رومن راديف... الجنرال «الأحمر» الذي درّبه الأميركيون

«رجل بوتين» في بلغاريا يدشن ولايته الرئاسية الثانية

رومن راديف... الجنرال «الأحمر» الذي درّبه الأميركيون
TT

رومن راديف... الجنرال «الأحمر» الذي درّبه الأميركيون

رومن راديف... الجنرال «الأحمر» الذي درّبه الأميركيون

عزّزت نتائج الانتخابات الرئاسية في بلغاريا مواقع الرئيس رومان راديف الذي فاز بولاية ثانية بضربة ساحقة وجهها لخصومه بعدما حصد نحو ثلثي أصوات الناخبين.
المشهد شكّل اختراقاً كبيراً بالنسبة إلى الأوضاع في بلد شهد اضطرابات واسعة وانقسامات حادة، خلال السنوات الأخيرة، ووقف في منعطفات عدة أمام الخيار الصعب بين الاقتراب من روسيا أو مواصلة الاندماج الأوروبي.
لقد أعاد البلغار انتخاب الرئيس الذي أصبح شخصية محورية في حركة «التغيير» في أفقر بلدان الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الجمهورية البرلمانية، تقوم الحكومة برسم السياسة ولا يتمتع الرئيس سوى بدور فخري، وفقاً للقانون الأساسي.
لكن رومان راديف، الذي كان حديث العهد في السياسة عندما فاز بالرئاسة للمرة الأولى، في العام 2016 - متجاوزاً بشكل مريح نسبة الحسم بعدما حصد في الجولة الانتخابية الثانية نحو 59 في المائة من الأصوات - أعطى المنصب خلال السنوات الخمس الماضية، حجماً مختلفاً، متجاوزاً قيود الصلاحيات الدستورية.
لقد نجح في فرض نفسه كشخصية لا يمكن تجاوزها في اللعبة السياسية.
فاز رومن راديف، أو «الجنرال الأحمر»، كما يلقبه البعض نظراً لقربه من الحزب الاشتراكي البلغاري، مجدداً برئاسة بلغاريا. ولقد حملته شعارات التغيير في الشارع إلى قمة الهرم السياسي ثانية، بعدما انحاز إلى مطالب الاحتجاجات على الفساد عمّت البلاد، وأضعفت مواقع خصومه.
وفي صيف 2020، خرج الجنرال الآتي إلى الرئاسة من المؤسسة العسكرية، والذي لا يخوله الدستور التعبير عن مواقف سياسية عادة، إلى الحشود رافعاً قبضته وسط ترحيب المتظاهرين من مختلف التيارات السياسية.
ونجح راديف بعد ذلك، بلعب دور حاسم في سقوط رئيس الوزراء المحافظ بويكو بوريسوف بعد عقد من توليه السلطة، ليفرض رؤيته لإدارة سياسة البلاد الداخلية والخارجية.
ودافع «رجل بوتين» في أوروبا، كما يلقبه الخصوم، عن مواقفه السياسية الموالية للكرملين، معلناً أنه «لا يمكن أن تكون روسيا نموذجاً نحتذي به في التنمية، لكنها لا يمكن أيضاً أن تكون عدونا»، داعياً إلى «موقف أكثر براغماتية للاتحاد الأوروبي تجاه موسكو».
- بطاقة هوية
ولد رومين غيورغييف راديف في بلدة ديميتروفغراد بجنوب شرقي بلغاريا يوم 18 يونيو (حزيران) 1963. وفي العام 1982 تخرج في مدرسة الرياضيات في هاسكوفو بميدالية ذهبية. ومنها شق طريقه في المؤسسة العسكرية طالباً في جامعة جورجي بنكوفسكي للقوات الجوية البلغارية التي تخرج فيها بتفوق في العام 1987.
بعد ذلك بخمس سنوات فقط، حدثت تغييرات كبرى في أوروبا والعالم، وسقط خلالها «جدار برلين»، وتبدلت خرائط النفوذ السياسي في العالم. وفي خضم التغيير خلعت بلغاريا عباءة الشيوعية وانتقلت إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).
في حينه، كان الضابط البلغاري المتفوق قد تخرج في مدرسة ضباط السرب التابعة للقوات الجوية الأميركية في قاعدة ماكسويل الجوية في ولاية آلاباما. وبذلك دشّن طريقه ليغدو من أبرز الجنرالات في بلاده، ومن ثم، يواصل التدريب والتعليم في كلية دفاع وهيئة أركان راكوفسكي، حيث كان أيضاً من الطلاب المتفوقين؛ ما أهله للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم العسكرية في مجال تحسين التدريب التكتيكي لأطقم الطيران ومحاكاة القتال الجوي.
راديف توّج مسيرته التعليمية في عام 2003، بالتخرج في الكلية الحربية الجوية في قاعدة ماكسويل الجوية في الولايات المتحدة بدرجة الماجستير في الدراسات الاستراتيجية مع مرتبة الشرف. ولم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى غدا الجنرال راديف قائداً لسلاح الجو في بلاده.
- مرشح الرئاسة
في أغسطس (آب) 2016، رشح الحزب الاشتراكي البلغاري المعارض والحزب البديل للنهضة البلغارية راديف رسمياً لخوض الانتخابات على منصب الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016. بعد ذلك سحب الحزب البديل للنهضة البلغارية ترشيح الجنرال راديف، لكن هذا لم يمنعه من تحقيق فوز في الجولة الثانية من الانتخابات على منافسته تسيتسكا تساشيفا دانغوفسكا، مرشحة حزب «مواطنون من أجل التنمية الأوروبية» في بلغاريا. وكانت هذه بداية الطريق نحو اتضاح معالم الصراع الداخلي بين الأطراف البلغارية المؤيدة للتقارب مع موسكو والأحزاب المتمسكة بطريق الاندماج الأوروبي.
- أي دور لموسكوفي وصوله للسلطة!
لقد تمسك الرئيس البلغاري المنتخب حديثاً، بمواقفه المثيرة للجدل حول سياسة بلاده، على الرغم من الحملات القوية التي شنتها أوساط بلغارية عليه، والتي وصلت إلى درجة «التأكيد» أن ترشيحه وانتخابه تمّا وفقاً لـ«سيناريو» أٌعد بدقة في أوساط الأجهزة الخاصة الروسية.
إذ تشير روايات إلى أن أصل الصعود القوي للجنرال راديف في عالم السياسة العليا، بدأ في يونيو 2016، عندما حضر نيكولاي مالينوف رئيس «الحركة الوطنية للروسوفيليين» (حركة تضم التيار المسيحي المطالب بالتقارب مع موسكو) في بلغاريا منتدى لحزب «روسيا الموحدة» الحاكم. وبعد ذلك بشهر واحد، طلب مدير المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية ليونيد ريشيتنيكوف (الذي مُنع لاحقاً من دخول بلغاريا لمدة عشر سنوات بعد اتهامه بصلات مع جهاز المخابرات الخارجية) من مالينوف وضع دراسة اجتماعية مكرّسة لملف انتخاب الرئيس البلغاري. ووفقاً للدراسة؛ جرى تحديد الصفات والمؤهلات المطلوبة بأن يكون المرشح الرئاسي القادر على الفوز «رجلاً لا يزيد عمره على 60 سنة. حقق مسيرة مهنية ناجحة، لكنه ليس مثقفاً. ليس مرتبطاً بهياكل الفساد. وشجاعاً في الدعوة إلى استقلال أكبر لبلغاريا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي».
وكما تقول دراسات نُشرت لاحقاً حول هذا الموضوع، «أمكن العثور على الشخص المطلوب بسرعة كبيرة. وبالفعل في الأول من أغسطس، استقال الجنرال رومن راديف من منصب عسكري رفيع، وبدأت أوساط حزبية واجتماعية في التحدث عنه كمرشح رئاسي».
كان ملاحظاً في تلك الفترة أن مراكز البحث الروسية أعربت عن أمل عميق في «أن يقوم الرئيس البلغاري الجديد بإعادة توجيه البلاد، وتحويلها إلى مسار التقارب مع روسيا». ولكن مهما كان الموقف من صحة هذه الروايات، التي وجدت تداعيات مختلفة لاحقاً، من بينها أن مالينوف واجه اتهامات بالخيانة العظمى في بلاده والتجسس لصالح موسكو، فالثابت أن أداء راديف برز بشكل قوي. وبخاصة أنه خاض مواجهة شرسة مع خصومه من التيار المحافظ، واستخدم شعارات محاربة الفساد ببراعة لمواجهة تحركات رئيس الوزراء بوريسوف.
- مواجهة داخلية شرسة
وحقاً، منذ تولي راديف الرئاسة، فإنه واصل توجيه انتقادات لاذعة ضد بويكو بوريسوف؛ إذ اعتبره شخصاً يسمح بالفساد من خلال أسلوب قيادته «المتهور»، فضلاً عن محاولته تضييق الخناق على معارضيه السياسيين.
ولتعزيز هذا التوجه، استخدم راديف حق النقض مراراً ضد المقترحات التشريعية التي تقدم بها حزب بوريسوف «مواطنون من أجل التنمية الأوروبية» في بلغاريا إلى البرلمان البلغاري. وأصدر ما مجموعه تسعة عشر حق نقض في أول سنتين ونصف السنة من فترة رئاسته. وفي المقابل، اتهم بوريسوف في كثير من الأحيان راديف بالسعي إلى «تخريب عمل الحكومة».
في خطاب العام الجديد الذي ألقاه راديف أمام الشعب البلغاري عام 2019، والذي أُذيع على جميع القنوات التلفزيونية البلغارية تقريباً، ذكر أنه يرى حكومة بوريسوف غير ناجحة في معالجة الفساد. واتهمها بوضع البلاد في حالة ركود اقتصادي مع ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور؛ ما أسفر عن تقويض نزاهة الانتخابات، بالإضافة إلى تراجع القانون والعدالة.
وفي يونيو 2019، استخدم راديف حق النقض ضد عقد حكومي كبير لشراء طائرات مقاتلة عدة من طراز «إف - 16» من الولايات المتحدة بتكلفة تبلغ نحو ملياري ليف بلغاري. لقد انتقد راديف الصفقة بشدة متهماً الحكومة بالسلطوية، وأعرب عن اعتقاده بأن الحكومة وافقت على خفض درجات إلكترونيات الطيران والعتاد الحربي للطائرات، للحصول على سعر شراء أقل، وهو ما اعتبره أيضاً باهظاً جداً مقارنة بالقيمة الفعلية.
وتابع راديف، أنه، بصفته طياراً سابقاً وقائداً للقوات الجوية، لم يؤمن بأن الصفقة تصب في مصلحة بلغاريا. وبالنتيجة، رفضت الغالبية المؤيدة للحكومة في الجمعية الوطنية البلغارية حق النقض الذي تقدم راديف به، وجرى التوقيع على الصفقة رغم ذلك.
هذان المثالان يعكسان طبيعة المنافسة القوية وروح المواجهة التي سيطرت عملياً على كل الولاية الرئاسية الأولى لراديف في مواجهة التيار المحافظ في بلغاريا، قبل أن يستفيد بقوة من تدهور الوضع المعيشي الذي أسفر عن نزول مئات الالوف إلى الشوارع العام الماضي مطالبين بالتغيير وبسياسة واضحة لمكافحة الفساد وتحسين الأحوال المعيشية.
عندها فقط وجّه «الرئيس - الجنرال» ضربته القاضية ولعب دوراً حاسماً صيف العام الماضي في إسقاط حكومة بوريسوف. وساعد أكثر في ذلك، اندلاع صراع مباشر بين راديف وبوريسوف، نُشرت خلاله أدلة تدين رئيس الوزراء بالفساد، ورداً على ذلك، حرك رئيس الوزراء دعوى قضائية أسفرت عن مكتب المدعي العام بدهم وتفتيش الإدارة الرئاسية. ولقد حصل ذلك على وقع الاحتجاجات الغاضبة في الشارع، وبدا أن هذا الصراع عزّز أكثر مواقع راديف.
- الانقلاب على الغرب
رومين راديف، على الرغم من سنوات التدريب العسكري في الولايات المتحدة، يعد سياسياً موالياً لروسيا. وحقاً، تسبب ترشيحه للرئاسة مجدداً في «قلق عميق» في واشنطن وبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي و«ناتو»)... وفقاً لتقارير إعلامية غربية. ولعل ما يعزز هذا الكلام، أن الرئيس - الجنرال ربط مواقفه وتحركاته بتصريحات مثيرة، فهو أعلن غير مرة أن بلاده، على الرغم من كونها عضواً في «ناتو»، ارتكبت خطأً استراتيجياً بالابتعاد عن روسيا. وأردف «بلغاريا عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولا بديل لنا. لكن هذا لا يعني أن علينا أن نخلق أعداء خارج إطار التعاون هذا. لا تعني أوروبا رهاب روسيا. الحقيقة هي أننا نعاني حالياً من خسائر اقتصادية».
وهنا، لا يخفى أن بلغاريا ترتبط فعلاً بعلاقات وثيقة مع موسكو. وفضلاً عن التعاملات التجارية الواسعة، يكفي القول إن هذا البلد الأوروبي يعتمد بشكل كلي تقريباً (أكثر من 95 في المائة) من وارداته من الغاز الطبيعي على الصادرات الروسية. بيد أن الأحوال الاقتصادية الهشة للبلاد، من بين أسباب كثيرة أخرى، لم تسمح بأن يكون لصوفيا صوت مسموع في السجالات السياسية الدائرة في أوروبا حول نمط العلاقة المطلوب مع روسيا.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.