«حواديت المآذن»... ارتبطت بطموح الحكام وشهدت معاركهم ومؤامراتهم

إيهاب الحضري يكتب عن مساجد مصر والأسرار المخفية بين حجارتها

«حواديت المآذن»... ارتبطت بطموح الحكام وشهدت معاركهم ومؤامراتهم
TT

«حواديت المآذن»... ارتبطت بطموح الحكام وشهدت معاركهم ومؤامراتهم

«حواديت المآذن»... ارتبطت بطموح الحكام وشهدت معاركهم ومؤامراتهم

يرصد كتاب «حواديت المآذن – التاريخ السري للحجارة» الصادر عن دار «الفؤاد» بالقاهرة، للكاتب الصحافي إيهاب الحضري، الأدوار المهمة التي لعبتها مساجد مصر في تاريخها السياسي والاجتماعي، لافتاً إلى أنها تعد ثروة معمارية وأثرية، تُخفي بين حجارتها الكثير من الحكايات والمعارك التي ارتبطت بالطموح والمجد الشخصي للحكام في شتى العصور، وشهدت معاركهم ومؤامراتهم تحت عباءة الدين.
يبدأ الحضري رحلته بجامع «ابن طولون» لافتاً إلى أن ملايين المصريين لا يعرفون موقعه لكنهم يتداولون صورته يومياً دون أن ينتبهوا، فهي تتصدر العملة المالية من فئة خمسة جنيهات. على قمة جبل «يشكر» بنى أحمد بن طولون مسجده الفريد بعد أن وضع شرطاً بالغ الصعوبة وهو أن يصمد المبنى في مواجهة تقلبات الزمن. كان يريد بناء جامع «إذا احترقت مصر بقي وإن غرقت نجا» ربما لهذا السبب اختار الجبل الذي كان الناس في ذلك العصر يعتقدون أن سفينة نوح استقرت عليه بعد انتهاء الطوفان فارتفاعه يحمي المسجد من خطر الفيضان، كما أن الطوب الأحمر الذي استُخدم في بنائه يزداد صلابة إذا شب حريق في البناء! وبالفعل بقي المسجد صامداً بينما اختفت كل منشآت «القطائع»، عاصمة الدولة الطولونية التي توسطها لسنوات طويلة ليصبح أقدم المساجد القائمة على وضعها الأصلي منذ تشييدها، حيث يزيد عمره على عمر القاهرة بنحو قرن كامل، فقد تم تشييده في سبعينات القرن التاسع الميلادي. السلالم الخارجية لا تنقل الزائر إلى أعلى فقط بل تمنحه شعوراً بالسمو ينساب بداخله تدريجياً، وبعد خطوات قليلة من عبور بابه الضخم يشعر بأنه انتقل بين عالمين خصوصاً مع مساحة المسجد التي تصل لستة أفدنة ونصف. على الصحن المتسع تُطل مئذنته الملتوية الفريدة من أعلى لتمنح المكان خصوصية لا تتكرر في بقية مساجد مصر، فقد تم تشييده على غرار مئذنة سامراء تلك المدينة العراقية التي نشأ فيها ابن طولون فظلت حاضرة في وجدانه وقرر بناء عاصمة حكمه على طرازها.

مفارقات ابن طولون

يرتبط مسجد ابن طولون بحكايات حافلة بالدلالات، فإحدى القصص ترجّح أن المهندس الذي بناه مسيحي هو سعيد بن كاتب الفرغاني، مما يدل على مرحلة ذهبية كان النسيج فيها واحداً رفع شعار «الدين لله والوطن للجميع» قبل قرون طويلة من إطلاقه في العصر الحديث. والغريب أنه عند التفكير في بناء المسجد كان الفرغاني في السجن بدلاً من مكافأته على تشييد منشأة أخرى، فقد ذهب ابن طولون ليعاين المنشأة لكنّ قدم حصانه غاصت بموضع به جير لا يزال رطباً وتعثرت الفرس، واعتقد الأمير أن الفرغاني تعمَّد ذلك فأمر بجلده خمسمائة جلدة وسجنه. مرت فترة عَلِم بعدها السجين برغبة الحاكم في بناء المسجد وكتب له مبدياً استعداده لتشييده بنظام فريد لا يعتمد على أعمدة سوى عمودي القبلة ثم رسم له تخطيطاً للجامع وافق عليه ابن طولون وخصص لتشييده مائة ألف دينار قابلة للزيادة، وشرع المهندس في بنائه على جبل يشكر. وبعد انتهاء العمل زاره ابن طولون ففر المهندس إلى أعلى المئذنة خوفاً من مصير مشابه لما سبق أن ناله، لكن النهاية كانت مختلفة هذه المرة فقد حصل على مكافأة سخية قدرها عشرة آلاف دينار.

مفارقات «الحاكم بأمر الله»

السكينة التي تسيطر على هذا الجامع لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الإثارة التي شهدها عصر تشييده، فهو ذو طراز إسلامي تقليدي لكن رائحة العتاقة التي تنبعث منه والفخامة التي يبدو عليها تخبئ معاناة سنوات طويلة رفع خلالها المسجد شعار «ارحموا عزيز قوم ذل». وللمفارقة العجيبة، فإن من بدأ تشييده كان العزيز بالله، الخليفة الفاطمي الذي اختفى اسمه من على مسجده ليحمل اسم ابنه الذي استكمل بناءه وأصبح ثاني أكبر مساجد القاهرة بعد «ابن طولون»، وعبر رحلة عمرها نحو ألف عام عانى كثيراً حتى تحول قبل إعادة إعماره إلى مخزن عشوائي للبصل!
بخطوات قليلة ينتقل الزائر من شارع المعز إلى صحن الجامع، وإذا كان من عشاق التاريخ فعليه أن يرتفع ببصره سريعاً لينتقل من أحجار الجدران الحديثة إلى المئذنتين اللتين تحتفظان في ذاكرتهما بتفاصيل قديمة جعلت من «الحاكم بأمر الله» واحداً من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ المصري. بدأ الخليفة الأب بتأسيسه عام 990م ثم توفي بعدها بستة أعوام ليتولى ابنه مقاليد الحكم وعمره لم يناهز 12 عاماً، فأمره الأوصياء عليه باستكمال العمل الذي انتهى عام 1002م، لكن الحاكم قرر زيادة فخامة الجامع وانتهى ذلك بعد عشر سنوات وكانت أول صلاة به في الجمعة الأولى من رمضان عام 1013م.
تعرض المسجد لتحولات كثيرة أدت لترميمه وبدءاً من القرن الخامس عشر لاقى إهمالاً شديداً وأصبح أطلالاً حتى إن جنود الحملة الفرنسية استخدموا مئذنتيه في القرن الثامن عشر كبرجَي مراقبة، ثم تحول مكانه إلى مصنع قبل تشييد مبنى بداخله أصبح بذرة لأول متحف للتراث الإسلامي. في الليل يبدو الجامع أكثر جاذبية بإضاءته التي تمنحه قدرة إضافية على الإبهار.
توسع الجامع وظلت جدرانه ترتفع على مدار مراحل البناء وتزايد معها عمر الخليفة الطفل، الذي تشرَّب لعبة السياسة وأتقنها فأطاح بوزراء كبار حاولوا التلاعب به وتحويله إلى مجرد واجهة وفرض أنفسهم كحكام من الظل وكان مصيرهم القتل الذي أنهى جبروتهم ومن بينهم وزيره القوي برجوان صاحب الحارة الشهيرة بشارع المعز. لقد ضاق الخليفة بسيطرة الوزير عليه فأرسل مَن قتله خلال وجوده بالحمام وقام بمصادرة أمواله وممتلكاته وكان مما تضمنته مقتنياته المنقولة مائتا مليون دينار ذهب وخمسين إردباً من الدراهم الفضية، والإردب وحدة من الأوزان تعادل نحو 150 كيلوغراماً أو أكثر. وللدلالة على ضخامة مقتنياته قيل إنه تم نقلها من بيته بالحارة الشهيرة إلى قصر الخليفة على مراحل فكان يتم نقل دفعتين منها يومياً على مائتي جمل واستمر ذلك أربعين يوماً، بخلاف ما يملكه من منازل وضِياع وعبيد وجوارٍ وبهائم.

جامع «السلطان حسن»

بدأ السلطان حسن في تشييد مدرسته 1356م، وكان عمره 22 عاماً. تبدو السن صغيرة، لكنه كان في تلك الفترة في الثلث الأخير من عمره حيث سيتعرض للقتل بعدها بنحو خمس سنوات. حرص السلطان على أن تكون القبة بالغة الفخامة لكي تضم جثمانه بعد رحيله، فأبدع المهندس في تشييدها وزخرفتها بل إنه خرج عن العرف المتّبع فيما سبقه من المساجد فوضع القبة أمام محراب المنبر وفصل بينهما بجدار ضخم في الصحن فتتسع الرؤية. الأروقة الأربعة تنتصب شامخة ومن أعلى تُطل المئذنتان الباقيتان ربما تشعران بالحنين لزمن كان يحفظ للمآذن قدرها قبل أن تأتي مكبرات الصوت لتحيلها إلى التقاعد ولا يبقى منها سوى الجمال القديم الذي أصبح بعيداً عن اهتمام المارة في الشوارع المحيطة حيث شغلتهم هموم الحياة اليومية عن النظر لأعلى فخطوا مسرعين نحو أشغالهم التي لا تتيح لهم وقتاً للإحساس بالجمال.
عندما شرع السلطان حسن في البناء كان يخطط لتشييد أربع مآذن لكنه لم يبنِ سوى ثلاث، بعدها بسنوات سقطت تلك الواقفة على الباب فقتلت نحو ثلاثمائة شخص من بينهم أطفال كانوا في الطريق وكبار كانوا في القبو أو مرّوا صدفة في الطريق، واعتبر الناس أن الحادث نذير شؤم وتنبأوا بقرب زوال حكم السلطان حسن، وهو ما تحقق بعدها بفترة قصيرة.

مسجد «الملكة صفية»

يستحضر هذا المسجد ذكريات نزاع غريب بين ملكة عثمانية لم تزر القاهرة إطلاقاً ومملوك لها بدأ تشييد الجامع ثم مات قبل أن يكتمل وكان يمكن أن يحتفظ المسجد باسمه حتى الآن لو جاء الحكم لصالحه. في أحد أيام عام 1594 نظرت هيئة المحكمة بإسطنبول الدعوى غير التقليدية. وكان عثمان آغا قد بدأ تشييد المسجد وخصص له أوقافاً كثيرة شملت 400 فدان في منوف وعقارات بحي بولاق منها 17 شونة و32 دكاناً و15 رَبعاً و5 آبار. خلال التشييد مات عثمان آغا، ولأنه من مماليكها رفعت الملكة صفية، زوجة السلطان العثماني مراد الثالث، الدعوى وأوكلت عنها عبد الرازق آغا الذي أكد أن عثمان عبد لها وبالتالي لا يحق له بناء الجامع ولا تخصيص أوقاف له، وقدم فتوى دينية بأن من حق السيدة أن تستحوذ على كل ممتلكات مملوكها. لكن الطرف الثاني في الدعوى أقسم أن الملكة أعتقت عثمان قبل إنشاء المسجد ثم طلب سماع شهادتها بشكل مباشر فوافق القاضي على طلبه وأرسل مندوبين إلى القصر أقسمت أمامهما الملكة صفية أنها لم تحرر عبدها قبل وفاته، وبهذا صدر الحكم لصالحها وتم إلغاء الوقفية واستُكمل بناء المسجد وصار باسمها، ليصبح ثالث جامع أُقيم على الطراز العثماني بمصر بعد «سليمان باشا» بالقلعة و«سنان باشا» في بولاق.
لجأ إيهاب الحضري إلى أسلوب أدبي يعتمد التشويق وسلاسة السرد جعل الكتاب (220) صفحة من القطع المتوسط، لينجو من فخ الكتابات التاريخية الجافة ويأخذ شكل الفصول الأدبية المثيرة، لكن يؤخذ عليه الاستطراد في التعليقات التي جاءت أحياناً خارج سياق الحدث.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.