سيجد صعوبة خلال الدقائق الخمس التالية في شراء مشروب غازي من آلة بيع، لا أن حلف الناتو سيدعو لاجتماع عاجل لمناقشة خطواته في الأسابيع التالية».
غير أن تصعيد بوتين لتهديداته، وتلويح عدد من المسؤولين الروس باستخدام أسلحة «نووية تكتيكية»، في أي مواجهة مع الجيش الأوكراني، يراه البعض تعبيراً واضحاً عن مخاوفه من الكلفة العالية التي سيتكبدها. فالمعلومات تؤكد حصول كييف على أسلحة أميركية نوعية، وفق المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، واستخدامها طائرات مسيّرة للمرة الأولى في حربها مع الانفصاليين، حصلت عليها من تركيا. ثم إنه في ظل هشاشة أوضاع روسيا الاقتصادية، قد يكون بوتين عاجزاً عن تمويل حرب. تشير كل المعطيات إلى أنها ستكون حرباً طويلة ومفتوحة، لا قدرة لبلاده على تحملها. وحربه في سوريا ما تزال دليلاً ماثلاً على حدود ما يمكن أن يحققه، بينما يحافظ فيه على «توازن» دقيق لتورطه فيها، واضطراره للاتكال على شريكته إيران في إنجاز الأعمال «القذرة» الأخرى، والأثر الذي تتركه على قيادته للحرب في سوريا ومستقبلها.
مقابل هذا التصعيد، استعجل بوتين أخيراً عقد «مفاوضات أو محادثات فورية» مع الولايات المتحدة و«الناتو»، حول الضمانات التي ينبغي تقديمها لروسيا بشأن «أمنها ومنع أي توسع مستقبلي للحلف شرقاً أو نشر منظومات أسلحة تهدد روسيا في أوكرانيا أو أي دولة أخرى مجاورة». وثمة من يقول إن بوتين «صدم» بموقف واشنطن والعواصم الغربية الحازم القائم على أساس أن تجربة العامين 2014 و2015، حين اجتاح شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا، لن تتكرّر. وكذلك، من بيان مجموعة الدول السبع الاقتصادية الكبرى، المنحاز تماماً لواشنطن، في تحميل روسيا «ثمناً باهظاً»، إذا ما اجتاحت أوكرانيا. وهناك تجديد مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان التأكيد في اتصال مع نظيره الروسي يوري أوشاكوف أن واشنطن ستواصل التنسيق عن كثب مع حلفائها الأوروبيين، سعياً إلى معالجة المسائل الأمنية والاستراتيجية بالدبلوماسية، ما كشف أيضاً أن مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية كارين دونفريد، التي زارت كييف وموسكو أخيراً، اتفقت مع حلفاء «الناتو» على توحيد الجهود وتنسيقها في هذا الملف.
هذا، وتحدثت أوساط أميركية عن تقديمها «خريطة طريق» مقبولة ومتوازنة للطرفين، للخروج من الأزمة. وإذ يحمل البعض الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مسؤولية تهاونه في الرد على اجتياح القرم، يرى آخرون أن موقف أوباما كان تطبيقاً لبدء سياسات «تريح» واشنطن من المشكلات الإقليمية، في الشرق الأوسط وأفغانستان وأوروبا نفسها، بعدما وصف روسيا بأنها «قوة إقليمية»، لم تعد تشكل نداً آيديولوجياً، ولا تهديداً استراتيجياً كالصين. بل سمح لبوتين بالانغماس في «مستنقع» سوريا، التي دخلها بموافقة أميركية موصوفة.
اليوم، يقول محللون أميركيون إن بايدن لن يكرّر سياسات سلفيه أوباما وترمب، لا في غض النظر أو المحاباة، ولا في تعريض روسيا لأخطار «وجودية». وهو يحاول خلال تنفيذ استراتيجيته «التنافسية» مع الصين، استمالة روسيا، في ظل إدارته ورهانه على تأثرها الحتمي بمحيطها «الديمقراطي» وحراكها الداخلي. وهو يرى أنه رغم نجاح سياسات بوتين القومية والشعبوية في تأليب جزء كبير من الرأي العام الروسي ضد أميركا، لا يزال الشعب الروسي بمكوناته العرقية المختلفة يطمح للالتحاق بركب الغرب، إسوة بتجارب شعوب أوروبا الوسطى.

إشكالية التاريخ

يطرح البعض إشكاليات تاريخية، لطالما قضّت مضاجع صناع القرار في روسيا، منذ تأسيس القيصرية عام 1470، مروراً بالحقبة السوفياتية، وصولاً إلى عهد بوتين.
روسيا التي كانت دولة «المُسكوب» قبل هذا التاريخ، كانت ولا تزال، يسكنها هاجس العودة إلى تلك الحقبة، في حال خسرت أوكرانيا التي ضمها «القيصر» إيفان الثالث، في ذلك العام. وإبّان الحرب العالمية الثانية، كان «السوفيات» يعتقدون أن اجتياح ألمانيا النازية لأوكرانيا بهدف سلخها عنهم، يشكل حجر الزاوية في استراتيجية ألمانيا لكسب الحرب على روسيا. فسلب أوكرانيا من روسيا يؤسس لزوال روسيا نفسها، ويعيدها إلى تشكيلاتها السابقة من دول صغيرة، كما كانت قبل إعلان القيصرية.
غير أن هزيمة ألمانيا، أسست في المقابل لعقيدة روسية - لم يكتب لها النجاح في نهاية المطاف - تدعو إلى ضمان «حيادية» ألمانيا، في تناقض مع الخوف من أن تؤدي حياديتها واستقلاليتها عن الولايات المتحدة، إلى إحياء طموحات نازية جديدة، بعدما عادت ألمانيا قوة اقتصادية هائلة. وغني عن القول إن تلك السياسات لم تؤدِ فقط إلى خسارة ألمانيا التي تمسكت أكثر بانحيازها للولايات المتحدة، بل انهيار «التجربة السوفياتية» كلها، فضلاً عن انهيار «حلف وارسو» وانضمام غالبية دوله إلى «ناتو» (حلف شمال الأطلسي). ويرى البعض أن تلك العقيدة ما تزال تهيمن على «العقل» الروسي، في محاولة لضمان «حيادية» أوكرانيا، الأمر الذي قد يفسّر أسباب تمسك بوتين بأوكرانيا، وما تعنيه بالنسبة إلى وحدة روسيا نفسها، وليس لأسباب عقائدية أو اقتصادية أو تنافسية مع الغرب.
في مقال نُشر في يوليو (تموز) الماضي، بعنوان «حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين»، جادل بوتين بأن البلدين يشكلان «شعباً واحداً» وأن «السيادة الحقيقية لأوكرانيا ممكنة فقط بالشراكة مع روسيا». والآن، في العقد الثالث من حكمه، قد يعتبر بوتين أنه ما لم يتخذ إجراء حاسماً، فإن أوكرانيا ستبتعد أكثر عن روسيا. ولكن إذا كان كذلك، يتساءل البعض عن مستقبل هذه «العقيدة»، التي تبين أن تحقيقها يستلزم توفر عوامل كثيرة، ليست عسكرية بالتأكيد. فالاتحاد السوفياتي الذي كان «القطب» العالمي في مواجهة الولايات المتحدة، لم تحمِه ترسانته العسكرية من الانهيار، بعدما تحوّل الحصول على علبة سجائر «مارلبورو» حلماً للروس. كما أن حجم الغضب من النموذج السوفياتي السابق، واليوم من نموذج «البوتينية» - ليس فقط في أوكرانيا ودول «المعسكر الاشتراكي» السابق، بل داخل روسيا - يهدد بنزعات انفصالية قد تطيح بوحدتها نفسها. فروسيا العاجزة عن كسر تخلف نموذجها السياسي والاقتصادي، وانسداد أفق تقدمها، بحاجة للخروج من هذه السياسات، رغم «نجاحات» بوتين الخارجية، من الانتخابات الأميركية، إلى تعزيز النزعات القومية اليمينية في القارة الأوروبية.
