الرواية السعودية: خطاب جريء كشف المسكوت عنه في المجتمع

أدت دورا تنويريا وعبرت عن عمق التحولات الثقافية

أغلفة روايات سعودية
أغلفة روايات سعودية
TT

الرواية السعودية: خطاب جريء كشف المسكوت عنه في المجتمع

أغلفة روايات سعودية
أغلفة روايات سعودية

مرت الرواية السعودية بتحولات كبيرة سواء على مستوى البناء الفني أو الموضوعات، وهذه التحولات جاءت متساوقة مع التحولات الكبرى التي مرت بها المنطقة بصفة عامة والمجتمع السعودي بصفة خاصة. وقد انعكس هذا التحول على مسيرة الرواية في كيفية تقديم الموضوعات الروائية المختلفة أو جماليات السرد وتطورها من مرحلة إلى أخرى، أو من حيث تعاطي موضوعات بعينها ومدى جرأة التناول في بعض مراحل تطور الرواية، خلال هذا المنظور تصبح نوعا أدبيا تلده التجارب الاجتماعية ومدى عمقها، وتغذي نموه التحولات الكبرى، بل تغير من تكوينه الجمالي والمعرفي.
والطفرة النوعية التي تشهدها الرواية السعودية، تطرح نقاشا كبيرا بين المهتمين بالرواية العربية، ما بين متحمس لها، شديد الحماس بغض النظر عن تساهل بعض الروائيين في الحفاظ على جماليات البناء الروائي، وبين منتقد لهذا التساهل، مطالب الروائيين بأن يحافظوا على الحد الأدنى من جماليات البناء السردي. وقد اتسع هذا النقاش النقدي، فكتبت الكثير من الدراسات والكتب التي تنظر للمشهد الروائي السعودي، وأقيمت الندوات والمؤتمرات والفعاليات التي تناقش هذا المشهد.
واهتمام النقاد والدارسين بهذا المشهد الروائي في مجتمع مغلق مثل المجتمع السعودي إنما جاء لقناعة من أن الرواية في مجتمع ما تكشف خبايا هذا المجتمع، وتكتب تاريخه الثقافي والاجتماعي، انطلاقا من أن المتخيل الروائي هو حامل ثقافة المجتمع وقيمه. وقد تبلور المتخيل الروائي السعودي في مرحلة ما بعد التسعينات، بما أملته خصائص المرحلة من تصدع لبنى المجتمع وبروز للذات الفردية، وتنوع لوسائل الاتصال.
وقد استطاعت الرواية أن تنفتح على وسائط جديدة، وحقول معرفية مختلفة، فلم تعد مجرد سرد حكايات وحواديت دون معرفة، مما أكسبها رصيدا فكريا متنورا أضفى عليها بعدا جماليا، وحبكة تتوشح بالجماليات، ولغة تتمرد على التقريرية المباشرة. وقد ساعدت التحولات الثقافية في السعودية على انفتاح الروائي على الذات، بمكاشفات ونبش في مخزونها ومكبوتاتها، أو على الآخر، برغبة نهمة في الاطلاع على منجزه وعلى أبواب جديدة غير مألوفة: «لقد ولدت بعد هذا الزمن الرواية العربية السعودية؛ بتعدديتها، ونوعيتها، وكمها، وجرأتها في تناول الموضوعات والرؤى، وقدراتها الفنية المتفاوتة، إلى حد أن نجد بعض الروائيين كتبوا نصهم الأدبي الأول المنشور في حياتهم بأسلوب رواية».

* سؤال الهوية
يطرح السرد السعودي عامة والروائي خاصة سؤال الثقافة والهوية، والكشف عن الوعي الجمعي الثقافي السعودي لمنظومة القيم التي تحكم هذا المجتمع. يحاول الروائي أن يتحايل على الثقافة التي تحاول أن تكبت حرية الفرد في مواجهة منظومة ثقافية متشددة. وقد اتخذ تحايل المبدعين على سلطة الرقيب الديني أو السياسي أو المجتمعي حيلا فنية وجمالية، فلجأ الروائي إلى الحلم أو الأسطورة أو الحكايات التي لا تحيل إلى واقع بعينه هروبا من الرقابة ورغبة في كسر التابوهات التي تقيد حريته، إلى أن وصلنا إلى مراحل متأخرة في السرد الروائي استطاع فيه الكاتب أن يكسر التابوهات بشكل كبير، بل ويكشف المسكوت عنه في المجتمع. صحيح أن هناك من يعترض على هذه الجرأة وكشف المسكوت عنه في المجتمع ويراها روايات تسئ للمجتمع.

* تساؤلات الرواية السعودية
تطرح الرواية السعودية قضايا المجتمع مثل الزواج والطلاق ووضعية المرأة، كما تطرح قضايا الهوية، هوية الأقليات، سواء الأقليات الدينية أو العرقية والإثنية، والأزمات السياسية وما خلفته حرب الخليج على المجتمع. وقد ثار الجدل حول مضامين الرواية السعودية وهل يمكن اعتبارها شهادة فنية على واقع هذا المجتمع المغلق، مما حدا بالنقاد إلى البحث عن البعد السيري فيها واعتبار هذه الأعمال الروائية والقصصية في المملكة وثيقة تاريخية اجتماعية تعبر عن عمق التحولات التي مرت بهذا المجتمع خلال العقود التي تلت تدفق النفط وانتقال المجتمع إلى الرفاهية بكل ما يحمله ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية، انعكس أثرها على الإنسان السعودي، ويزيد من هذه التساؤلات كون هذا الإنتاج السردي الكبير قد ركز بشكل واضح على رصد هذه التغيرات، وجعلها نقطة ارتكاز للمتن السردي أم نعتبرها مجرد نصوص فنية تشتغل على ما هو متخيل، وتدخل الواقع إلى الفضاء السردي كمادة حكائية بعيدا عن التوثيق والسيرية والواقعية الصرفة؟!
ورغم كل هذا الجدل الذي ثار بين النقاد حول المتخيل السردي إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الرواية السعودية من أجرأ الخطابات التي ناهضت أشكال التمييز والتصنيفات القبلية والمذهبية الموجودة في المجتمع، بل تفوقت على الخطابات الحقوقية والسياسية في كشف المسكوت عنه في المجتمع السعودي. وأن الرواية أدت دورا تنويريا في كشف إشكالية التصنيف العنصري الموجودة في المجتمع.
في المرحلة الأولى من مراحل تطور الرواية السعودية انشغل الروائي بأن يراوغ القيم المحافظة في أن يلجأ للرمزية أحيانا وإلى صراع القيم المحافظة مع القيم الحداثية أحيانا أخرى، فالرواية كجنس أدبي يتشكل استطاع أن يستغله الروائيون لكشف المسكوت عنه في المجتمع.
في التسعينات حدث تحول ملحوظ في الرواية، فقد دخل إلى حقلها كتاب وأكاديميون وشعراء، وأصدروا روايات توفر لها من الجماليات الفنية والجرأة في الخطاب ما نقل الرواية السعودية نقلة نوعية، مثل: غازي القصيبي وتركي الحمد - وأحمد الدويحي، وأمل شطا، وتركي الحمد، ورجاء عالم، وعبد العزيز الصقعبي، وعلي الدميني، وليلى الجهني، وهدى الرشيد وغيرهم.

* اتجاهات الرواية السعودية
يمكن الحديث عن ثلاثة اتجاهات في الرواية السعودية:
1 - الاتجاه التقليدي، وتندرج في إطاره الروايات السعودية التي حافظت على بنية الرواية التقليدية من حيث اعتمادها على السرد التتابعي للأحداث الخاضع للتسلسل الزمني الطبيعي.
2 - الاتجاه التجديدي، حيث عمد هذا الاتجاه في الرواية السعودية إلى التجديد عبر عدة وسائل سعت من خلالها إلى كسر بعض قوانين البنية التقليدية الصارمة، وخلخلة بنائها المنظم، ولكنها لم تسع إلى إلغاء عناصرها المشكلة لها (الأحداث والشخصيات، والزمان، والمكان، واللغة..)، وإنما غيرت طريقة تعاملها معها، وتشكيلها داخل النص.
3 - الاتجاه التجريبي، فقد ارتادت الرواية السعودية آفاق التجريب مضحية في سبيل ذلك بالبنية التقليدية للرواية، وتنطلق خطوات التجريب مغامرة إبداعية تسعى للخروج على القواعد المقررة، وهكذا تغدو الرواية تجريبا متصلا، وبحثا دائبا عن أشكال جديدة، وليست ثورة - فقط – على الشكل الروائي المألوف، وإنما ثورة مستمرة، وتحطيم دائم حتى لأشكالها التي تصطنعها.

* دكتوراه في النقد والأدب، وأستاذ بكلية الآداب جامعة الطائف



في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك