افتتاح معرض «موناكو ـ الإسكندرية» للفن والسريالية العالمية

في المتحف الوطني الجديد « فيلا ساوبر»

لوغو معرض «موناكو - الإسكندرية»
لوغو معرض «موناكو - الإسكندرية»
TT

افتتاح معرض «موناكو ـ الإسكندرية» للفن والسريالية العالمية

لوغو معرض «موناكو - الإسكندرية»
لوغو معرض «موناكو - الإسكندرية»

أعلن متحف موناكو الوطني الجديد، اليوم، عن افتتاح معرض للفن السكندري الحديث تحت عنوان «موناكو - الإسكندرية، الانعطاف الكبير، عواصم العالم والسريالية العالمية»، ويضم المعرض مجموعة أعمالاً مختارة بتقييم فني لكل من مراد مونتازامي، ومادلين دي كولنت، مؤسسا شركة «زمان للنشر وإدارة المعارض». تنطلق فعاليات المعرض من مقر متحف إمارة موناكو الوطني في فيلا ساوبر بمشاركة من مجتمع جميل في إنتاج نشرة المعرض، وبرنامجه العام والتعليمي. ويستكشف المعرض الحوار الثقافي عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط في أوائل القرن العشرين، إلى جانب عرض أعمال لم يسبق عرضها خارج مصر من قبل.
واحتفاءً بتاريخ الإسكندرية وموناكو، المدينتين الرئيسيتين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإسهاماتهما في احتضان مجتمعات عالمية نابضة بالحياة من الفنانين الطليعيين خلال العقود الأولى من القرن العشرين، يستكشف المعرض ولادة تجربة الحداثة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وما صاحبها من تطورات موازية - ومتشابكة أحياناً - للحركة السريالية في هاتين المدينتين. ويضم المعرض كذلك أعمالاً مستلهمة من بيئة فيلا ساوبر في موناكو، وتذكرنا بفن العمارة الجميلة في الإسكندرية. ويأمل متحف موناكو الوطني أن ينتقل بالمعرض إلى الإسكندرية بعد اختتامه في موناكو بحلول مايو (أيار) 2022.
ويضم المعرض أعمالاً للعديد من الفنانين، على رأسهم كليا بدارو، وبراساي، وجورجيو دي شيريكو، ومارسيل دوشامب، وراؤول دوفي، وإنجي أفلاطون، وليونور فيني، وعبد الهادي الجزار، وجورج حنين، وفؤاد كامل، وإيدا كار، وجيرمين كرول، وأندريه لوت، وأنطوان مالياراكيس، ومايو، جويس منصور، ومحمد ناغي، وإريك دي نمس، وأنجيلو دي ريز، ومحمود سعيد، ووائل شوقي، وكامل التلمساني، وأدهم وانلي، وسيف وانلي، ورمسيس يونان، وآخرون.
وقال بيورن دالستروم، مدير متحف موناكو الوطني الجديد «دُشن معرض (موناكو - الإسكندرية، الانعطاف الكبير، عواصم العالم والسريالية العالمية) في مقرنا بفيلا ساوبر، من قِبل القيمين عليه، مراد مونتازامي ومادلين دي كولنت، ليكون بمثابة حوار بين اثنين من الموانئ الرمزية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبتتبع العديد من المسارات الفنية خلال حقبة العقود الأولى من القرن العشرين، يدعونا منظمو المعرض إلى إعادة التأمل في تاريخ الحداثة عبر مجموعة كبيرة من الأعمال والموضوعات التي تتجاوز التاريخ الوطني والرسمي، ومحاولة التعرف على المسارات المتعددة للفنانين وقضاياهم من خلال إلقاء الضوء على أعمالهم وتأثيرها على المجتمع». وقالت كليّا داريدان، قيّمة المعارض الفنية في مجتمع جميل ومؤرخة الفن السكندري «يهدف المعرض إلى إعادة التأمل في مساحة الإبداع في منطقة البحر الأبيض المتوسط من خلال التركيز على التاريخ العريق لمدينتين عالميتين رئيسيتين في مطلع القرن العشرين. ونحن في مجتمع جميل، نفخر بالتعاون مع متحف موناكو الوطني الجديد ودار زمان للنشر في إنجاح هذا الحدث الفني الذي يسلط الضوء على الحداثة والتجربة السريالية في عرض أكثر شمولاً لتاريخ الفن؛ بهدف المساعدة في إعادة هيكلة التجربة الطليعية لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط».
نُظّم المعرض بالتعاون مع مجموعة مي معين زيد وعادل يسري خضر (MMZAYK Collection) وتلقى البرنامج العام والتعليمي دعم من مؤسسة أليكسيس وآن ماري حبيب.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)