الأحلام الكبيرة تحتفظ ببريقها وقوتها وتدافع عن حقها في الوجود، وعندما تتحقق تغمر بضوئها وشعاعها كل من عمل لها وكل من آمن بها ويفيض ضوؤها على الجميع. في عالم الأحلام الكبيرة التي تعيشها المملكة العربية السعودية حالياً هناك الكثير، منها ما زال يومض في السماء منتظراً دوره ومنها ما هبط ببريقه إلى الأرض ليغمرنا بفرحة التحقيق.
في مدينة جدة، عروس البحر الأحمر، تحقق أحد تلك الأحلام وهو حلم مؤسسة «فن جميل» بإنشاء حي إبداعي متكامل، حلم داعب رئيس المؤسسة فادي جميل كثيراً وأسلم عنانه للمؤسسة الطموح، والأسبوع الماضي تحقق الحلم وافتتح «حي» ملتقى الإبداع وسط حضور إعلامي وفني ضخم حاملاً الوعود بإضافة الكثير للمشهد الثقافي والفني بالمملكة.
مع فادي جميل لنا حوار حول المشوار والحلم، وما تخلل الرحلة من محطات. بدايةً أسأله: «فن جميل» تبدأ اليوم من جدة فصلاً جديداً من مشوارها مع الفنون والتواصل مع المجتمع، هل تحقق الحلم أخيراً أم أن هناك المزيد؟ يجيبني قائلاً: «بالطبع تحقّق حلم عملنا عليه منذ زمن، هو إنشاء هذا الصرح الثقافي والمجمع المتعدد التخصصات في جدة. نكمل اليوم مسيرة سنوات من العمل والجهود المجتمعية في أنحاء المملكة والمنطقة والعالم، ونعدّ حي جميل تتويجاً لـ75 عاماً من العمل الخيري العالمي لعائلة جميل».
لمن خابر العمل المجتمعي ورافق الأحلام الكبيرة يعرف أن هناك دائماً الطموح لتحقيق المزيد، وهو ما يفكر به فادي جميل: «بالطبع هنالك المزيد، فنحن نطمح من خلال (حي جميل) في جدة لأن نبدأ فصلاً جديداً من التعاون المجتمعي تنتج عنه المبادرات والبرامج التي تتكيف مع التطور الثقافي الكبير في مملكتنا. ونلتزم بدورنا في قيادة التغيير الإيجابي والمؤثر لمدينة جدة والمنطقة». الخطط المستقبلية وُضعت بالفعل ووضعت البذور للأحلام القادمة، «دوماً نخطط لغد يخدم المنطقة، والمشهد الإبداعي، والثقافي المحلي، والعالمي».
في مشروعات المؤسسة هناك دائماً هدف وإضافة يستفيد منها المتلقي العربي، آليات التخطيط والتنفيذ تتواصل لتحقيق الهدف، ولكن هناك تساؤل: كيف تتحدد أولويات المشروعات المختلفة؟ وما آليات التخطيط لها وتنفيذها؟ ربما تأخذنا الإجابة لكواليس صنع القرار والاستراتيجيات المختلفة التي يقوم عليها عمل المؤسسة، وتأتينا الإجابة من فادي جميل: «جوهر عملنا في مؤسسة (فن جميل) ينبع من المجتمع الإبداعي، وفي قلب كل ما نقدمه هو التعاون المشترك والمتعدد التخصصات مع المؤسسات الثقافية كافة، المحلية كانت أم العالمية». يشدد على أهمية الشراكات مع المؤسسات الثقافية المختلفة ويشير إلى دورها في «تحديد الأولويات التي تنصبّ في مصلحة المجتمع المحلي أولاً». وبالنسبة لآليات التخطيط فهي أيضاً تعتمد على التعاون المشترك «الذي من شأنه إثراء البرامج الثقافية والفنية وتقديم صورة متكاملة للمتلقي تجمع ما بين التخصصات والنشاطات المختلفة».
من حق رئيس «فن جميل» الفخر بما حققته المؤسسة حتى الآن عربياً وعالمياً، ولكن الأمر يزيد أهمية وحميمية في بلده ويرجع الفضل لقدرة المؤسسة على «الاستماع وتلبية متطلبات المشهد المتغير والمتطور دوماً».
دعم الفنانين وتشجيع تبادل الأفكار
بالنظر لما يضمه «حي جميل» بصفته «ملتقى الإبداع» نرى هناك عناصر عديدة ومتنوعة مثل السينما وصالات عرض فنية ومنصة للمسرح الكوميدي وغيرها مثل مساحات «سكان حي» التي تحتفي بريادة الأعمال الثقافية في جدة (ستطلق فعالياتها في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) القادمين)، واحتفالات «مجتمع حي» التي تتضمن مجموعة من البرامج وورش العمل والعروض السينمائية وأنشطة رمضانية خاصة.