إن الدول التي خرجت من عباءة موسكو، فتح تقدمها الديمقراطي الأفق نحو مستقبل، قد يكون واعداً، على الأقل إذا نظرنا لإنجازات حققتها دول أوروبية صغيرة. ناهيك من كوريا الجنوبية وتايوان وبعض دول جنوب شرقي آسيا، التي كانت ميداناً تنافسياً مع الولايات المتحدة... لكنها تتقدم اليوم عن روسيا سنوات ضوئية من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي؛ حيث يجهد الباحثون للعثور على أي منتج روسي، بخلاف صواريخ «إس 400».
ويرى بعض المحللين أن اندفاع روسيا إلى أحضان الصين، قد يقود إلى خطأ استراتيجي أكبر. فهو لا يهدد فقط بتبعيتها لها، في ظل تفوق بكين في مختلف المجالات الاقتصادية والتقنية. بل قد يكون مفتوحاً على عوامل استراتيجية واقتصادية تلوح في الأفق القريب والمتوسط، عن احتمال انهيار اقتصادي تتجه إليه الصين حثيثاً، بعد اندلاع الأزمة العقارية فيها وتباطؤ الإنتاج وبدء كبار المستثمرين والمنتجين الدوليين التفتيش عن سلاسل إمداد جديدة. وهذا أمر يلعب بلا شك دوراً رئيساً في امتناع بكين عن الدخول في مغامرة استعادة تايوان بالقوة، إذ ما الذي ستكسبه من تدميرها؟

عواقب الاحتماء بالصين

بعض التحليلات الغربية تضيف أن الإصرار الروسي والصيني على التمسك بسياسات التهديد والضم، يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. فقبل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، شعرت أوكرانيا بالتشتت بين الغرب وروسيا. وبعد ذلك، بدأت أوكرانيا بالتحرك بثبات باتجاه الغرب من الناحية الجيوسياسية.
وبالمثل، فإن حملة القمع التي شنتها الصين على هونغ كونغ عزّزت المواقف في تايوان ضد التوحيد السلمي، بحسب نموذج «دولة واحدة ونظامان». لكن المحللين يحذرون أيضاً من أن هذه العوامل قد تقوي رغبة بوتين بالغزو رداً على المشاعر المعادية لروسيا. وعندها ستكون المغامرة كبيرة إذا لم تهزم روسيا القوات الأوكرانية بسرعة، في بلد تعداد سكانه يفوق 40 مليون نسمة، وتحمل غالبيته مشاعر تاريخية معادية للسيطرة الروسية. وقد يطول الصراع، مع تدفق المساعدة العسكرية الغربية على أوكرانيا، وإذ ذاك ربما تؤدي الخسائر المتوقعة في صفوف المدنيين وتدمير الممتلكات، إلى تأجيج الرأي العام، حتى في الجزء الشرقي الانفصالي من أوكرانيا، ما قد يؤدي إلى اندلاع تمرد. وعندها لن يكون باستطاعة روسيا اللجوء إلى الإنكار الرسمي، كما فعلت منذ ضمت شبه جزيرة القرم، في حين ستقول أوكرانيا ببساطة إنها تقود «انتفاضة وطنية»، وليس صراعاً على قطعة أرض متنازع عليها.

كيف تدهورت العلاقات الروسية مع الغرب؟
> بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسنوات من محاولات التقارب بين روسيا والغرب، حاول رئيسها فلاديمير بوتين عام 2000 التحرك بسرعة لتعزيز تلك العلاقات، واختبار احتمال انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، غير أن اللورد جورج روبرتسون، الذي شغل منصب الأمين العام للحلف بين 1999 - 2004، استذكر أخيراً كيف سأله بوتين عن موعد دعوة الحلف لروسيا، وكيف شعر الأخير بالإهانة، عندما ردّ روبرتسون بأن على موسكو التقدم بطلب للحصول على العضوية، تماماً مثل أي دولة أخرى، بحسب وكالة «أسوشيتدبرس».
وأثناء استكشافه إمكانية الانضمام لـ«ناتو»، تحرك بوتين أيضاً لإقامة علاقات سياسية وأمنية أوثق مع واشنطن وحلفائها. وكان أول زعيم أجنبي يتصل بالرئيس الأميركي جورج بوش بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، عارضاً تقديم المساعدة. وسرعان ما رحّب بالانتشار العسكري الأميركي في قواعد الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى للحرب في أفغانستان. وأيضاً أغلق بوتين قواعد الحقبة السوفياتية في كوبا وفيتنام. ورغم أن روسيا لم تنضم لـ«ناتو»، فإنها اتفقت معه عام 2002 على إنشاء مجلس لتنسيق السياسات والتعاون في مكافحة الإرهاب وقضايا أخرى. لكن منذ ذلك العام بدأت العلاقات بين موسكو وواشنطن بالتدهور، بعدما قررت الأخيرة الانسحاب من معاهدة تعود إلى حقبة الحرب الباردة، تحظر نشر دفاعات ضد الصواريخ الباليستية، وهي خطوة اعتبرتها موسكو تهديداً محتملاً لردعها النووي.
بعدها، أثارت الحرب الأميركية في العراق عام 2003 انتقادات شديدة من موسكو، وزادت من توتر العلاقات. وتصاعد غضب موسكو عندما انضمت بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا ودول البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إلى «ناتو» عام 2004. ومع اندلاع «الثورات البرتقالية» في أوكرانيا وجورجيا، التي أطاحت بالمرشح الرئاسي الذي تدعمه روسيا في كييف، وبالرئيس الجورجي المدعوم منها أيضاً في ذلك العام، عدّ الكرملين تلك الاحتجاجات تدخلاً غربياً في «الفناء الخلفي» لروسيا. وشكّل خطاب بوتين في مؤتمر أمني في ميونيخ بألمانيا عام 2007 حداً فاصلاً ونقداً شديداً للتحركات الأميركية. وقال إن واشنطن «تجاوزت حدودها الوطنية بكل الطرق»، واصفاً توسيع «ناتو» باتجاه الشرق بأنه «استفزاز خطير».
وعندما وعد «ناتو» في قمة له عقدت في رومانيا عام 2008 أوكرانيا وجورجيا بالانضمام إليه، اعتبرت روسيا ذلك بمثابة ضربة لمصالحها الأمنية الحيوية. وبعد 4 أشهر، شنت روسيا هجوماً دام 5 أيام على جورجيا، إثر محاولة الأخيرة استعادة السيطرة على مقاطعة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية التي تدعمها موسكو.
ثم عام 2014، أطاحت مظاهرات شعبية بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش «صديق الكرملين» احتجاجاً على تخليه عن اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، لمصلحة علاقات أوثق مع موسكو. وردّت موسكو بضم شبه جزيرة القرم ودعم المتمردين الانفصاليين في المنطقة الصناعية والمنجمية شرق أوكرانيا، المعروفة باسم «حوض الدونباس».
وأدى الصراع الذي دخل عامه الثامن إلى مقتل أكثر من 14 ألف شخص، وفشل الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سياسية، ثم فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات على موسكو، وأوقفت كل تعاون لها مع «ناتو»، ونشرت تعزيزات عسكرية بالقرب من روسيا. ومنذ ذلك الحين، يندد الكرملين بهذا الانتشار وبالتدريبات بالقرب من حدوده، واصفاً إياها بأنها تهديد أمني.
وفي الشهر الماضي، تصاعدت التوترات بعد تقارير استخبارية وصور أقمار اصطناعية عن حشد روسيا نحو 170 ألف جندي ومعدات عسكرية بالقرب من أوكرانيا. وبينما نفى بوتين التخطيط لهجوم على أوكرانيا، فإنه يسعى للحصول على تعهد غربي بأن «ناتو» لن يضمها إلى عضويته، أو ينشر قواته هناك، وهو توسع وصفه بأنه «خط أحمر» لموسكو. وفي قمة افتراضية بين بوتين وبايدن جرت الأسبوع الماضي، حذّر الرئيس الأميركي من «عواقب وخيمة» إذا غزت روسيا أوكرانيا، لكنه وعد بإجراء مشاورات لمعالجة المخاوف الروسية، مكرّراً في الوقت نفسه موقف أمين عام الحلف، ينس ستولتنبرغ، رفض أن يكون لروسيا أي دور في تحديد مَن ينضم إلى «ناتو».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.