تونس: «خريطة الطريق» تعمّق الأزمة

مشهد سياسي جديد بعد تعليق الدستور والبرلمان

تونس: «خريطة الطريق» تعمّق الأزمة
TT

تونس: «خريطة الطريق» تعمّق الأزمة

تونس: «خريطة الطريق» تعمّق الأزمة

عمّقت «خريطة الطريق» التي أعلن عنها الرئيس التونسي قيس سعيّد بمناسبة «الذكرى الـ11 لانفجار الثورة التونسية» الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية، والخلافات بين قصر الرئاسة في قرطاج وقيادات سياسية ونقابية وحقوقية في البلاد، بما فيها تلك ساندت «قرارات 25 يوليو (تموز)» التي أدّت إلى حلّ البرلمان «مؤقتاً» وتعليق الدستور. وكشفت ردود الفعل على خطاب الرئيس سعيّد «مشهداً سياسياً جديداً» تقلّص فيه عدد الأحزاب والأطراف المساندة لـ«حركة التصحيح».
وفي المقابل، التحق معظم القيادات النقابية والحقوقية والسياسية بـ«الحراك الشعبي المعارض» الذي يعتبر زعماؤه ما يجري في تونس منذ 5 أشهر «انقلاباً على الدستور» وعلى إرادة ملايين الناخبين الذين شاركوا في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وهو ما يطرح تساؤلات عن اتجاه الأوضاع بعد دخول أنصار الرئيس ومعارضيه في سلسلة من التحركات داخل البلاد وخارجها، وإعلانهم أنها ستتواصل حتى 14 من يناير (كانون الثاني) المقبل، وهو ذكرى سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي؟ وهل تسفر الأمور عن «تعديل في المشهد السياسي»... أم تفاقم خطورة الأزمة وتتطوّر إلى اضطرابات اجتماعية أمنية قد تعجز كل الأطراف المعنية عن التحكم فيها؟
تسبب إعلان قصر قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية في تونس) عن تمديد «الإجراءات الاستثنائية» حتى موفى العام 2022 المقبل في تشكيل جبهات معارضة داخلية قوية لـ«خريطة الطريق» التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد في أطول خطاب توجه به إلى الشعب منذ وصوله الحكم، وهذا، رغم ترحيب «مشروط» صدر عن الخارجية الأميركية بهذه الخطوة.
لقد تعهد سعيّد بتنظيم «انتخابات برلمانية لتعويض» البرلمان المجمد موعدها يوم 22 ديسمبر (كانون الأول) 2022، وهو ما يعني تشكيل الحكومة المقبلة في ربيع عام 2023. كذلك أعلن عن تنظيم استفتاء شعبي على دستور جديد يوم 25 يوليو المقبل تتويجاً «لاستشارة عبر المنصّات الإلكترونية وللحوار المباشر مع الشباب». بيد أن انقساماً برز بين ردود الفعل على هذه الخطوة؛ إذ رحبت بها مجموعات من «شباب حراك 25 يوليو» وعارضتها شخصيات سياسية، بينها زعيمة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، التي لوّحت بمحاكمة أعضاء الحكومة بتهمة «استغلال مؤسسات الدولة ووزارة تكنولوجيا الاتصال خدمة لمشروع سياسي وانتخابي خاص».

جبهات معارضة جديدة

أيضاً، تسببت الخلافات السياسية التي ظهرت أخيراً بين قصر قرطاج والنقابات والأحزاب في تشكيل «تحالفات» و«جبهات معارضة» لرئيس الجمهورية رغم تناقضاتها الآيديولوجية وصراعاتها السابقة. ولقد حذّر زعيم نقابات العمال نور الدين الطبوبي وقياديون في منظمات حقوق الإنسان وزعماء 8 أحزاب معارضة، خلال مؤتمرات صحافية، الرئاسة وحكومة نجلاء بودن من «خطر تمديد مرحلة الفراغ السياسي والبرلماني والدستوري التي بدأت قبل 5 أشهر وتوشك أن تتواصل إلى مطلع عام 2023».
كذلك، تشكلت بالمناسبة ائتلافات مدنية و«جبهات معارضة»، أبرزها حركة «مواطنون ضد الانقلاب» بزعامة الحقوقي اليساري جوهر بن مبارك، والوزير الدبلوماسي عبد الرؤوف بالطبيب المستشار السابق للرئيس سعيّد، والوزير رضا بالحاج المستشار السابق للرئيس الباجي قائد السبسي، والمحامية اليسارية إسلام حمزة... ومعهم ثلة من الجامعيين البارزين، بينهم الخبير الدستوري شاكر الحوكي، والحبيب بوعجيلة، وزهير إسماعيل، والأمين البوعزيزي، والحقوقي الوزير السابق عبد الرحمان الأدغم نجل رئيس الحكومة الأسبق الباهي الأدغم. وتلقى هذه الحركة دعماً من نشطاء أحزاب عدة، بينها «حركة النهضة» بزعامة راشد الغنّوشي، و«قلب تونس» بزعامة نبيل القروي، و«حراك تونس الإرادة» بزعامة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، و«ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي والبرلماني سيف الدين مخلوف. وبالفعل، نظمت هذه «الجبهة» سلسلة من المسيرات والوقفات الاحتجاجية «المعارضة للانقلاب» شارك فيها آلاف من أنصارها في تونس ومن المهاجرين التونسيين في عدد من الدول الأوروبية وكندا والولايات المتحدة. ونشر الأكاديمي والخبير الدستوري شاكر الحوكي عريضة تضم نحو 6 آلاف توقيع من شخصيات أكاديمية وحقوقية وسياسية تعلن معارضة موقّعيها ما وصفته بـ«تعطيل الدستور وحلّ البرلمان»، واعتبرت الخطوة «انقلاباً».
لكن، في المقابل، انتقد الرئيس سعيّد أولئك الذين يتكلّمون عن «انقلاب»، ونفى عن القرارات التي أعلن عنها صفة «الانقلاب»، واعتبر ما حصل «حركة تصحيح للمسار رداً على الخطر الداهم الذي كان يهدد البلاد في يوليو الماضي»، المتمثل بجملة عوامل بضمنها عجز حكومة هشام المشيشي والبرلمان المجمّد عن التصدي لجائحة «كوفيد - 19».

تحالفات وتحرّكات

من ناحية ثانية، لعل أهم مُعطى في المشهد السياسي الجديد، حسب سهام بادي، الناشطة السياسية في أوروبا والوزيرة السابقة للمرأة والأسرة، أن «قرارات الرئيس ساعدت على صنع مشهد سياسي جديد وعلى توحيد قوى المعارضة» التي كانت تشكو التشرذم والانقسام. وفسّرت بادي هذا التطور السريع بـ«اقتناع قيادات غالبية الأطراف السياسية بكون المكاسب الحقوقية والديمقراطية أصبحت في خطر منذ تعليق البرلمان المنتخب والدستور الذي شارك في صياغته آلاف السياسيين والحقوقيين والأكاديميين ومجلس وطني منتخب طوال ثلاث سنوات، ما بين 2011 و2014».
وحقاً، تعاقبت المؤتمرات الصحافية والبلاغات المشتركة بين عدد من رموز الأحزاب والأطراف التي شاركت في الحكم أو فازت في الانتخابات البرلمانية السابقة. وأعلنت قيادات الأحزاب بالمناسبة عن تحركات بالجملة للضغط على صنّاع القرار في الداخل والخارج بهدف «إنقاذ البلاد من أزمتها السياسية الاقتصادية الاجتماعية الأمنية» و«بناء تونس الجديدة» و«الربط بين الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي ومحاربة الفساد والعودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني».
ومن جهة أخرى، أعلنت مجموعة من أبرز الشخصيات الوطنية عن تأسيس «اللقاء الوطني للإنقاذ» بزعامة قيادات من الأحزاب الليبرالية واليسارية المعتدلة مثل المحامي أحمد نجيب الشابي، ونائب رئيس البرلمان طارق الفتيتي، والوزير السابق فوزي عبد الرحمان، ورجل الأعمال والبرلماني العياشي الزمال، ورئيس الخبراء المحاسبين سابقا عياض اللومي، والناشط النقابي والسياسي المهدي عبد الجواد.

تبدّل مواقف الحلفاء

ومن بين أبرز انعكاسات ما وُصف بـ«الزلزال السياسي» على المشهد الوطني تغيير مجموعة من الشخصيات والأطراف السياسية مواقفها وتحالفاتها بنسبة 180 درجة. إذ عدّلت مكوّنات هذه المجموعة مواقفها من الرئيس سعيّد ومن «حركة التصحيح»، وباتت بدورها تصفها بـ«الانقلاب» على الدستور وعلى البرلمان المنتخب وعلى «شرعية صناديق الاقتراع». وكان من بين مفاجآت الأيام الماضية أن تصدّر مشهد «المعارضين الجدد» لسياسات قصر قرطاج بعض زعماء «الكتلة الديمقراطية» مثل المحامية سامية عبو، والأمين العام لحزب «التيار الديمقراطي» المحامي غازي الشواشي (وهو برلماني ووزير سابق)، والوزير السابق محمد عبو والقيادي في حزب الشعب الوزير السابق سالم الأبيض. وكان هؤلاء الأكثر انحيازاً للرئيس سعيّد إبّان معاركه مع حكومة هشام المشيشي ومع البرلمان وقيادات الائتلاف الحاكم عموماً، و«حركة النهضة» بصفة خاصة.
هذا، وسبق لرئاسة الجمهورية أن نشرت صوراً وفيديوهات على صفحتها الرسمية حول مشاركة هذه الشخصيات في اجتماعات مصغّرة في قصر قرطاج مع الرئيس سعيّد أو مع أعضاء المجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للجيوش وبعض الوزراء. وبالتالي، أدى انتقال هؤلاء من «المساندة المطلقة لحركة التصحيح» إلى المعارضة، إلى دفع الرئيس سعيّد إلى التشكيك في «وطنيتهم» واتهامهم بتغيير مواقفهم وولاءاتهم؛ بسبب حصولهم على «تمويل أجنبي» مزعوم.
لكن قيادات «الكتلة الديمقراطية» تابعت تحركاتها المعارضة عبر سلسلة من التصريحات النارية التي صدرت عن زعمائها، بينها دعوات من زعيمها ومؤسسها الوزير السابق محمد عبو، دعا فيها قيادات الأمن والجيش إلى الامتناع عن تنفيذ أوامر الرئيس، وهو ما اعتبره خصومه «دعوة إلى التمرد». وأيضاً، صعّدت «الكتلة الديمقراطية» احتجاجاتها وتحركاتها، ونظّمت مؤتمراً صحافياً للإعلان عن معارضتها «بقوة وحزم لمشروع خريطة الطريق التي أعلن عنها قيس سعيّد». وأعلن في المناسبة عن تأسيس «تنسيقية للأحزاب الديمقراطية» تضم «التيار الديمقراطي» بزعامة غازي الشواشي، والحزب الجمهوري بزعامة الحقوقي عصام الشابي، و«التكتل من أجل الديمقراطية» بزعامة النقابي والوزير الأسبق للشؤون الاجتماعية خليل الزاوية.

استطلاعات الرأي

في المقابل،، نشرت مؤسسات استطلاعات الرأي التونسية تقارير جديدة تحدثت عن تصدّر الرئيس قيس سعيّد قائمة السياسيين التونسيين من حيث الشعبية، ورجّحت فوزه بأكثر من 50 في المائة من الأصوات في حال نظّمت انتخابات رئاسية اليوم. كذلك كشفت استطلاعات الرأي نفسها، عن أن أكثر من ثلث الناخبين قد يختارون قوائم برلمانية يدعمها سعيّد إذا ما جرى تأسيس حزب يدعمه. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن القانون التونسي يمنع رئيس الدولة من أن يرأس أي حزب سياسي.
ثم، أن مواقف الرئيس سعيّد تشير إلى أنه لا يكنّ تقديراً كبيراً لدور معظم الأحزاب والجمعيات، ويتهم جلّها بالحصول على تمويلات من جهات خارجية ومن رجال الأعمال «الفاسدين». وسبق له أن نشر حواراً صحافياً في يونيو (حزيران) 2019، قبل الانتخابات، أعلن فيه أنه ضد «كامل منظومة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني المدعومة من الخارج». وتابع، أنه سيقوم بحل البرلمان في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية.
لم تلق الإجراءات الرئاسية الجديدة ترحيباً إلا من قِبل «تنسيقيات قيس سعيّد» التي ليس لها حزب يجمع بينها، وهي إنما تتحرك أساساً معتمدة على مواقع التواصل الاجتماعي وتعقد اجتماعات افتراضية باسم «حراك 25 يوليو»، مع الإشارة إلى أن هذا الحراك ليس له قيادة قانونية ورسمية.
وفي هذه الأثناء، ساندت قيادات 8 أحزاب محسوبة على «التيارات القومية والاشتراكية والماركسية» قرارات الرئيس سعيّد وأعلنت اعتزامها الوقوف في صفه. ويتزعم هذه الأحزاب النقابي والقيادي السابق في «حزب الوطنيين الديمقراطيين» عبيد البريكي، ورئيس حزب «التيار الشعبي القومي العربي» زهير حمدي، وزهير المغزاوي عن «حزب الشعب القومي الناصري». ولقد رحّبت قيادة حزب «التحالف من أجل تونس» بما جاء في خطاب رئيس الدولة واعتبرت أنّ الإجراءات الرئاسية المعلن عنها «توضّح معالم الطريق لسنة قادمة ستتوّج بانتخابات ديمقراطية تعيد المؤسسة التشريعية إلى دورها في دعم أسس الدولة وسيادة قرارها، وفق ما سيفرزه الاستفتاء الشعبي من تعديلات على الدستور وعلى النظام الانتخابي».
وبذا يقع تكريس الانقسام والتصدع داخل «المنظومة السياسية والحزبية والنقابية القديمة» التي شكك سعيّد منذ سنوات في مصداقيتها، وأدلى منذ وصوله قصر قرطاج بتصريحات عديدة اعتبر فيها أنها «منظومة انتهى دورها وتجاوزها الزمن».

أي دور ينتظر نقابات العمال وسط التشرذم والتنافس؟
> في خضم التشرذم والتنافس الحاصلين في تونس راهناً بين قصر قرطاج وقيادات الأحزاب السياسية، يطرح كثرة من المراقبين السؤال الكبير: مَن سيكسب على المدى البعيد ورقة التحكّم في التحركات الاجتماعية في مرحلة تشهد فيها البلاد أزمة اقتصادية مالية اجتماعية أمنية خانقة؟
في الواقع، تعدّ القيادات النقابية أهم الأطراف تأثيراً على آليات صنع القرار السياسي في تونس منذ عشرات السنين، وبصفة أخص منذ انهيار حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قبل 11 سنة. وللعلم، سبق أن شارك في كل الحكومات المتعاقبة خلال العقد الماضي نقابيون وسياسيون رشّحهم الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يعد أقوى وأعرق كيان نقابي في البلاد. ثم إنه تسبب «الفيتو» الذي استخدمته قيادات نقابية غير مرة في إسقاط عدد من المرشحين البارزين لرئاسة الحكومة أو لتولّي مسؤوليات عليا في الدولة.
أضف إلى ما تقدّم أنه أدت الإضرابات العديدة التي نظمتها النقابات منذ مطلع 2011 إلى إسقاط عدة حكومات، بينما أنتج التوافق بين النقابات وبين الرئيس السابق الباجي قائد السبسي في «تهدئة الأوضاع» حيناً، ثم في توظيف الاضطرابات الاجتماعية والنقابات لصالحه عند انفجار خلافات بينه وبين رئيسي الحكومة السابقين الحبيب الصيد ويوسف الشاهد.
أما إزاء ما يحدث راهناً، فإن ثمة قيادات نقابية تخشى جدياً من أن يتمادى الرئيس قيس سعيّد في تهميشها، أو أن تأمر النيابة بملاحقة بعض النقابيين بتهم «فساد» وقضايا «حق عام»؛ وذلك بسبب معارضة المركزية النقابية لعدد من قرارات الرئيس خلال الأشهر الماضية، بعدما كانت قد رحّبت بإجراءات 25 يوليو و«التصحيح».
ثم أنه، في الوقت الذي تتأهب القيادة النقابية لعقد مؤتمرها الوطني خلال شهر فبراير (شباط) المقبل، تتخوّف نقابات رجال الأعمال وأوساط سياسية رسمية ومعارضة من تصعيد للتحركات الاجتماعية والإضرابات. وأيضاً تتخوّف من احتمال توظيف سوء الأوضاع الاقتصادية وانهيار القدرة الشرائية للطبقات الشعبية والوسطى في معركتها مع قصر قرطاج ومع الحكومة، التي كشفت عن أن صندوق النقد الدولي يضغط عليه من أجل خفض أجور ملايين الموظفين والمتقاعدين، وتجميد الرواتب والتفويت في المؤسسات العمومية المفلسة رغم معارضة النقابات.

تونس من دون موازنة للعام الجديد لأول مرة منذ 65 سنة
> بينما يتابع السياسيون التونسيون منذ 11 سنة معاركهم على الكراسي، ويثيرون قضايا سياسية ودستورية وقانونية وآيديولوجية، تدهورت الأوضاع المالية في البلاد بشكل غير مسبوق. وللمرة الأولى منذ استقلال تونس عن فرنسا قبل 65 سنة تدخل البلاد عاماً جديداً من دون إعداد موازنة أو قانون مالية، وكذلك من دون توضيح «الموارد المالية للدولة» و«نفقاتها»، مع العلم أن البرلمان التونسي اعتاد على المصادقة على موازنة العام الجديد قبل أسابيع من شهر يناير (كانون الثاني).
أحمد كرم، رئيس هيئة البنوك التونسية السابق، قدّر النقص في موازنة الدولة للسنة المقبلة بنحو 40 في المائة، مهما كانت الزيادات المتوقعة في الضرائب والرسوم والإتاوات. وفي الوقت نفسه، قدّر كرم قيمة السيولة المالية خارج البنوك، أي في «السوق الموازية» بنحو 17 مليار دينار تونسي (أي 6 مليارات دولار أميركي). ومن ثم، طالب بإصلاحات تشجع أصحاب تلك الأموال على الإقدام على ضخها في البنوك والمصارف التونسية.
ومن جهة ثانية، طالب سمير ماجول، رئيس نقابة التجار والصناعيين وأرباب المؤسسات الخاصة، بتعليق الإضرابات ومراعاة الظروف الصعبة التي تمر بها الشركات الخاصة، لأسباب عديدة... من بينها، المضاعفات السلبية والخطيرة لجائحة «كوفيد - 19». في حين توقع الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي – وكذلك عدد من كبار الخبراء الماليين، أن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والصناديق العربية والأفريقية – ألا تقدّم هذه البنوك والصناديق المالية لتونس ما تحتاج إليه من قروض قبل أن تعلن القيادة التونسية بوضوح عن استئناف المسارين الديمقراطي والبرلماني، وتنخرط في إصلاحات عميقة لمشروع الموازنة، بما في ذلك عبر تخفيض «كتلة الأجور» إلى أقل من 15 في المائة.
وهنا نشير إلى أن نحو مليون تونسي وتونسية، أي عُشر المواطنين، فقدوا كلياً أو جزئياً وظيفتهم أو مورد رزقهم، وتضرّروا مالياً بسبب مضاعفات جائحة «كوفيد - 19» وإغلاق الحدود وتعثر الموسم السياحي لسنتين متتاليتين.



تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
TT

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)

تكشف تصريحات قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وبلاغات الأحزاب السياسية، عن تركيز على مطلب «تنقية المناخ السياسي والاجتماعي» في تونس و«تنظيم حوار وطني قبل الانتخابات»، كما ورد على لسان نور الدين الطبوبي، الأمين العام لـ«الاتحاد» وقياديين في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة مثل الزعيم اليساري عز الدين حزقي، والمحامي احمد نجيب الشابي، والحقوقية شيماء عيس والأكاديمي رياض الشعيبي. بل إن قياديين في أحزاب تعد قريبة إلى «السلطة» يطالبون ايضاً بـ»الحوار بين الأطراف الاجتماعية والسياسية» بينهم المرشحان للرئاسة الوزير ناجي جلول، الوزير السابق وأمين عام «حزب الائتلاف الوطني»، وزهير المغزاوي، أمين عام حزب الشعب القومي الناصري.

بل إن المحامي العروبي خالد الكريشي وعدداً من القياديين البارزين في حزب الشعب القومي الناصري، الذي يعتبر «الأقرب سياسياً» إلى قصر قرطاج الرئاسي، أدلوا أخيراً بـ«تصريحات سياسية نارية» انتقدت السلطات السياسية واتهمتها بـ«الفشل في تحقيق الشعارات التي رُفعت يوم حراك 25 يوليو (تموز) 2021» وقرارات حل البرلمان والحكومة السابقين.

نورالدين الطبوبي...ابرز الشخصيات النقابية (آ ف ب)

انتعاش الخطاب الشعبوي

خالد الكريشي قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه ورفاقه الذين كانوا قد دعموا بقوة الرئيس سعيّد سابقاً، أصبحوا يدعمون ترشيح زعيم حزبهم زهير المغزاوي، ويعطون أولوية للإصلاحات السياسية «حرصاً على مصداقية الانتخابات الرئاسية المقبلة». وفي السياق ذاته، أعلن المغزاوي خلال مؤتمر صحافي في أحد فنادق العاصمة تونس أنه قرّر الترشح للرئاسة؛ لأن مشروع برنامجه الانتخابي يتضمّن بالخصوص «إقامة نظام ديمقراطي والتصدّي لسيناريو حكم الفرد». أما ناجي جلول فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ تعهد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بـ«توظيف خبراته السياسية وتجاربه السابقة في المعارضة، ثم في الحكومة وفي قصر قرطاج في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي لإخراج البلاد من أزماتها في ظرف 6 اشهر فقط».

واعتبر مراقبون أن هذه التصريحات تكشف الآن عن مدى انتشار «الخطاب الشعبوي» في أوساط عدّة داخل تونس بسبب اقتناع «النخب» باستفحال معاناة الطبقات الشعبية من البطالة والفقر وغلاء الأسعار.

إصلاحات سياسية فورية

في سياق متصل، صدرت داخل الجامعات ومقار نقابات الصحافيين والمحامين والقضاة نداءات من كبار خبراء القانون الدستوري والعلوم السياسية تطالب رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة الداخلية ببدء «إصلاحات سياسية جريئة»، بينها تحرير الإعلام والإفراج عن الإعلاميين والموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

واعتبر الأكاديمي أمين محفوظ، وهو أستاذ جامعي للعلوم السياسية والقانونية والدستورية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس «مهمة جداً، بل قد تكون الأهم والأخطر منذ 15 سنة». ودعا محفوظ الـ8 ملايين ناخب تونسي إلى تجنب مقاطعة انتخابات 6 (تشرين الأول) المقبل كما قاطعوا الانتخابات النيابية والمحلية خلال العامين الماضي، ومثلما امتنع معظمهم عن المشاركة في الاستفتاء على دستور 2022 احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية وعلى «غلطات النخب».

من جهته، أورد عماد الدايمي، الوزير والمستشار السابق في رئاسة الجمهورية، الذي أعلن مبدئياً ترشحه للرئاسة أنه سيعمل على إقناع عموم المواطنين بنجاعة «الرهان مجدداً على أن التغيير يكون عبر صندوق الاقتراع». واعتبر الدايمي أن «الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن تخرِج البلاد من أزماتها السياسية والأمنية، ثم الاقتصادية والاجتماعية، وأن تدفع في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية».

غير أن معارضيه اتهموه بدورهم بـ«الشعبوية» وأطلق من وصفوا أنفسهم بـ«أنصار الرئيس سعيّد» حملة ضده، وذكّروه بأنه كان وزيراً مستشاراً ومديراً لمكتب الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي ما بين 2011 و2014.

وفي سياق موازٍ، تضمن البرنامج الانتخابي لمنذر الزنايدي، الوزير السابق للتجارة والسياحة والنقل والصحة قبل 2011، تعهداً بالقيام بإصلاحات سياسية فورية، بينها «إعادة تحقيق المصالحة الوطنية بين التونسيين بمختلف انتماءاتهم وبصرف النظر عن خلافات الماضي». ويعتبر الزنايدي عملياً المرشح المبدئي الأقرب لـ«الحزب الدستوري» الذي كان في الحكم إبان عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. لكنه ومجموعة أخرى من المرشحين يوجدون خارج البلاد، بينهم الأميرال كمال العكروت، المستشار العسكري للرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي.

الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في صدارة الجدل السياسي والانتخابي. (إيبا)

الورقة الاقتصادية الاجتماعية

في المقابل، تكشف تصريحات الأميرال كمال العكروت عن تحاشي التركيز على الملفات السياسية مقابل محاولة مواكبة «المشاغل المعيشية للطبقات الشعبية». وأعلن الأميرال رهاناً متزايداً على «إنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية» التي استفحلت منذ جائحة «كوفيد - 19» عامي 2020 - 2021، وكذلك تضرر البلاد من الحرب في أوكرانيا. وللعلم، كانت تونس تستقبل سنوياً قبل اندلاع الحرب الأوكرانية نحو 800 ألف سائح روسي وأوكراني، كما كانت تعتمد في توفير حاجياتها من الحبوب والمحروقات بأسعار تفضيلية على وارداتها من روسيا وأوكرانيا.

من جانبه، تعهد الإعلامي والكاتب العروبي أحمد الصافي سعيد، الذي يتهمه خصومه أيضاً بـ«الشعبوية»، بأن تكون على رأس أولوياته الاقتصادية والاجتماعية «تنويع الشراكات الاقتصادية للبلاد عربياً ودولياً»، واستحداث «مدن ذكية» وأقطاب تكنولوجية في العاصمة وفي الجهات؛ ما يؤدي إلى توفير موارد رزق لمئات آلاف الشباب العاطل عن العمل وبينهم عشرات آلاف من خريجي الجامعات والمهندسين الشبان.

واعتبر الصافي سعيد في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «إصلاح الأوضاع الاقتصادية ممكن... ولجوء مزيد من الشباب إلى الحلول اليائسة، مثل الهجرة غير النظامية، يمكن معالجته عبر تنويع فرص التنمية وخلق الثروة وتحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوربي وشركاء البلاد الإقليميين والدوليين حول ملفات كثيرة»، منها «تشديد مراقبة تونس لسواحلها وحدودها البرية كي لا تكون معبراً لعشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً».

التغيير آتٍ

في هذه الأثناء، ترفع النخب السياسية والشخصيات التي أعلنت مبدئياً الترشح لانتخابات 6 أكتوبر المقبل شعارات كثيرة ذات صبغة اقتصادية اجتماعية سياسية، منها «الشعبوي» ومنها «التغييري». لكن الخبراء الاقتصاديين المستقلين، مثل رضا الشكندالي، لا يترددون باتهام هؤلاء بـ«الشعبوية» و«اللاواقعية». ويفسّر بعض الخبراء أزمات تونس الحالية بعوامل عدة، من بينها «حصيلة السلطات المتعاقبة منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2008، وتضرر صادرات البلاد ومداخيل سياحتها وفرص الاستثمار والتوظيف» نتيجة «الانكماش الاقتصادي العالمي، وبخاصة داخل البلدان الأوروبية التي تعدّ الشريك الأول لتونس بنسبة تفوق الـ70 في المائة».

وعودة إلى الوزير السابق عماد الدايمي، فإن الملفات الاقتصادية والاجتماعية هيمنت على خطابه، ولقد برّر شعاره «التغيير قادم» بثلاثة أسباب تهم السياسات الاقتصادية للدولة وأولويات القطاع الخاص.

ويشرح الدايمي، فيقول إن السبب الأول هو كون «المنوال التنموي للبلاد وصل إلى نهاية الطريق، وصار عاجزاً تماماً عن تأمين حلول للمشاكل» المتراكمة منذ عقود. والسبب الثاني هو أن «بنية الدولة التونسية ومؤسساتها تقادمت وتهالكت، ولم ترضخ للتجديد، فباتت على درجة كبيرة من البيروقراطية والتكلس وانعدام الفاعليّة». ولأن منظومة المؤسسات والمنشآت العمومية الواسعة أضحت كلها تقريباً مفلسة وحوكمتها مدمّرة، خرّبها الفساد والمحسوبية و«بلطجة النقابات». وأما السبب الثالث والأخير، فهو واقع «البنية الريعية» للاقتصاد التونسي، «الذي تزايد اعتماده على عدد قليل من العائلات ورجال الأعمال الذين يحتكرون الثروة ويهيمنون على كل القطاعات رغم ضغوط المستثمرين الشبان والشركاء الأجانب».

اهتمامات الرئيس سعيّد

ولكن، هذا التركيز على الملفات الاقتصادية والاجتماعية ليس محصوراً بالمرشحين المحسوبين على المعارضة بمختلف ألوانها، بل يهم كذلك الرئيس قيس سعيّد، الذي استأنف زياراته للأسواق الشعبية وللجهات الداخلية المهمشة وللمؤسسات العمومية التي تمر بصعوبات، بما في تلك في قطاعات الصحة والمياه والكهرباء والبنوك.

ولئن برز سعيّد قبل نجاحه في انتخابات 2019 بمداخلاته السياسية والقانونية والدستورية في وسائل الإعلام، فإنه منذ وصوله قصر قرطاج قبل خمس سنوات صار يعطي أولوية مطلقة للمشاغل الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية. ومن ثم، يتهم «عصابات التهريب والاحتكار» بتحمّل مسؤولية ارتفاع الأسعار ونسب البطالة والفقر، وبالتسبب في تعطيل عمل شبكات نقل المياه والكهرباء.

وحقاً، مع اقتراب موعد انطلاق الحملة الانتخابية الرسمية كثّف سعيّد تحركاته في محافظات عدة متفقداً أوضاع الطبقات الشعبية، وكاشفاً للشعب عبر الفريق الإعلامي المرافق له عن ما يراه من «حجم الدمار والتخريب» الذي حمّل مسؤوليته إلى أجيال من السياسيين والإداريين منذ عهدي الرئيسين بورقيبة (1956 - 1987) وبن علي (1987 - 2011) ثم في حكومات ما بعد «انتفاضة يناير 2011» الشبابية والاجتماعية. وعلى الرغم من وجود سعيّد في الحكم منذ سنوات، فإنه لا يزال يتبرأ في الكلمات التي يتوجه بها إلى الشعب من «تقصير أجيال من المسؤولين» ومن «التخريب الذي يقوم به متآمرون على الأمن القومي» إلى حد تعمّد احتكار مواد الاستهلاك والترفيع في الأسعار وتخريب شبكات الماء والكهرباء. سعيّد يحمّل النخب الحاكمة منذ 70 سنة مسؤولية تردي الأوضاع

الاهتمام بالشأن السياسي متراجع تحت الضغوط الاقتصادية والمعيشية

> في ظل التركيز الشديد من قِبل أنصار الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه على الصعوبات الاقتصادية والمعيشية وغلاء الأسعار والبطالة، تراجع الاهتمام بـ«الشأن السياسي»، وبالملفات السياسية والدستورية والجيو استراتيجية التي كانت حاضرة بقوة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية التي نظمت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2011. بل إن التقارير المفصلة لبعض المنظمات المستقلة، التي تحصل على دعم مالي من عواصم غربية، مثل «منظمة بوصلة»، أصبحت تتحدث بوضوح عن كون التحضيرات للانتخابات المقبلة تجري في «مناخ لا سياسي». رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين الأسعد الذوادي، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن تياراً واسعاً من الشارع التونسي دعم الخطوات التي قام بها قيس سعيّد عندما فتح بعض «ملفات الفساد المالي» الكبرى، وأمر بإيقاف مجموعة من رجال الأعمال والمسؤولين السابقين عن البنوك والشركات العمومية ومصادرة أملاك بعضهم. ومن جهة ثانية، دعا عدد من الزعماء السياسيين والخبراء الاقتصاديين والنقابيين المستقلين إلى ضرورة ألا يتسبب تزامن التحقيقات القضائية مع «المتآمرين على أمن الدولة» ومع «الفاسدين مالياً» مع العملية الانتخابية في عملية «تصفية حسابات». ورأى هؤلاء أن «الأسباب العميقة للصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بها تونس أسباب هيكلية»، ولقد تعقّدت بعد سنوات من الجفاف و13 سنة من الاضطراب السياسي والإداري. وهنا يتساءل البعض عما إذا كانت انتخابات 6 أكتوبر ستساهم في تحسين فرص استرجاع ثقة ملايين الناخبين والمواطنين بصناديق الاقتراع، أم ترى سيتجدد سيناريو «امتناع» نحو 88 في المائة عن المشاركة في التصويت كما حدث خلال السنتين الماضيتين، وهذا بينما يضغط ملف الصعوبات الاقتصادية على كل من مرشحي السلطة ومعارضيهم.