العراق بلد النحات جواد سليم يعرض نصبًا بلاستيكية مستوردة في ساحاته العامة

فنانون: الحركة الفنية شهدت بعد 2003 دخولاً على التراث الفني العريق

ما صنعته يدا الفنان العراقي جواد سليم في نصب «الحرية» وسط العاصمة بغداد في عام 1961
ما صنعته يدا الفنان العراقي جواد سليم في نصب «الحرية» وسط العاصمة بغداد في عام 1961
TT

العراق بلد النحات جواد سليم يعرض نصبًا بلاستيكية مستوردة في ساحاته العامة

ما صنعته يدا الفنان العراقي جواد سليم في نصب «الحرية» وسط العاصمة بغداد في عام 1961
ما صنعته يدا الفنان العراقي جواد سليم في نصب «الحرية» وسط العاصمة بغداد في عام 1961

يجسد الإنسان تاريخ بلاده وحضارتها عبر الكتابة والفن لتتناقلها الأجيال. وتشتهر معظم ساحات المدن في العالم بإقامة النصب والتماثيل دليلا على تقدمها ورقيها واهتمامها بالفن وتطوره.. العراق بلد الحضارات والضاربة جذوره بعمق التاريخ كان من البلدان التي اهتمت بالفن، وسطر الفنان العراقي تاريخ هذه الحضارة منذ 7 آلاف عام.
اليوم وبعد كل هذا التاريخ الفني، تشهد بلاد النهرين ظاهرة عجيبة غريبة قد تشوه تاريخ الفنان العراقي الذي تفتخر الإنسانية جمعاء بما صنعت يداه منذ 7 آلاف عام.
وبعد عام 2003 شهدت الحركة الفنية دخولا لطارئين على هذا التراث الأصيل بغرض تشويه الفن العراقي عبر إقامة نصب مستوردة وتماثيل بلاستيكية وعرضها أمام الناس في منظر أساء للعراق وتاريخ العراق وللفنان العراقي، لمآرب مادية وفساد من نوع جديد.
وبمقارنة بسيطة بين ما صنعته يدا الفنان العراقي جواد سليم في نصب «الحرية» وسط العاصمة بغداد في عام 1961، ونصب «الحرية» في البصرة الذي تم وضعه قبل سنتين واستيراد قطعه من الصين، ستجد أن هناك معاول تعمل على هدم الثقافة العراقية بصورة بشعة.
النحات مشتاق الربيعي، أستاذ متمرس في كلية الفنون الجميلة في العاصمة بغداد، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «نصب (الحرية) في مدخل محافظة البصرة، الذي كان عبارة عن باذنجانة وأحصنة تقوم بالدوران حول تلك الباذنجانة بطريقة مثيرة للسخرية، كلف، حسب ما أعلن عنه، مبلغا وصل إلى 8 مليارات دينار عراقي، بينما لو أردنا حساب تكلفته سنجدها لا تتجاوز بضعة ملايين على أقل تقدير، وأنا أجد في هذا الرقم الأول مثير للجنون والدهشة أكثر من أنه مثير ومستفز للأعصاب». وأضاف الربيعي: «كان من المفروض أن يستلهم تصميم هذا النصب من تاريخ البصرة وطبيعتها الاجتماعية والثقافية، لأن موقعه يقع بالتحديد في مدخل المدينة. ومن المفروض أن يتيح للزائر فرصة للتعرف على البصرة وتراثها العريق من خلاله».
عالية المظفر، نحاتة متمرسة في كلية الفنون، قالت لـ«الشرق الأوسط»: «الفساد الإداري والمالي لا يقع ضمن الميزانية العالية المخصصة للنصب والتماثيل في بغداد أو باقي المحافظات فحسب، بل حتى موضوع النافورات التي ملأت أغلب ساحات بغداد خاضعة لعمليات فساد كبيرة وأرقام هائلة». المظفر أشارت إلى أن «تكلفة بناء نافورة هي عبارة عن أنبوب ماء يتدلى من مرتفع إسمنتي، وصلت إلى مليار دينار، مع أن التكلفة التقديرية لهذه النافورة لم تتجاوز عدة ملايين. وطبعا هذا يعود إلى عمليات الفساد المالي والسرقة العلنية في مشاريع النصب والتماثيل والنافورات، التي تتحمل مسؤوليته (مافيات متخصصة تعمل تحت أنظار المسؤولين، بل وبتوقيع منهم بالموافقة»، كما بينت المظفر أن «الأعمال الفنية توكل غالبا إلى (ابن عمك وابن خالك) وتندرج ضمن المقاولات التي تشوبها صفقات فساد واضحة».
وأوضحت المظفر أن «إقامة النصب الجديدة هي محاولات لتزيين الأماكن، لكنها في الحقيقة عملية تشويه متعمدة للذائقة الفنية وبعيدة كل البعد عن الجمال».
من جهته، قال الشاعر والكاتب أحمد عبد الحسين لـ«الشرق الأوسط»، إن «مجموعة من الهواة بالتعاون مع فاسدين من داخل الوزارات واللجان الفنية في وزارة الثقافة ينجزون أعمالا ليست لها علاقة بالفن العراقي، وتماثل أذواق الساسة، لتوفير مساحة لسرقة الملايين من ميزانية تلك الوزارات والمؤسسات باسم (العمل الفني). والأدهى من ذلك أنهم لا يفكرون في سد النواقص الموجودة داخل بناياتهم وأقسامهم؛ بل يركزون على تفاهات الأمور باعتبارها مشاريع خفية إيرادها المالي عال وبعيدة عن رقابة النزاهة. وعلى سبيل المثال، نجد هناك وزارة أو مؤسسة تفتقر إلى وجود كراسي كافية للجلوس عليها ويتم استبدالها بالموافقة على إقامة نصب بائس أو تمثال أخرق أو حتى إقامة فعاليات مشوهة. وتجد من يعمل على هذا الموضوع منشغلا تماما باستحصال الموافقات والتنفيذ بسبب ما تخلفه تلك الأمور من مبالغ عالية تدخل لجيوب هؤلاء الهواة والمسؤولين».
النحات رعد هادي شاركه في الرأي؛ حيث قال إن «النصب الفنية يجب أن تخضع لقواعد فنية عالية، كما يجب أن تخضع لوجود لجان متخصصة بدراسة النسب الكلفية لهذه المشاريع سواء كانت نصب تمثال أو تشييد نافورة في منطقة معينة، حيث كان النظام السابق يعرض الصور والأعمال على 3 إلى 4 لجان قبل الموافقة على نصبها في الساحات العامة والشوارع. كما يجب أن تخضع المبالغ التي يتم صرفها في شراء المواد الأولية لمراقبة من قبل تلك اللجان أيضا كي تتم محاربة الفساد المالي الذي يشوب أغلب هذه الأعمال. وإلا فما تفسير أن يهتم المسؤول منذ توليه منصبه ولسنين كثيرة بهذا الجانب وترك باقي المشاريع المهمة التي لها دور أساسي في القيام بحال مؤسسته، ويلجأ إلى الاهتمام بنصب هذه التماثيل والنافورات وغير ذلك من صور الفساد الأخرى».
أما النحات رياض السعيدي، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «بعد الحقبة الأخيرة التي مر بها العراق، قال بعض الهواة الطارئين على عالم النحت إننا سوف ننتج نصبا على غرار (محمد غني حكمت)، وأول نصب تم تشييده في بغداد كان خطيرا بالمعنى والشكل. حيث تم استيراد (أسود من الصين) على غرار ساحة السباع التي تحتوي على تماثيل من الأسود التي نحتت بطريقة جميلة ومذهلة، لذلك قامت جهة مجهولة باستيراد أسود من الصين بلاستيك مع حفنة من الورود، ووضعها في ساحة الطلائع في منتصف بغداد، وكأننا لسنا بلاد (أسد بابل)، ولا أعلم بالتحديد من هو ومن الذي استوردها وما الهدف من ذلك؟ ومن المؤكد أن بهذه الأسود البلاستيكية تجاوزنا (محمد غني حكمت) وإنجازاتها».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».