لا ينسى «المتعرّفون الخارقون» وجهاً أبداً؛ إذ يكفيهم التركيز في الوجه مرّة واحدة للتعرّف عليه فوراً في المرّة التالية، حتّى ولو التقوا به بعد سنوات، وحتّى إذا رأوا منه معلَماً واحداً كالعينين.
ويشكّل هؤلاء فكرة واضحة عن شكل الوجه في الوضعية الجانبية حتّى ولو رأوه مواجهة في البداية. في المقابل، يرى النّاس العاديّون الوجوه بأشكالٍ مختلفة؛ إذ يبدأ الدماغ بالتقاط صورة أمامية للوجه ثم تصبح هذه الصورة التي يتذكّرونها تلقائياً – إذا استطاعوا تذكّرها أصلاً.
مهارة خارقة
يقول جوش ديفيس، أستاذ علم النفس التطبيقي في جامعة غرينتش، لندن، وخبير متخصص في دراسة المتعرّفين الخارقين super - recognizers «يمتلك المتعرّفون الخارقون مهارة غير اعتيادية يعمل العلماء على استكشافها منذ سنوات، وما زلنا في بداية الطريق لمعرفة كيف أنهم يتعرّفون على النّاس بهذه الطريقة الغريبة».
ينتمي المتعرّفون الخارقون إلى مجموعة نخبوية – يقدّر العلماء أنّ نسبتهم لا تتعدّى 2 في المائة من سكّان العالم – ويحتلّون المرتبة الأولى في طيف التعرّف على الوجه الذي يضمّ عمى التعرّف على الوجوه، وضعف التعرّف عليها.
من جهته يرى ريتشارد راسل، أستاذ علم النفس في جامعة غيتيسبرج، وناشر ورقة بحثية صدرت عام 2009 تعتبر أوّل الجهود لوصف المتعرّفين الخارقين، أنّ «المجتمع يفترض أنّ الجميع متشابهون عندما يتعلّق الأمر بالتعرّف على الوجوه، وأنّ الجميع يرى العالم بالطريقة نفسها».
يدرس الخبراء المتعرّفين الخارقين في محاولة منهم لمعرفة المزيد عن العلم الكامن خلف قدراتهم غير الاعتيادية. وترجّح الدراسات التي شملت توائم متطابقة وآباء وأبناء أنّ الأمر وراثي رغم أنّ الباحثين لم يعثروا حتّى اليوم على العامل الجيني الذي قد يكون خلف هذه المهارة.
يختلف النشاط الدماغي للمتعرّفين الخارقين عن النّاس العاديين؛ إذ إنّهم يظهرون فيزيولوجيا كهرَبائية أكثر نشاطاً أثناء معالجة التعرّف؛ ما يعني أنّ أدمغتهم تشهد أحياناً فورات في النشاط الكهربائي تفوق قدرة تحكّمهم.
ويشرح ديفيس، أنّه «وبعد وقتٍ قصير من رؤية هؤلاء وجهاً يعرفونه، يظهر المسح ارتفاعاً في نشاطهم الدماغي لا يعيشه الأشخاص العاديون». تعتمد هذه المهارة على الدماغ بشكلٍ كبير؛ إذا إنّ الإصابة بجلطة دماغية تؤدّي إلى خسارة المتعرّفين الخارقين قدرتهم الاستثنائية هذه». ويضيف «اختبر زملائي أحد هؤلاء المتعرّفين الخارقين بعد تعرّضه لجلطة ووجدوا أنّه أصبح إنساناً عادياً».
ذاكرة عميقة
يستطيع معظم المتعرّفين الخارقين التعرّف على الوجه بعد مرور سنوات – حتّى ولو كانوا قد رأوه مرّة واحدة ولوقتٍ قصير – سواء وجهاً لوجه أو في صورة. ويستطيعون أيضاً تذكّر وجوه الأطفال ووجوه أشخاصٍ من لونٍ وعرقٍ مختلفين عن لونهم وعرقهم. علاوة على ذلك، استطاعوا حتى خلال هذه الجائحة التي فرضت ارتداء الأقنعة على الجميع، التعرّف على الأشخاص من العينين.
