في عام 1968 حدث شيء لم يكن معتادا على سطح السينما اللبنانية: خمس مخرجين جدد أمّوا العمل السينمائي بأفلام طويلة ووقفوا وراء الكاميرا لأول مرّة. سابقا ما كانت السينما اللبنانية تمنح مثل هذه الفرص لواحد كل عدة سنوات، لكنها آنذاك قررت أن الوقت حان لدماء جديدة.
كان من بينهم جورج شمشوم، فقد آثر الرحيل عن لبنان بعد ثلاثة أفلام بسبب الحرب الأهلية، رافضا العيش في بلد تمزّقه المصالح السياسية التي فرضت نفسها على الجميع وبعنف لم يكن مسبوقا نوعه وحجمه آنذاك.
* مهرجان وفيلم
* يبقى جورج شمشوم، الذي وُلد في النيجر سنة 1946، الوحيد الذي يزداد نشاطا مع العمر ولا ينكفئ عن العمل في أكثر من جانب من جوانب العمل السينمائي. جديدة الآن فيلم عن المرأة السعودية من خلال نموذج لأنثى اختارت بشجاعة، وقتما كان الاختيار صعبا، طريق السعي لاستكمال العلم لها ولعائلتها ودفعهم إلى العمل والبذل في سبيل ما يؤمنون به من غايات نبيلة وأهداف مثلى.
الفيلم، وعنوانه «أنشودة لأمي»، هو سيرة حياة الشاعرة والأديبة طاهرة عبد العزيز السباعي متسلحة بالرغبة في تحقيق ذاتها كمصممة أزياء منتقلة من السعودية إلى القاهرة، ثم إلى بعض العواصم الأوروبية، وصولا إلى الولايات المتحدة. لم يلحق بها الفيلم، لكن ها هم أولادها يتحدّثون، وقد ترعرعوا وأسسوا لأنفسهم مكانات اقتصادية واجتماعية وثقافية من دون أن ينسوا تضحية الأم وحسن تربيتها لهم. الفيلم، بالتالي، هو (مثل عنوانه) أنشودة شعرية لها تتمتع بصفات المخرج شمشوم الفنية الدقيقة.
لكن هذا الفيلم ليس جديده الوحيد. في أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام سينطلق مهرجان سينمائي جديد في لوس أنجليس باسم «مهرجان آسيا العالمي في لوس أنجليس» ساعيا لضم كل دول القارة الآسيوية من خلال ما لديها من إنتاجات فيلمية جيدة وجديدة. جورج شمشوم هو المدير التنفيذي له ورئيسه المنتج والوزير القرغيزستاني السابق صادق شرنياز. الاثنان وجدا ما يبدو منفذا صحيحا يؤمّـن أن لا يضيع المهرجان بين ألوف المهرجانات التي تقام حول العالم كل سنة.
حول هذين المشروعين، أساسا، جرى هذا اللقاء. شمشوم من النوع الذي يذوب حبّـا في كل شيء سينمائي. تولى هذا الفن كرسالة وحيدة ومن أجله ضحّـى بالكثير من العلاقات وعاند الكثير من المصاعب. لا ينسى المرء أنه وهو ما زال طري العود منجزا فيلمه الأول كيف واجهه أحد نقاد السينما الراحلين في لبنان بمقالة هاجم فيها الفيلم ونصحه بحرقه!
لكن جورج لم يحرقه ولم يتوقف. نراه سنة 1973 يطلق أول مجلة سينما عربية متخصصة تصدر من لبنان، وكان اسمها «فيلم». صحيح أنها توقّـفت بعد حين كانت ملامح الحرب الأهلية فيها بدأت تلوح في الأفق (وهو الذي حقق عنها أول فيلم تسجيلي عنها وعنوانه «لبنان إلى أين؟»، لكن المبدأ هو أنه تجرأ وفعل، كما هو الحال بالنسبة لكل ما قام به من أعمال حتى اليوم، وصولا إلى هذا الفيلم وهذا المهرجان(.
* كيف بدأت فكرة إقامة مهرجان آسيوي في لوس أنجليس؟ منذ متى بدأ اشتغالك على الفكرة؟
- جاءت الفكرة من شعوري بالإحباط حيال جوائز الأوسكار وسياستها تجاه السينمات الأجنبية. منذ سنوات طويلة لاحظت أن أعضاء الأكاديمية يفضلون البقاء في منطقتهم المريحة التي تعني أنه من بين 90 دولة حول العالم، فإن الدول الوحيدة التي تثير أفلامها انتباههم هي فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والدنمارك واليابان من بين أخرى قليلة جدا. في المقابل، نسبة قليلة جدا من أفلام باقي أنحاء العالم تتسلل إلى الترشيحات النهائية، علما بأن بعض إنتاجات هذه النسبة تفوق جودة الأفلام التي تصل إلى الترشيحات الرسمية.
* السبب؟
- فنانو هذه الأفلام يضعون كل جهدهم في أعمالهم، ولا يملكون الميزانية الكافية بعد ذلك للترويج لأعمالهم في الولايات المتحدة، هذا يعني أن أعضاء الأكاديمية إما أنهم لا يستلمون الأفلام، أو لا يكترثون حتى للذهاب إلى العروض الخاصّـة التي تقام لهذه الأفلام. أثارني أن فيلم نادين لبكي «إلى أين نمضي من هنا؟» لم يصل حتى إلى القائمة القصيرة من الترشيحات حين تم تقديمه قبل ثلاثة أعوام. وفي هذا العام كان هناك فيلمان رائعان لم يصلا بدورهما إلى الترشيحات الرسمية هما «ملكة الجبال» من قرغيزستان و«غادي» من لبنان. بالتالي أنا والكثير من محبي الأفلام الأجنبية وجدنا أن هناك حالة من عدم الإنصاف.
* أنشودة لأمي
* إذن بدأت الفكرة من هنا، لكن كيف استطعت تحويلها إلى مشروع فعلي؟
- تقدّم مني صديقي صادق شرنياز، الذي كان وزيرا للثقافة في قرغيزستان وسألني رأيي في إقامة مهرجان للسينما الآسيوية في لوس أنجليس. وافقت على الفور. رأينا أنه رغم تعدد المهرجانات حول العالم (أكثر من ألف) هناك فرصة لمهرجان مختلف ينطق باسم 48 دولة آسيوية. في اعتقادي أن المهرجان سيكون فرصة للجميع للاستفادة من تجميع أهم ما تنتجه دول هذه القارة الكبرى من أعمال، ومنحها الفرص الحقيقية لكي تصل إلى أعين أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية وأعضاء جمعية مراسلي هوليوود الأجانب (موزعة «غولدن غلوب») وباقي المؤسسات الفنية والنقدية. لهذا اخترنا إقامة المهرجان في موسم الجوائز.
* وسط كل ذلك، ولا أدري مشاغلك الأخرى، أتممت فيلما تسجيليا بعنوان «أنشودة لأمي».
- نعم.
* كيف وردتك الفكرة؟
- المشروع هو الذي جاء إليّ. السيدة فريال مصري (الابنة الكبرى للسيدة طاهرة عبد العزيز) بحثت عني طويلا قبل أن تجدني. هي التي حملت المشروع إليّ. في البداية لم يثرني المشروع كثيرا، لأنه لم يكن عندي ما يكفي من مواد لكي أعمل عليها.
* انسحبت؟
- حاولت. قلت لها إنني لا أعتقد أنني مهتم بتحقيق هذا الفيلم، لكنها كانت عنيدة. قالت إما أن تحققه أنت أو لا يحققه أي أحد سواك. قررت أن أبحث في هذا المشروع لأرى ما الذي أستطيع فعله. كل ما كان لدي هو قصّـة الراحلة التي توفيت سنة 2011 عن 78 سنة التي ترويها ابنتها فريال. طاهرة كانت وضعت عدة كتب في أدب الأطفال وفي الشعر وفي الأزياء، وكان عندها مئات الصور. هذا جيد لكنه غير كافٍ. لم يكن لديها أي مادة سينمائية مصورة سوى لقطة من دقيقتين مسجلة فيديو. بعد تردد دام أربع أشهر خلاله كانت الحوالة المصرفية تجلس معي إلى المكتب، قررت أنه لصنع هذا الفيلم علي أن أتصل بكل تلك الخبرات التي أعرفها رايان تيرنر (مونتير)، ديفيد فوكوموتو (مصوّر) كريس كريزا (شاعر وممثل يقوم بقراءة الأشعار في الفيلم) وسام لحود ونيكولا خبار جون ريد ومروان عكاوي والكثير من الخبرات التي أعوّل عليها.
كل هؤلاء وأنا وضعنا الخطة، وقمنا بالتنفيذ كل في مرحلته وحسب عمله، وهكذا ولد العمل.
* فاز الفيلم بجائزة منذ أشهر قليلة..
- نعم، فاز بجائزة أفضل فيلم تسجيلي في مهرجان الفيلم المستقل IndieFest في الولايات المتحدة. الآن يتم ترشيحه لمهرجانات أخرى.
* الفيلم يبدو بعيدا تماما عن ثقافتك وعالمك. أين مكمن اهتمامك؟
- الفيلم يوضح مكمن اهتمامي: تلك المرأة السعودية التي هي نموذج رائع والغاية من تقديمها هو منحها المكانة التي تستحقه في الغرب، خصوصا في هذه الأيام التي تتطلب تسليط الضوء على الإنجازات الإيجابية، وأن ما تدعيه بعض المؤسسات الإعلامية حول واقع المرأة في العالم العربي ليس الصورة الوحيدة الماثلة، بل هو ليس صحيحا في أحوال كثيرة. لكن إيمان ابنتها فريال بتقديم صورة أمّـها على نحو إيجابي تستحقه كان أيضا عنصرا مهمّـا بالنسبة لي. لقد كان له الدور الأول في هذا القرار.