توثيق علاقة النمسا بالعالم العربي عبر «رحلة ألف عام»

المعرض القاهري يضم صوراً ولوحات نادرة

زائرة للمعرض في حديقة عابدين بالقاهرة (الشرق الأوسط)
زائرة للمعرض في حديقة عابدين بالقاهرة (الشرق الأوسط)
TT

توثيق علاقة النمسا بالعالم العربي عبر «رحلة ألف عام»

زائرة للمعرض في حديقة عابدين بالقاهرة (الشرق الأوسط)
زائرة للمعرض في حديقة عابدين بالقاهرة (الشرق الأوسط)

التاريخ والثقافة يتعانقان في معرض استثنائي بمصر يمثل رحلة شيقة عبر العصور الماضية تكشف عن عمق العلاقات الوطيدة بين النمسا والعالم العربي، فالمعرض الذي يقيمه المركز الثقافي النمساوي بحديقة عابدين بالقاهرة بعنوان «النمسا والعالم العربي: رحلة عبر ألف عام»، يضم عشرين لوحة فنية لكبار الفنانين الأوروبيين إلى جانب مجموعة من الصور الفوتوغرافية والوثائق النادرة التي تمت استعارتها من بعض المتاحف والمؤسسات الثقافية النمساوية لعرضها لأول مرة للجمهور العربي كاشفة له عن حقائق وأحداث تبرز قوة العلاقات التاريخية بينهما.
قبل مطالعة مقتنياته، يتوقف زائر المعرض طويلاً أمام عراقة المكان، حيث تطل الحديقة التي تحتضنه على أحد أكبر ميادين القاهرة أمام القصر الذي كان مقراً رئيسياً للحكم الملكي في مصر منذ افتتاحه عام 1872 في عهد الخديوي إسماعيل، وظل كذلك حتى ثورة 23 يوليو (تموز) عام 1952، ويُمثل قصر وميدان عابدين مركزاً للمدينة التي أنشأها إسماعيل، ورمزاً لمدينة القاهرة الخديوية التي بناها على غرار المدن الأوروبية الكبرى.
سابينه كرويسينبرونر مديرة المركز الثقافي النمساوي بالقاهرة، تقول لـ«الشرق الأوسط: «يدل المعرض على قوة ومتانة العلاقات بين النمسا والعالم العربي عبر ألف عام، وهي العلاقات التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا في جميع المجالات الثقافية والعلمية والتجارية، ذلك مع التركيز على مصر حيث تعتبر العلاقات المصرية النمساوية من العلاقات المتميزة تاريخياً».
وتابعت: «يلعب المعرض دوراً في مد المتلقي العربي بكم كبير من المعلومات الثقافية والتاريخية كما يسهم في التقارب الفكري بين النمسا والعالم العربي خصوصاً المواطنين العاديين وليس المتخصصين فقط، لذلك تم اختيار مكان المعرض بحديقة عامة متاحة للجميع، وبالفعل أسهم هذا الاختيار في اجتذاب أعداد كبيرة من الجمهور ممن اعتادوا التردد على الحدائق العامة بهدف التنزه، فأصبح الأمر يشمل الجانبين الثقافي والترفيهي».
يضم المعرض 20 لوحة لمجموعة من كبار الفنانين الأوروبيين بحجم كبير (مقاس 2.4x 1.2 متر) تعكس ولعهم بالمنطقة العربية، إلى جانب مجموعة من الصور الفوتوغرافية والوثائق النادرة التي تزيد على 30 عملاً نادراً تمت استعارتها من أماكن مختلفة بالنمسا مثل المكتبة الوطنية ومتحف تاريخ الفن وتتمتع جميعها بالقيمة التاريخية والفنية الكبيرة وتكشف عن حقائق يعرفها الجمهور لأول مرة وبعضها يتميز بالطرافة».
وبحسب سابينه: «تم الإعداد لهذا المعرض منذ أكثر من عام من حيث اختيار المادة العلمية ودفع حقوق الملكية الفكرية للمتاحف والمكتبات التي تم الحصول منها على المقتنيات والمعلومات، وقد تمت ترجمة نصوص الوثائق بالمعرض من الألمانية إلى اللغتين الإنجليزية والعربية حتى تكون متاحة لزوار المعرض بالقاهرة».
ومن بين الأعمال المهمة لوحة «الزرافة بحديقة حيوان قصر شونبرون» وهي ألوان مائية للفنان إدوارد جورك، وتبرز واقعة تاريخية مفادها قيام الوالي محمد علي في عام 1828 بإرسال زرافة حية للإمبراطور فرانسيس الأول إمبراطور النمسا كهدية من مصر وفق مديرة المركز الثقافي النمساوي التي أضافت في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «حازت الزرافة التي أهداها لنا محمد علي وهي أول زرافة تعرفها النمسا على شعبية كبيرة بفيينا إلى حد أنها كانت مصدراً للإلهام، إذ أوجدت موضة مستلهمة من الزرافة».
ويمكن لعشاق الفنون الإسلامية والباحثين الاستمتاع بمشاهدة ودراسة قطع فنية بأيدي فنانين نمساويين قاموا باستلهامها من الجوامع والمباني الإسلامية بالدول العربية، مثل القطعة الفنية التي أبدعتها الفنانة النمساوية أدريانا تشرنين من الخشب المحفور لمنبر السلطان لاجين بجامع ابن طولون بالقاهرة، وقد قامت الفنانة بنحتها طبقاً للشكل الأصلي.
ويشعر الجمهور كما لو أنه قام بزيارة القاعات المصرية بمتحف تاريخ الفن بفيينا، عبر الصور التي يضمها المعرض والتي تبرز أسقف القاعات مرفوعة على أعمدة الجرانيت المصرية القديمة الرائعة الجمال. ويبلغ طول كل منها أكثر من ستة أمتار وكانت وفق كرويسينبرونر «هدية من مصر للنمسا بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869».
ويضم المعرض مجموعة من الطرابيش النمساوية التي اجتذبت المشاهدين، وهي ما تعبر عنه سابينه قائلة: «لا يعرف الكثيرون في مصر أن مصدر الطرابيش التي ارتداها أجدادهم في القرنين الماضيين كانت صناعة نمساوية، فقد كانت نحو 80 في المائة من الطرابيش التي ارتداها المصريون في القرنين التاسع عشر والعشرين يتم استيرادها من النمسا».
يذكر أن المركز الثقافي النمساوي بالقاهرة جزء من شبكة دولية مكونة من 29 مركزاً ثقافياً تابعاً لوزارة الخارجية النمساوية. ويلعب المركز باعتباره المركز الثقافي النمساوي الوحيد في المنطقة العربية وقارة أفريقيا دوراً كبيراً في حوار الحضارات والثقافات. وقد تم إنشاؤه عام 1959 بواسطة الدكتور برنهارد شتيلفريد كجزء من البرنامج الثقافي للشرق الأدنى والذي كان يغطي العمل الثقافي النمساوي في المنطقة بأسرها انطلاقاً من القاهرة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».