ونقلت الإعلامية الأميركية مارلين سيمونز عن ميكي رامون، عالم أعصاب إدراكي وأستاذ مساعد في جامعة فريبورغ، سويسرا، الذي يرأس أيضاً مختبر «التعرّف التطبيقي على الوجه» المموّل من المنظّمة السويسرية الوطنية للعلوم لدراسة المتعرّفين الخارقين «تملك أدمغتنا تصوّرات غنيّة للوجوه المخزّنة في ذاكرتنا والتي تعود لأشخاصٍ نعرفهم جيّداً وبأوضاعٍ مختلفة. أمّا بالنسبة للوجوه غير المألوفة التي لا نملك تصوّرات واضحة لها، فعلينا أن نعتمد على المعلومات التي نراها. وللوجوه التي لم نراها أبداً ونعرفها من صورة، فتبدو أشبه بصورة ملتقطة للشخص العادي، بينما يستطيع المتعرّف الخارق تخيّل كيف يبدو وجه الشخص الظاهر فيها من زوايا أخرى».
يعتقد الخبراء، أنّ المتعرّفين الخارقين قادرون على الأرجح على رؤية صورة طفل والتعرّف على الشخص البالغ الذي أصبح عليه لاحقاً. تتحدّث الورقة البحثيّة التي شارك فيها راسل عن ما أسماه الباحثون «اختبار ما قبل الشهرة» وغيرها من الأدلّة القوليّة التي تدعم هذه الفكرة.
شرطي متميز
وبصرف النظر عن الأدلّة العلميّة، تحوّل المتعرّفون الخارقون إلى عناصر فاعلة في الشرطة والعمل الأمني اللذين يتطلّبان تعرّفاً على هويّة المشتبه بهم ومطابقة الوجوه.
يعمل أندرو بوب (43 عاماً) كمتعرّفٍ خارق لصالح شرطة «ويست مدلاندز»، ثاني أكبر قوّة شرطة في بريطانيا، حيث يخدم كعنصر داعمٍ في الشرطة المجتمعية في برمنغهام مع فريق «سيفر ترافل بارتنرشيب»» الذي يراقب القطارات والحافلات ومركبات الترام بهدف الحفاظ على سلامة الركّاب والعاملين. ونجح بوب في التعرّف على أكثر من ألفي مشتبه به منذ عام 2012 بعد اختبار أثبت أنّه ينتمي إلى فئة المتعرّفين الخارقين.
انضمّ بوب إلى القسم عام 2005، ولكنّه لم يكن يعلم أنّه مختلف عن زملائه حتّى اندهش مشرفه من عدد المرّات التي نجح فيها بوب بالتعرّف على المشتبه بهم وطلب إخضاعه للفحوص. (وتجدر الإشارة إلى أن الراغبين في الخضوع لاختبار قدرات التعرّف يستطيعون ذلك عبر موقع SuperRecognisers.com ليعرفوا ما إذا كانوا من أبناء هذه الفئة الاستثنائية). وقد استطاع بوب التعرّف على مشتبهٍ به اعتقل بتهمة حيازة المخدّرات فور رؤيته في صورة جنائية تعريفيّة بعد أن رصده قبل عامين في تسجيل من كاميرا لإحدى حافلات المدينة.
يقول ديفيس الذي يعمل مستشاراً في أقسام الشرطة والوكالات الحكومية في مجال الاستفادة من المتعرّفين الخارقين في دولٍ عدّة كالنمسا وألمانيا وهولندا وسنغافورة «أعتقد أنّ الشرطة الأميركيّة لا تستخدم هذه المهارات بجديّة لدى عناصرها».
ويرجّح ديفيس، أنّ أقسام الشرطة الأميركيّة تفضّل استخدام التقنية – كبرامج الكومبيوتر المتخصصة في التعرّف على الوجوه – بدل البشر. وكانت مهارات التعرّف الخارق قد أثبتت أنّها الأفضل في عمليات الشغب التي نشبت في لندن وغيرها من المدن البريطانيّة لخمسة أيّام في أغسطس (آب) 2011 – وأنّها أفضل من برامج الكومبيوتر. وأكّد ديفيس، أنّ 20 متعرّفاً خارقاً تمكّنوا في أعقاب هذه الحملات من تحديد هويّة ما يُقدّر بـ600 مشتبهٍ به مسؤول عن تدمير آلاف كاميرات المراقبة الأمنيّة.
وكان غاري كولينز، شرطياً متخصصاً في العصابات المحليّة من شرق لندن، قد استطاع التعرّف وحده على ثلث محدثي الشغب الستمائة. ولفت ديفيس إلى أنّ المثير للاهتمام حقاً هو أنّ برنامج الكومبيوتر المتخصص في التعرّف على الوجه التي تستخدمه الشرطة تعرّف على مشاغبٍ واحدٍ فقط «بعد أن كان أحد المتعرّفين الخارقين قد نجح في تحديد هويته».
أبحاث معمقة للغوص في دماغ «المتعرّفين الخارقين»
لا ينسون وجهاً... حتى بعد مرور سنوات عديدة
أبحاث معمقة للغوص في دماغ «المتعرّفين الخارقين»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة