مليكة العاصمي.. تجربة شعرية توزعت على أكثر من مجال

كرمها مهرجان مراكش الدولي للشعر

مليكة العاصمي بعد تكريمها
مليكة العاصمي بعد تكريمها
TT

مليكة العاصمي.. تجربة شعرية توزعت على أكثر من مجال

مليكة العاصمي بعد تكريمها
مليكة العاصمي بعد تكريمها

تميزت الدورة الثانية من مهرجان مراكش الدولي للشعر، التي نظمت أخيرا على مدى 3 أيام، تحت شعار «الإبداع والهوية»، بمشاركة شعراء ونقاد من المغرب وفلسطين ومصر والأردن وسوريا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال والدنمارك وإسبانيا وتشيلي، بتكريم الشاعرة المغربية مليكة العاصمي، تقديرا وعرفانا بتجربتها.
لا يمكن لتكريم العاصمي في مراكش إلا أن يكون الأجمل والأبهى من بين كل التكريمات التي حظيت بها هذه الشاعرة المتميزة، التي انطلقت، في تجربتها، بخلفية مراكشية، لكن، بامتداد مغربي وعربي، مبرزة أن مراكش «حضارة عتيدة وأفق للسؤال».
لا يمكن لتكريم العاصمي، في مدينتها وبين أهلها ومتتبعي تجربتها، إلا أن يخفف بعض الأسى الذي يمكن أن يشعر به أي شاعر، بصدد أوضاع الشعر في بلده، هي التي ترى أن من حق الشاعر أن يوضع في المكانة التي يستحقها، ومن حق الشعر أن يخصص له الفضاء والمناخ والمؤسسات التي تليق به.
وتعد العاصمي من أبرز الأصوات الشعرية التي طبعت مسيرة المشهد الشعري المغربي المعاصر، لذلك يلقبها المشارقة بـ«شاعرة المغرب الكبيرة»، فيما لا يختلف المغاربة، في شأنها كثيرا، ويعتبرونها «من الشاعرات المغربيات القليلات اللواتي يمكن القول إن لهن تجربة شعرية وليس مجرد دواوين».
ويتميز مسار العاصمي بتجاور العمل الاجتماعي والنضال السياسي والإبداع الشعري والأدبي في تجربتها، لذلك كان عاديا أن يتزامن نشر ديوانها «دماء الشمس»، مثلا، مع دخولها تجربة انتخابات سياسية جزئية.
حديث المثقفين عن توزع تجربة العاصمي على أكثر من مجال، قد ينتهي إلى نفس التحليل الذي تعترف من خلاله صاحبة «نحن وأسئلة المستقبل» بواقع الأشياء، فيما تدافع عن اختياراتها، حيث تقول: «للوقت والمسؤوليات التي أحمل نفسي بها أو أجد نفسي فيها، سلطتهما وصولتهما وإكراهاتهما».
بالنسبة للمراكشيين، بشكل خاص، والمغاربة، بشكل عام، لا يهم أن نقدم صفة على أخرى، حين الحديث عن العاصمي: كاتبة وشاعرة وبرلمانية وفاعلة في المجال الاجتماعي، أو برلمانية وفاعلة في المجال الاجتماعي وشاعرة وكاتبة. المهم أن الاسم متداول بين الناس، مع تفضيل الكثيرين اجتماع العلم والسياسة والشعر على المال والسياسة، حين المرور إلى واقع الانخراط في العمل السياسي.
ويعتبر «دماء الشمس» من أجمل دواوين العاصمي. فـ«دماء الشمس» هي نفسها «دماء الروح»، تقول الشاعرة، حيث «الشعر نحيبها الداخلي وصورة عن هزائمنا ومواجهاتنا اليومية ومآسينا، إذ كثيرا ما نؤوله لأنفسنا أو يؤوله الآخرون نيابة عنا»، في ظل «واقع يستنفر الطاقات والإرادات الطيبة لنحت الأمل من اليأس، والوقوف في وجه تيار الإفساد الجارف ومواجهته»، لذلك يظل «الشعر واحة تنفث فيها الروح أوجاعها ومآسيها».
في ديوانها «دماء الشمس» ترصد الشاعرة مشهدا يقدم لصور بنفس وثائقي حارق: الكلب يتلصص، وعين الصقر تدور، والحدأة تتربص _ تختلس. ذنب مقطوع يتلوى من حر الذبحة وذنب آخر منفوش في التربة. نمس يلهث خلف الطاووس الممسوخ. قرد يخرج من جحره يقفز ويصفق. جرذان ترقص. ذئب يعوي. فئران تمرح فرحا حين غياب القط، فيما تتسلل ثعالب خلف المشهد: مشهد _ قصيدة تحترم خلالها شاعرتنا ذكاء القارئ، إذ ترتب لزاوية الرؤية، فيما توزع الأدوار. مشهد _ قصيدة تمهد للبورتريه الأول، حيث قصيدة «الكلب» بنفس الملامح الشعرية والنفس الإيحائي الهادف: «يلقم للكلب الجائع حجرا. يتبعه الكلب».
