«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت

ترمب حوّل الولاية إلى «حصن أحمر»... والتركيز على اللاتينيين لحسم المعركة

«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت
TT

«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت

«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت

دخول الديمقراطي «بيتو» أورورك السباق على منصب حاكم ولاية تكساس، ثاني أكبر ولاية أميركية من حيث المساحة وعدد السكان، في مواجهة حاكمها الحالي الجمهوري غريغ أبوت، أحد أكثر السياسيين المحافظين تشدداً، أطلق واحدة من أكثر السباقات الانتخابية التي يتوقع أن تستقطب الأنظار على شراسة المعارك السياسية التي يخوضها الحزبان.
تأتي المعركة في خريف 2022 خلال مرحلة التحولات العميقة والتغيرات الجارية داخل الولايات المتحدة وخارجها. غير أن ترشح أورورك، الذي يعوّل عليه الديمقراطيون لإعادة «قلب الصفحة»، والانتقام لخسارتهم منصب حاكم ولاية فيرجينيا، إحدى أبرز الولايات تأثيراً سياسياً على العاصمة السياسية «واشنطن»، ترافق مع تذكير مؤلم بمكانتهم في ولاية، تمكن الرئيس السابق دونالد ترمب من تحويلها إلى «حصن أحمر»... واللون الأحمر كما هو معروف لون الحزب الجمهوري.
حين أعلن النائب الديمقراطي ريان غيلين منذ 19 سنة عن منطقة ريو غراندي الحدودية مع المكسيك، انسحابه من الحزب والانضمام إلى الحزب الجمهوري، فإنه برّر خطوته بالقول: «إن قيم الديمقراطيين في واشنطن ما عادت قيم منطقتي ولا قيم معظم سكان تكساس».
غير أن غيلين، الذي يعارض الإجهاض ويؤيد تطوير الوقود الأحفوري في ولاية تعتبر معقل إنتاج النفط في أميركا، انشقاق، أخذت تواجه تبدّلاً بدأ يطرأ على البيئة السياسية في الولاية منذ عام 2018، عندما حظي أورورك باهتمام وطني كمرشح لمجلس الشيوخ، خسر بأقل من 3 نقاط مئوية في مواجهة السيناتور الجمهوري المتشدد تيد كروز.
في ذلك الوقت، كان أورورك قادراً على جذب الاهتمام الوطني، باعتباره وجهاً سياسياً ليبرالياً جديداً. وخاض حملته على وعد بأخذ السياسة إلى ما هو أبعد من الانحيازات الحزبية الضيقة، حين كانت «الموجة الزرقاء» (الديمقراطية) في أوج قوتها، مستفيدة من العداء لظاهرة «الترمبية».
ومع خسارة الديمقراطيين مقعدهم في مجلس النواب في مقاطعة ريو غراندي، توقع آرون ديليون، نائب رئيس تجمع الجمهوريين في تكساس، أن يشهد الديمقراطيون مزيداً من الخسائر في جميع أنحاء المقاطعة العام المقبل في الانتخابات النصفية. وبنى ديليون توقعه الواثق هذا على تسجيل دونالد ترمب قوة متزايدة في تلك المنطقة، بين الناخبين الهسبانيكيين خلال انتخابات 2020 الرئاسية الأخيرة. فقد فاز ترمب بفارق 13 نقطة عام 2020 في المنطقة التي انشق فيها النائب الديمقراطي غيلين، الذي أعيد انتخابه فيها بفارق 17 نقطة عن الحزب. وتابع ديليون: «إننا نشهد اتجاهات تتعارض مع ما يعتقده الديمقراطيون... في تلك المنطقة، هناك كثير من الوظائف المتعلقة بالنفط والغاز».
إلا أن جيلبرتو هينوغوسا، رئيس الحزب الديمقراطي في تكساس، رفض التكهنات الجمهورية بوجود اكتساح جمهوري آتٍ، وقال: «كان هناك تحوّل في الأصوات إبان الانتخابات الرئاسية، وكانت لذلك علاقة كبيرة بترمب... إننا نفعل ما في وسعنا لتعزيز الدعم الذي يحظى به الديمقراطيون في جنوب تكساس»، في إشارة إلى خسارة المقعد النيابي وانشقاق غيلين. ثم أضاف أن ترشح أورورك قد يعني أشياء جيدة للديمقراطيين من خلال زيادة الإقبال على التصويت.
- بطاقة شخصية
ولد روبرت فرانسيس «بيتو» أورورك عام 1972 في مستشفى أوتيل ديو في مدينة إل باسو التكساسية الحدودية مع المكسيك، لوالديه بات وميليسا. وهو سياسي أميركي آيرلندي من الجيل الرابع. في طفولته أعطته عائلته لقب «بيتو»، وهو لقب إسباني برتغالي شائع للأسماء الأولى، لتمييزه عن جده الذي يحمل الاسم نفسه. مثل منطقة الكونغرس الرقم 16 بتكساس في مجلس النواب الأميركي من عام 2013 إلى عام 2019.
تخرج «بيتو» من مدرسة وودبيري فوريست الخاصة الراقية ثم جامعة كولومبيا العريقة. وأثناء دراسته في كولومبيا، بدأ مهنة موسيقية قصيرة عازفاً للغيتار باس في فرقة «فوس» الموسيقية.
بعد التخرج، عاد «بيتو» إلى إل باسو، وبدأ حياته المهنية. وفي عام 2005 انتخب لعضوية مجلس المدينة حتى عام 2011، ثم انتخب في العام التالي في مجلس النواب الأميركي، بعدما هزم في الانتخابات التمهيدية الديمقراطي سيلفستر رييس الذي استمر 8 فترات. إلا أنه بعد إعادة انتخابه لمجلس النواب في عامي 2014 و2016 رفض أورورك الترشح لولاية أخرى في 2018. وبدلاً من ذلك، سعى للحصول على المقعد الذي يشغله الجمهوري تيد كروز في مجلس الشيوخ الأميركي... وفي حينه أدار حملة تنافسية لفتت الانتباه الوطني. وسجل رقماً قياسياً لمعظم الأصوات التي تم الإدلاء بها لأي ديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي في تكساس. وفي 14 مارس (آذار) 2019 أعلن حملته في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. لكنه علقها في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 قبل بدء الانتخابات التمهيدية، لمصلحة جو بايدن. ويوم الاثنين الماضي، أعلن ترشحه لمنصب حاكم ولاية تكساس في عام 2022.
توفي والده عام 2001 أثناء ركوب دراجته، وهو من عشاق ركوب الدراجات منذ فترة طويلة، بعدما صدمته سيارة وألقت به مسافة 21 متراً. ولقد تزوج أورورك من إيمي هوفر ساندرز عام 2005 وأنجب منها 3 أطفال.
يصنف المحللون السياسيون «بيتو» أورورك على أنه تقدمي أو ليبرالي أو نيوليبرالي أو وسطي. وهو قال عن نفسه إنه لا يعرف أين يقع في الطيف السياسي. وخلال منصبه في مجلس النواب، كان عضواً في التحالف الديمقراطي الجديد، وقام برعاية مشروعات قوانين من الحزبين، وعارض حزبه بشأن قضايا مثل التجارة.
ثم إنه معارض قوي لحيازة السلاح الفردي، وأيّد فرض قوانين لمراقبة الأسلحة ودعم فحوص الخلفية العامة لجميع مشتريات الأسلحة النارية. وبعد إطلاق النار في إل باسو عام 2019 دعا إلى فرض حظر كامل على بيع وحيازة البنادق الهجومية ومخازن الطلقات عالية السعة، ودعم برنامج إعادة الشراء الإلزامي.
يؤيد أورورك الإصلاح الشامل لنظام الهجرة، رافضاً ما سماه «عسكرة» الحدود. وعارض قرار الرئيس ترمب إنهاء برنامج «داكا»، أو «الحالمين»، الذي منح إقامة مؤقتة لبعض المهاجرين غير الشرعيين الذين جرى إحضارهم إلى الولايات المتحدة وهم قصّر. وانتقد خطاب ترمب بشأن الهجرة، قائلاً: «إنه يؤجج باستمرار القلق والخوف بشأن المكسيكيين والمهاجرين والحدود مع المكسيك. وللأسف، يتخذ هذا الرئيس خطوة أخرى نحو عالم مظلم من الخوف والعزلة والانفصال».
عام 2018، قاد أورورك احتجاجات في مدينة تورنيلو بتكساس، ضد سياساته لفصل أطفال عائلات المهاجرين. ورغم كونه كاثوليكياً، فإنه يعرب علناً عن معارضته لعقيدة الكنيسة، بما في ذلك رفضها زواج المثليين، والإجهاض. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019، خلال حملته الرئاسية، اقترح إزالة الإعفاء الضريبي للمنظمات الدينية التي تعارض زواج المثليين أو الحق في الإجهاض.
من جهة ثانية، انتقد أورورك إسرائيل خلال حربها على غزة عام 2014. وصوّت ضد تمويل نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي (القبة الحديدية)، وندد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، ووصفه بأنه «استفزازي». وهو يؤيد «حل الدولتين»، ويعتقد أن الولايات المتحدة يمكن أن تدعم التسوية السلمية على أفضل وجه من خلال حثّ إسرائيل على وقف المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ومساعدة السلطة الفلسطينية على التفاوض بحسن نية والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. أكثر من هذا، فإنه انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو على تصريحاته حول ضم المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة بعد الانتخابات الإسرائيلية 2019، ووصفه بأنه «عنصري». غير أنه وصف في وقت لاحق العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بأنها «واحدة من أهم العلاقات التي لدينا على هذا الكوكب».
وحول القضايا الأخرى، فإنه دعم الاتفاق النووي مع إيران وانتقد موقف ترمب المتشدد تجاه كوريا الشمالية، قائلاً: «يجب ألا نسمح لهذا الرئيس بالسير نائماً في هذا البلد، أو التغريد لحرب مع كوريا الشمالية». وفي 2019 أيضاً، دعا أورورك إلى إنهاء حربي العراق وأفغانستان، كما عارض تورط الولايات المتحدة في الحرب الأهلية في سوريا وتقديم الأسلحة. وانتقد التدخل العسكري بقيادة «ناتو» في ليبيا، باعتباره «عاملاً في زعزعة استقرار الشرق الأوسط وصعود (تنظيم داعش)».
- خسائر إضافية للديمقراطيين
الآن، يراهن الديمقراطيون على أورورك الذي لم يعلن أي ديمقراطي آخر عن ترشحه ضده حتى الآن، على الرغم من أن ترشحه قد تأخر لمواجهة غريغ أبوت، مقارنة بترشحه لخوض المنافسة مع السيناتور تيد كروز عام 2018. فقد أثبت في ذلك الوقت، قدرته على جمع أموال كبيرة، رغم انتكاس حملته المالية التي أدت إلى انسحابه من السباق الرئاسي مبكراً في انتخابات 2020. ثم إنهم يراهنون على تجديد زخمه وعلى تاريخه في حضّ الناخبين على التصويت بأرقام غير مسبوقة في تكساس.
في مقابلة مع مجلة «تكساس الشهرية»، قال أورورك إنه ليس نادماً على حملته الرئاسية، وتابع: «شخص ما قالها لي بهذه الطريقة؛ أردت أن أركض بأسوأ طريقة، وقد نجحت في ذلك».
وأضاف أورورك أنه منذ انسحابه من السباق الرئاسي، أمضى وقتاً في العمل مع لجنة العمل السياسي لتسجيل الناخبين، التي أطلقها عام 2019، لتحسين «النتائج هنا في تكساس». وعيّن نيك راثود، المستشار السياسي بولاية فيرجينيا، ونائب مدير الشؤون الحكومية الدولية السابق في البيت الأبيض في عهد أوباما، مديراً لحملته الانتخابية لمنصب حاكم الولاية.
في المقابل، يمتلك أبوت ميزانية ضخمة تقدر بنحو 55 مليون دولار، ولديه أفضلية أكبر قبل الموعد الرسمي للانتخابات التمهيدية التي ستجري في الأول من مارس المقبل. ويرجح كثير من الخبراء أن يكون السباق بين أورورك وأبوت أحد أغلى سباقات حكام الولايات في دورة عام 2022. ورغم ذلك، هناك من يحذّر من أن سياسات أبوت المنحازة إلى أقصى اليمين، قد لا تكون مستساغة بالنسبة للناخبين المعتدلين في الولاية، الأمر الذي يراهن عليه الديمقراطيون.
هذا، وبينما أعطى دخول بيتو أورورك السباق على منصب حاكم تكساس، يوم الاثنين، جرعة من الأمل للديمقراطيين، فإن شكوكاً كبيرة تحيط بقدرتهم على تحقيق مكاسب في ولاية استعصت عليهم إلى حد كبير لسنوات. إذ لم يتولَ أي ديمقراطي منصب الحاكم منذ غادرت آن ريتشاردز منصبها عام 1995، بعد أن فشلت في الفوز بولاية ثانية. كذلك فإن الشكوك تحيط بأورورك نفسه، وبقدرته على التمتع بالجاذبية نفسها التي كان عليها قبل 4 سنوات، حين ظهر كأحد الوجوه اليسارية المعتدلة الجديدة، وتمكن من تجييش كثير من الناخبين المستائين من ترمب ومن تطرف السيناتور كروز.
مع هذا، أورورك يبدو اليوم أكثر استعداداً للابتعاد عن تلك التهمة، منذ انسحابه من السباق الرئاسي لمصلحة بايدن، وليس لمنافسه اليساري بيرني ساندرز... ووصولاً إلى إعلان معارضته قبل أيام، لسياسات بايدن من الهجرة، إحدى أبرز القضايا التي يتعصب لها التكساسيون، ومهادنته لسياسات الطاقة في الولاية، في سعيه للتكيف مع مزاجهم، الذي أدى إلى انشقاق النائب غيلين وخسارة مقعد نيابي آخر.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.