دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري

الزعيم الجديد ـ القديم في زمن خفوت البريق

دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري
TT

دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري

دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري

يوم الأحد الفائت ذهبت نيكاراغوا إلى انتخابات رئاسية مفصّلة على مقاس زعيم جبهة التحرير الساندينية والرئيس الحالي دانييل أورتيغا الذي كان يترشّح لولاية رابعة متتالية منذ عام 2007، وللعلم سبق لأورتيغا أن تولّى الرئاسة في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بعد سقوط الطاغية أناستازيو سوموزا، الذي تفجّرت الثورة الساندينية ضدّه. وكما كان متوقعاً فاز أورتيغا بغالبية ساحقة، أفادت النتائج الرسمية بأنها تجاوزت 75% من الأصوات، في حين بلغت نسبة المشاركة 67% من المواطنين، دائماً وفقاً للمصادر الرسمية.
منذ الإعلان عن موعد الانتخابات وقرار أورتيغا الترشّح، إلى جانب زوجته لمنصب نائب الرئيس الذي تتولّاه حالياً، لم يكن هناك أي شك في أن الفوز سيكون معقوداً لقائد الثورة التي أبهرت العالم كنسخة محسنة للثورة الكوبية، قبل أن يتحوّل قائدها بعد عقدين من تولّيه الحكم إلى نسخة مشوّهة من الطاغية الذي ترك الجامعة ودخل السجن وتحمل الأَسْر من أجل إسقاطه.
نعم، كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية في نيكاراغوا محسومة قبل أشهر من إجرائها، خصوصاً أن أورتيغا كان قد تكفّل بإلقاء القبض على جميع منافسيه المحتملين الذين زجّ سبعة منهم في السجن بتهم مدبّرة، في حين اختار الباقون طريق المنفى الذي دفعته إليه ذات يوم ديكتاتورية سوموزا. بيد أن المفاجأة الوحيدة التي لم يكن أورتيغا يتوقعها هو الإجماع الدولي على رفض الانتخابات ونزاهتها، بل وصفها بـ«المهزلة»، والعقوبات التي أعلنتها كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ضد النظام الذي لم يعُد له من حليف سوى كوبا وفنزويلا.
- بطاقة هوية
وُلد دانييل أورتيغا يوم الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1945 في بلدة تدعى «الحرّية» كانت مشهورة بمعارضة سكّانها الشديدة لنظام سوموزا، الذي غالباً ما كان يقطع عنها قنوات التموين ويلاحق معارضيه من أبنائها. ومنذ دخوله الجامعة في عام 1963 انخرط أورتيغا في صفوف «الحركة الساندينية» التي أسّسها البطل القومي أوغوستو ساندينو الذي قاد حرب التحرير ضد جيش الاحتلال الأميركي لنيكاراغوا في العقد الثالث من القرن الفائت. لكنه ما لبث أن ترك الدراسة ليؤسس مع مجموعة من رفاقه «الجبهة الوطنية للتحرير الوطني» بدعم من الثورة الكوبية.
في أواخر عام 1967 وقع أورتيغا في قبضة الأجهزة الأمنية بعد قيادته عملية نفّذها ثوّار الجبهة لسرقة أحد المصارف في العاصمة ماناغوا. وأمضى سبع سنوات في السجن إلى أن جرى الإفراج عنه مقابل إطلاق سراح عدد من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين المقرّبين من سوموزا، إلى جانب السفير الأميركي في ماناغوا. وكانت الجبهة قد اختطفت هؤلاء خلال اقتحام منزل حاكم المصرف المركزي حيث كانوا يتناولون طعام العشاء.
وخلال السنوات الأخيرة من الثورة الساندينية لجأ أورتيغا إلى كوستاريكا، حيث تعرّف على زوجته روزاريو موريّو التي كانت أيضاً من ناشطي الجبهة، وتساكنا إلى أن تزوّجها لاحقاً وله منها سبعة أولاد. ويؤكد العارفون أن لروزاريو تأثيراً كبيراً على أورتيغا، الذي عيّنها بعد انتخابه في المرة الماضية نائباً له، ثم ترشّحت إلى جانبه للمنصب نفسه في هذه الانتخابات الأخيرة.
- نجاح الثورة عام 1979
في عام 1979 غادر الديكتاتور السابق سوموزا نيكاراغوا أمام تقدّم قوّات الثوّار التي دخلت العاصمة في 18 يوليو (تموز)، منهياً بذلك حكم العائلة التي تولّت مقاليد السلطة في نيكاراغوا طيلة أربعة عقود. ومع دخول الثوّار إلى ماناغوا عاد أورتيغا من المنفى وتوجّه إلى العاصمة المؤقتة ليون لينضمّ إلى الحكومة المؤقتة للإعمار الوطني. وبعدما قرّرت «الجبهة الساندينية» حلّ الحرس الوطني الذي كان عماد نظام سوموزا، تشكّل «الجيش الشعبي السانديني» الذي تولّى قيادته اومبرتو أورتيغا، شقيق دانييل أورتيغا.
وبعدما احكم أورتيغا سيطرته على «الجبهة الساندينية» وعلى الحكومة الثورية الأولى، دعا إلى إجراء انتخابات عامة في 4 نوفمبر 1984 فاز فيها وشكّل أول حكومة ثوريّة في نيكاراغوا، نفّذت الكثير من أفكار برنامج «الجبهة الساندينية» المستلهَمة من النظام الاشتراكي الماركسي اللينيني وثورة فيدل كاسترو في كوبا. وانتهجت سياسة تقدّمية بتعاون وثيق مع الدول التي كانت تُعرف يومذاك بالكتلة الشيوعية. وطبعاً، هذا الأمر دفع الحكومة الأميركية إلى دعم ومساعدة وتنظيم العناصر المناهضة للثورة من فلول النظام السابق المعروفة يومها باسم «كونترا»... التي أثار تمويلها فضيحة سياسية شهيرة في الولايات المتحدة.
- الحرب ضد «الكونترا»
لقد أدت تلك المواجهة المسلحة إلى حرب أهلية أغرقت البلاد في أزمة سياسية واقتصادية خانقة، اضطر أورتيغا، بسببها، وتحت الضغوط الإقليمية والدولية التي تزامنت مع نهاية الحرب الباردة، إلى الدعوة لإجراء انتخابات عامة في عام 1990. تلك الانتخابات خسرها أمام منافسته فيوليتا تشامورو، التي ما لبثت أن شكّلت حكومة مؤلفة من جميع أطياف المعارضة اليمينية واليسارية المعتدلة.
- آثار الهزيمة السياسية
تلك الهزيمة تركت أثراً عميقاً جداً في نفس دانييل أورتيغا الذي استمرّ في قيادة الجبهة، وراح يُجري تعديلات في استراتيجيته سعياً إلى الدعم الذي يسمح له بالعودة إلى الحكم.
وفي حملة انتخابات عام 1996 التي انهزم فيها مرة ثانية، والتي أُتيح لكاتب هذه السطور مرافقته يوماً كاملاً خلالها، قرر إلغاء نشيد «الجبهة الساندينية» واستعاض عنه بمقطع من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. ثم عاد وغيّره مجدداً في عام 2006 بموسيقى لإحدى أغاني جون لينون.
لقد انصرف أورتيغا طوال السنوات التي أمضاها في المعارضة بعد هزيمتين متتاليتين في الانتخابات إلى إحكام سيطرته على حزب «الجبهة الساندينية»، وتحويل مساره الآيديولوجي، بينما كان يزداد عدد المنشقّين عنه من رفاق المرحلة الأولى ويزداد كثيراً نفوذ زوجته روزاريو، التي كان يرى فيها كثيرون صاحبة القرارات الأساسية في إدارة شؤون الحزب وتوزيع المناصب الحسّاسة فيه.
- 2006: استعادة الرئاسة
في عام 2006 ترشّح دانييل أورتيغا مرة أخرى للانتخابات الرئاسية تحت شعارات مختلفة كلّياً عن البرنامج الأساسي لـ«الجبهة الساندينية»، داعياً إلى السلم والتضامن مع التركيز على الشعارات المسيحية الإنجيلية التي تؤمن بها زوجته. وتعهّد باحترام الملكية الخاصة والحريات المدنية واتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة والتعاون مع إدارة جورج بوش (الأب). وفعلاً، فاز أورتيغا في تلك الانتخابات بنسبة ضئيلة من الأصوات لم تتجاوز 36%، مستفيداً من الانقسام الحاد في صفوف خصومه. وبعدها بدأ يرسّخ سيطرته الشخصية المباشرة على كل مفاصل السلطات، ومن ثمّ يفوز في الانتخابات المتتالية التي خاضها إلى اليوم، بعدما ألغى المواد الدستورية التي كانت تمنعه من تولّي الرئاسة لأكثر من ولايتين متتاليتين.
في انتخابات عام 2016 حقّق أورتيغا أفضل نتائجه، إذ حصل على 72.5% من الأصوات، وباشر بإقصاء جميع منافسيه من مواقع النفوذ، والسلطة وتصفية معارضيه أو زجّهم في السجن أو دفع الكثير منهم إلى المنفى. أثار هذا النهج موجات متتالية من الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء البلاد، واجهها النظام بقمع وحشي قدّرت منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أنه أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 550 شخصاً في عام 2018، فضلاً عن آلاف المفقودين الذين لا يعرف شيئاً عن مصيرهم إلى اليوم. ومع اتّساع دائرة الاحتجاجات والإدانات الإقليمية والدولية لممارسات النظام، اتّسعت دائرة القمع لتشمل وسائل الإعلام المناهضة لأورتيغا واعتقال خصومه السياسيين وتعذيبهم في السجون.
- الرفاق... الضحايا
ومن بين الشخصيات البارزة التي انشقّت عن أورتيغا بسبب ممارساته القمعية، رفيق دربه الثوري الأوّل المفكّر والكاتب المعروف سرخيو راميريز الذي اختار طريق المنفى إلى إسبانيا، حيث كتب يقول: «إن الرجل الذي ناضل سنوات بكل قواه من أجل إسقاط الطاغية الذي كان يجسّد الاستبداد... الذي كان يهيمن على نيكاراغوا منذ عام 1937 أصبح اليوم نسخة مشوّهة عنه. إن دانييل أورتيغا الذي قاد حركة ناصعة ونقيّة لتحرير بلاده من الظلم، يغرق اليوم في وحل التجربة التي تولّدها النظرة إلى العالم من موقع السلطة فحسب، وليس من موقع المعارضة».
- ترمب ونيكاراغوا
في نوفمبر 2018 وقّع الرئيس الأميركي –يومذاك- دونالد ترمب أمراً تنفيذيّاً يعلن نيكاراغوا «تهديداً استثنائياً وغير مألوف للأمن القومي الأميركي». ثمّ أقر قانوناً يقيّد الاستثمارات الأميركية في نيكاراغوا وحصولها على القروض من المؤسسات المالية الدولية. وفي موازاة ذلك أعلنت الولايات المتحدة، إلى جانب عدد من البلدان التي كانت تدعم أحزاب المعارضة في نيكاراغوا، مجموعة من العقوبات الاقتصادية والسياسية ضد سلطتها، وأمهلت حكومة أورتيغا حتى منتصف عام 2019 للتوصل إلى اتفاق مع المعارضة والإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولكن بعدما أطلق النظام سراح العشرات من المعارضين المعتقلين، أبقت الولايات المتحدة وكندا العقوبات التي كانت قد فرضتها على نيكاراغوا، بسبب رفض أورتيغا تقديم موعد الانتخابات العامة كما كانت تطالب الأحزاب المعارضة.
على أثر مهزلة هذه الانتخابات الأخيرة التي «تنافس» فيها أورتيغا مع سبعة مرشحين اختارهم بنفسه بعدما زجّ بجميع المرشّحين المعارضين في السجن، وبعد ردود الفعل الشديدة التي صدرت عن الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، لم يعد أمام أورتيغا سوى الهروب إلى الأمام في وجه الحصار الذي يضيق حول نظامه. وللعلم، بين الواقفين ضده اليوم عدد من مناصريه وحلفائه الذين استمرُّوا إلى جانبه حتى المرحلة الأخيرة. ومن بين هؤلاء شقيقه الأكبر أومبرتو الذي كان أول قائد للجيش بعد انتصار الثورة، والذي دعا من منفاه في كوستاريكا إلى «إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتصويب مسار الحكم قبل فوات الأوان».
هذا، وتفيد التقارير الدبلوماسية الواردة من نيكاراغوا بأن دانييل أورتيغا «يعيش حالة انفصال شبه تام عن واقع البلاد، ولا يقْدم على أي خطوة إلّا بتوجيه من زوجته روزاريو والدائرة الضيّقة المحيطة بها، والتي تسيطر عليها شخصيات إنجيلية متطرفة تربطها مصالح مالية واقتصادية نَمَت وتشعّبت في السنوات الأخيرة، وباتت تشكّل المركز الفعلي للقرار في نيكاراغوا».
وبالتالي، يتوقع مراقبون أن تشهد نيكاراغوا خلال المرحلة المقبلة موجة من الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية الناجمة عن تدهور الوضع المعيشي والاجتماعي وانسداد الأفق في وجه الحلول السياسية. وتخشى أوساط دبلوماسية من حملات اعتقال وقمع جديدة قد تدفع البلاد إلى دوّامة من المواجهات العنيفة، لا سيما أن نظام أورتيغا يُحكم سيطرته شبه الكاملة على الأجهزة الأمنية والجيش و«لجان الدفاع الشعبية» التي شكّلها على غرار لجان الدفاع عن الثورة في كوبا وفنزويلا، والتي سبق أن أطلق يدها لقمع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية والطلابية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.