في البورتريه الثاني، ينضاف للبورتريه الأول «كلب آخر»: «يطل من الفتحة فتحة الباب يتسلل نحو الداخل ليشم الأوراق ويتصيد مكر القوم».
في البورتريه الثالث، نكون مع الذئب _ القصيدة: «خطابه منمق ووجهه مسطول حين يفيض منه المكر. شدقه يبيض من جانبه. وحين ينبح الكلب يغشيه السواد. حين القط يستنفر نابه ينقض».
في البورتريه الرابع، قصيدة «ثعابين»: «لمسهم أملس ألوانهم مزركشة أشكالهم تغوي بخفة في الرقص حين يزغردون يغررون وحين يرقصون تضرب صعقة الموت».
بعد البورتريه الرابع، وقبل البورتريه الخامس (مكلف مهمة) والبورتريه السادس (نهاية)، تسطع شمس الشاعرة بين دماء الشمس: القصيدة، حيث نكون مع «أيد سافلة تجترح خطاياها من دون حياء، وتعج كما الأفعى برحيق السم وتنقض على الكون».
في قصيدة «إبداع»، المضمنة ديوانها «شيء له أسماء»، تتموج شاعرتنا كالبحر المتلاطم عند المد. تتلاحق أنواؤها عارمة، ويشعشع نورها. تتألق كالبرق الراكض من خلف الغيمة، وتتوهج كالمشكاة بنور الله، لتقول: «أتربع سيدة الإبداع على نهد النجمة. يكتمل جنوني وفنوني. يزأر في أرجائي، أقبيتي، سلطان الغابة. يزأر أسدي من وله بالنجم الأحمر يخترق الآفاق».
فضلا عن القصائد، يتضمن ديوان «شيء له أسماء» دراسة نقدية لصبري حافظ، بعنوان «تحولات التجربة الشعرية»، يصف فيه الناقد المصري العاصمي بـ«الشاعرة المغربية الموهوبة»، متناولا «تجربة تنطوي على مجموعة من الثوابت، ومن التحولات التي تنتاب البنية والرؤية معا». بصدد الثوابت، يتحدث حافظ عن «المراوحة المستمرة بين الصوت الذاتي الحميم النابض بالصدق والرغبة في الانعتاق من أسر القيود، والصوت الجمعي المهموم بالواقع العربي وبقضايا العدل الاجتماعي والحرية». أما أهم التحولات الشعرية، فتبقى هي تلك التي «انتابت البنية الشعرية وبدلت من صيغة القصيدة نفسها، فابتعدت بها بالتدريج عن الغنائية واقتربت من الدرامية والتراكب، واستخدام الإحالات التناصية والأسطورية، في توسيع أفقها وإثرائها بمستويات متعددة من المعاني والتأويلات، ابتعدت بها عن التناول المباشر للموضوع، إلى التعامل الاستعاري والرمزي معه، لتتحول التجربة إلى تذكارات تضيف فيها الشاعرة بعد الزمن إلى بعد الواقع المتعين، فيتحول الوجود الشعري عندها إلى وجود في الزمن لا خارجه».
يتقدم حافظ أكثر، فيتحدث عن لجوء العاصمي إلى «إدارة جدل بين الرؤى المتجاورة، والمتحاورة، لتوسيع أفق التجربة باستمرار»، و«استخدام استراتيجيات التجاور والاختلاف، واللعب بالحروف، والولع بالتقفيات الداخلية، والاكتفاء بالإيماءات الدالة دون التصريح. لكن هذا التراكم البنائي والدلالي لم يتحقق في عالم الشاعرة، كما هو الحال لدى عدد آخر من الشعراء، على حساب الوضوح، ولم يصب القصيدة بالالتباس والغموض، بل ظلت، رغم التراكب، تتسم بالسلاسة والحميمية، والنصاعة الدلالية».
هي ذا العاصمي الشاعرة الكبيرة والموهوبة التي، ما بين البدايات على درب الشعر والإبداع، حيث القصيدة الأولى والديوان الأول وآخر القصائد والدواوين، طورت تجربتها. تقول: «التطور تلقائي تاريخي عندما يكون الشاعر جزءا من حركة الحياة ملتحما بتقلبات الإنسان والعالم والعصر ومكتسبات هذه الأقانيم وكبواتها، بما فيها تقلبات الذات والكينونة الخارجية والداخلية العميقة، باعتبارها أقانيم في حد ذاتها متعددة ومصطخبة في كل لحظة بأحاسيس ومشاعر وانشغالات وهموم مختلفة ومتفاوتة».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»