أقول له معدِّدةً كل تلك الأنشطة لأستشفّ منه توقعاته: انتظرتْ مدينة جدة افتتاح (حي جميل) لسنوات، ما توقعاتكم لردة فعل الجمهور السعودي؟ يستبق التوقعات بتقديم المعطيات ويقول: «(حي جميل) صُمم ليتجاوب مع الخصائص الفريدة للمشهد الفني الإبداعي لمدينة جدة، ويسعى المجمع دوماً إلى دعم ورعاية الفنانين والمبدعين، وتشجيع تبادل الأفكار بين المجالات الفنية والتخصصات الإبداعية بشتى أنواعها». المؤسسة رأت أنه من المهم أن تسهم بدور فعّال في توفير «بنية تحتية تسهم في نمو المؤسسات الإبداعية والشركات المهتمة بصناعة المحتوى الفني والثقافي». يرى أن «التنوع الثقافي والتجاري من شأنه أن يجذب شريحة أكبر من المجتمع المحلي للاستفادة من كل ما يقدّمه الحي، ومن شأنه أيضاً تشجيع المبدعين ورواد الأعمال لتحقيق طموحاتهم وهم على يقين أن المجتمع المحلي موجود ليدعمهم».
سكان «حي جميل»... شركاء الإبداع
سكان «حي جميل» يجمعون فيما بينهم الفن المعاصر، وعروض الأداء، والتصميم والنشر، إضافة إلى معهد للخَبز، ومقاهٍ ومطاعم متعددة. ومن أول السكان في مجال الفن المعاصر «غاليري أثر» من جدة، وفي مجال ريادة الأعمال متجر «هوم جرون» وهو عبارة عن متجر مفاهيمي ومنصة إلكترونية أسسته تمارا أبو خضرة للمصممين الناشئين من السعودية والعالم العربي، لتشجيع ريادة الأعمال.
هناك أيضاً «المُحترَف» وهو بيت تصميم متعدد التخصصات له خبرة أكثر من 35 عاماً في التصميم التحريري وتصميم العلامات التجارية والهويات المختلفة. تتضمن نشاطاته تصميم الخط العربي والمنشورات المطبوعة وتصميم المساحات. ومن عالم تصميم الأثاث ينضم للسكان «رواق دهر» وهو استديو للتصميم في جدة للمعماري ومصمم الأثاث البراء أسامة صائم الدهر، والذي تركز منتجاته على خامات من طبيعة المملكة، حيث تمزج عناصر الحرف مع العمارة. وفي مجال الطهي تنضم «أكاديمية عيش» للحي، وهي مؤسسة سعودية جديدة متخصصة في فنون الخبز أسستها سمية شويل، والتي تمتلك خبرة عشرة أعوام من العمل كطاهية معجنات مدربة على يد طهاة مشهورين عالمياً وقادة في تعليم صناعة الخبز والمعجنات. تهدف «أكاديمية عيش»، التي تعد مساحة لورش عمل مخصصة، إلى تحديث النهج التقليدي للخبز.
وفي فنون الأداء سيتخذ «الكوميدي كلوب» وهو أول نادٍ كوميدي في المملكة العربية السعودية لسكان الحي، ومكان للأداء ومساحة لورش العمل التفاعلية التي صمّمها متخصصون في هذا المجال، لتقديم جيل جديد من الحكائين.
أتوجه بالسؤال عن هؤلاء السكان ومن سينضم لهم لاحقاً لإثراء نسيج «حي جميل» وأقول: سكان «حي» والعاملون فيه ينتمون إلى مجتمع واحد له أهداف مشتركة، ما أهم الأسس لاختيار «السكان»؟ يقول: «(حي جميل) من جدة ولجدة، والجميع مدعوُّ لاستكشاف المجمع والانضمام إليه. سكان (حي) يمثّلون نخبة من رواد الأعمال السعوديين الذين تمكنوا من صياغة مجالات أعمالهم بإبداع، وقدرتهم على صياغة مفاهيم جديدة للإنتاج الإبداعي مكّنتهم من الانضمام إلى أوائل سكان (حي). التميّز فيما يقدمونه، بالإضافة إلى رغبتهم في إحداث تغيير إيجابي في المدينة، من أهم عوامل اختيار سكان (حي)».
أسأله في نهاية حوارنا: منذ انطلاق مؤسسة «فن جميل» ماذا كانت الرؤية؟ والذي تحقق منها حتى الآن؟ وهل تغيرت الرؤية في أثناء الرحلة؟ ليجيب قائلاً: «منذ بدايات تأسيس (فن جميل) كان وما زال هدفنا هو دعم الفنانين ومجتمعات الإبداع، وهذا الهدف كبير وواسع، حيث إننا استطعنا من خلال هذه الرؤية أن نعيد تعريف التخصصات الإبداعية ونجمع ما بين دعم البحوث المتعلقة بتاريخ المنطقة، ودعم الإنتاج الثقافي والفني من خلال التكليفات والمعارض المتخصصة وتوفير بنية تحتية للدعم المؤسساتي من خلال الإعارات والشراكات الثقافية مع كبرى المتاحف والمؤسسات والجهات المحلية والعالمية، العامة منها والخاصة. الرؤية لم تتغير ولكنها تتكيف مع تغيرات المنطقة والعالم، فمؤسسة (فن جميل) تفخر بكونها سريعة الاستجابة لمتطلبات المجتمع الآنية».
أطلق «حي جميل» برنامجه الافتتاحي الأسبوع الماضي لسكان مدينة جدة ولعموم سكان المملكة، الرهان على الإبداع والمشاركة، والدور الآن على مشاركة الجمهور التي ستعطي «حي جميل» معناه الإبداعي.