يظل الطفل الذي عشناه يُطل برأسه علينا في مراحل حياتنا المختلفة، فذلك الكائن الصغير الكامن في أعماقنا لا يغادرنا وإن مرت السنون، ويرى المبدعون دوماً أنه لا ينبغي أن نسمح له بالرحيل. وإذا كانت بعض هذه الأعمال يظهر فيها التأثر بشكل طفيف أو متقطع فإن الكثير من التجارب الفنية الأخرى تبرز فيها طفولة أصحابها بشكل مباشر وقوي ومتكرر، ومنها أعمال الفنانة المصرية هنا السجيني التي تأتي معارضها مُحملة بذكريات طفولتها ومسكونة بدفء الحنين إلى الماضي، وفي أحدث معارضها (1985) المقام بغاليري «الزمالك» لم تكتفِ بذلك إنما استدعت من الماضي ما تواجه به ثقل مشكلات الحاضر وأوجاعه.
لم تكن طفولة الفنانة الشابة عادية، فقد نشأت في عائلة فنية من الطراز الأول، وتشربت الفن من صغرها على يد والدها الفنان التشكيلي مجد السجيني الذي لطالما حكى لها عن جدها جمال السجيني الذي كان واحداً من أعظم النحاتين المصريين، كما أطلعها على أعماله الشهيرة، لكن لم تكن هذه المؤثرات الفنية وحدها هي التي شكّلت طفولتها، إنما كان هناك فيض من الدفء الأسري وحالة من التعلق المتفرد ببيت العائلة تناولته في معارض سابقة مثل معرض بعنوان «42 بهجت علي»، وهو نفس عنوان منزلها بالقاهرة.
وتقول هنا السجيني لـ«الشرق الأوسط»: «نعم تحفّر الطفولة الكثير في حياة الإنسان لا سيما الفنان، لأنه أكثر حساسية وتأثراً بكل ما يحيط به». وتتابع: «طفولتي مُعبقة بحكايات جميلة وأخرى حزينة، احتضنها منزل الأسرة الذي لطالما غمر قلبي بالدفء والهدوء والسكينة، وعبّرت عن ذلك في معرض سابق أعدّ أعمالي به قطعة غالية من نفسي».
لكن ما الذي أيقظ ذكريات الطفولة من جديد ودفعها إلى التعبير عنها من خلال مجموعة كبيرة من اللوحات والأعمال المركّبة باستخدام خامات متنوعة؟ تجيب السجيني قائلة: «بينما كنت أرتّب بعض المقتنيات القديمة بالمنزل، وضعت يدي على كنز من الذكريات، وهي ألعابي حين كنت طفلة، ووجدت نفسي أنظر إليها نظرة جديدة مختلفة، وأشعر تجاهها بمشاعر عميقة متباينة ما بين السعادة والحب والحنين والألم الشديد، بسبب ما استدعته من إحساس بالفقد».
إلى هذا لم يقتصر تأثير خطوطها التلقائية وألوانها الطفولية الهادئة المبهجة وتكويناتها الموحية على استدعاء أشكال ألعاب المتلقي، وذكرياته الشخصية معها ومع أسرته أو رفقاء الماضي، فقد خرجت أعمالها التي تتجاوز الخمسين من هذه الدائرة الممتعة إلى ما هو أكثر اتساعاً وإيلاماً للنفس، إذ إنها حاولت أن تجعل من طفولتها وطفولتنا وسيلة فطرية وفاعلة لمواجهة مشكلات الحاضر برؤية تعتمد سلاسة التفكير والتصرف.
تحمل أعمال الفنانة واحدة من أهم الأماني، وهي النجاح في الحياة رغم بعض الآلام: «أثنيت في بعض الأعمال على شجاعة رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين ينشرون صور أحبائهم ممن فقدوهم ومعها كلمات مؤثرة تعكس مشاعرهم النبيلة، وقدمتها في هيئة لعب قابلة للتحول إلى أعمال فنية قادرة على مساعدة المشاهدين على التغلب على أحزانهم والتمتع بلحظات من السعادة المشروعة».
معرض (1985) يضج بالحركة والمرح والحديث والتفاعل واللعب بأعمال الفنانة: «تعمدت أن يتمتع المعرض بآليات وأساليب عرض مغايرة وغير مألوفة، تستند إلى إشراك الزوار بما في ذلك الأطفال في العملية الفنية وتعاملهم البدني مع الأعمال»، ومن هنا تستطيع أن ترقب أحد المشاهدين وهو يحرك عملاً ما أو يلتقط لوناً ليضيفه إلى العمل، أو قلماً ليكتب به عليه! فالأمر يبدو كما لو أنها لعبة جماعية يحاول الكل أن يشارك فيها ويتجاوز بها مشاعره نحو السعادة والسكينة ودفء الأحاسيس ربما انطلاقاً من رؤية ومشاعر طفل صغير لا يتجاوز الخامسة من عمره، فالفنانة المولودة عام 1980 كانت قد بلغت 5 أعوام من عمرها في هذا التاريخ الذي اختارته عنواناً لمعرضها، ومن الثابت علمياً أن الأعوام الخمسة الأولى مرحلة مهمة في حياة أي إنسان.
تجاوُز آلام الحاضر بدفء ذكريات الطفولة تشكيلياً
عبر معرض تفاعلي مصري مفعم بالبهجة
تجاوُز آلام الحاضر بدفء ذكريات الطفولة تشكيلياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة